راهبة الأدب.. عشقها الأدباء وعاشت للإبداع!

مي زيادة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

صبرى الموجى

 سُئلت يوما عمن أثَّر في مجرى حياتها ككاتبة، فأجابتْ: القرآن الكريم، وجمال الطبيعة، والأحداث الوطنية..هي أديبةُ الشرق، وراهبة الأدب، ومعشوقةُ أساطينه ماري إلياس زيادة، المعروفة بـ(مي زيادة).

فلسطينيةُ المولد، لبنانيةُ الجنس، قاهريةُ الهوي والمقام والوفاة.. في مدينة “الناصرة” بفلسطين، مقر بشارةِ مريم العذراء بالسيد المسيح ولدتْ 1896م، بعدما خرج أبوها إلياس زيادة لبنانيُ الأصل من “كسروان” بلبنان إلى الناصرة بفلسطين، وهناك تعرف على سيدة مُتعلمة وتزوجها، فأنجبت له ” مريم”، أو “ماري” والتي عُرفت بـ”مى”، وأنجبت ابنا آخر تُوفى صغيرا، ففازت مي وحدها بالحب والرعاية.

انتقلت مي إلى “عينطورة ” بجبل لبنان؛ لتتلقى دروسها الأولى، فراعها جمالُ لبنان الخلاب، والذي تقول عنه: (في مشاهد لبنان الجميلة.. جنانٌ مُزدانة بمشاهد الطبيعة الضاحكة، جبالٌ مُشرقة بجلالها على البحر المُنبسط، عند قدم هاتيك الآكام الوادعة، كنتُ أُسرحُ الطرف بين عشية وضحاها، وأنا طفلةٌ صغيرة، فكانت تُوحى إلى نفسي معاني الجمال، فتفيضُ بها شعرا أُسطره في أوقات الفراغ، وأثناء الدروس التي كنت أشغل عنها بنظم الشعر وتدوينه، حتى اجتمع لي منه مجموعةٌ باللغة الفرنسية، سميتها “أزهار الحلم” ونشرتها في مصر بعد أن نزلتُ إليها مع والدى بإمضاء “إيزيس كوبيا”).

بحثٌ من المهد إلي اللحد

  في حضن مصر الدافئ أتقنتْ أديبةُ الشرق أكثرَ من لغة، كان أعمقَها الفرنسية، التي ما انفكت تكتبُ بها، فنصحها المحيطون بدراسة العربية الفصحى، فأخذت تقرأ بعناية ما يكتُبه كبارُ الكتاب في جريدة “المحروسة” التي أصدرها والدها آنذاك، ومن معين هؤلاء الكتاب المتدفق، عبّت ” مي” حتى الثُمالة، فتكونت لديها ملكةٌ لغوية شجعتها على ترجمة الرواية الفرنسية ” رجوع الموجة” فكانت أول كتاب تنشره بالعربية.

أسهمت اللغاتُ العديدة التي أتقنتها “مي” في تشكيل مخزونها الثقافي والفكري، والذى تجلى في مقالاتها الأدبية والنقدية والاجتماعية التي نُشرت بكبريات الصحف آنذاك، وامتازت بأسلوبها المشرق، ومعانيها الشاعرية الجميلة، وأفكارٍها المنطقية الرصينة، التي اكتسبتها من قراءة القرآن، والوقوف علي صور إعجازه البلاغي، حيث أوصاها أستاذ الجيل “لطفى السيد” بتلاوته لتكتسبَ من فصاحة أسلوبه وبلاغة لفظه.

كان لـ” مي” صالون أدبى ينعقد كل ثلاثاء برئاسة إسماعيل صبري باشا، فكان بحق رافدا من روافد مصر الثقافية بما يثيره من قضايا أدبية يطرحها رواده أمثال: (شوقي، وحافظ، والرافعي، والعقاد، وطه حسين، وأنطوان الجميل، وغيرهم).

لم تخمد جذوة ” مي” المتقدة للمعرفة فسرعان ما التحقتْ بالجامعة المصرية أثناء الحرب العالمية الأولى، فدرستْ تاريخ الفلسفة، وعلم الأخلاق، وتاريخ آداب العرب، وتاريخ الدول الإسلامية، حتى انتهت الحرب، وقامت الحركةُ الوطنية المصرية، التي خُلقت معها ” مي” خلقا أدبيا جديدا، فاشتعلتْ يقظتُها الأدبية، وهو ما اتضح في مقالاتها الخالدة، التي أبَّنت فيها باحثة البادية ” ملك حفني ناصف” وجمعتها في كتاب ” باحثة البادية”، وهو أول كتاب بالعربية كتبته عربيةٌ عن كاتبة عربية.

أحبَّها الكل.. فمن أحبتْ؟

كانت “مي” أشبه بفراشة طليقة، أو زهرة مُتفتحة تفوحُ عطرا على رواد مجلسها العامر، وكان لعذوبة منطقها، ورُضاب حديثها، أكبرُ الأثر في تعلُق القلوب بها، فأحبها الجميع، ومن أخفى حبه، فضحته رسائلُه، في خزانة الأدب، وحرصُه على ارتياد مجالسها، وتبادل أطراف الحديث معها.. فالكل أحب ” مي” ولكنها أحبت من؟

لم يتعلق قلبُها بأحد مثلما تعلق بجبران خليل جبران، الذى أحبته حُبا زلزل كيانها، رغم أنها لم تلتقِه ولو لمرة واحدة، بل امتد حبلُ الود بينهما عبر مُراسلات دامت أكثر من 20 سنة، وحملتْ طابع الغرام العفيف، الذي ارتفع عن لذة الجسد، إلى تلاقح الأرواح، فكان غراما روحيا خالصا، فلم تسمح لنفسها أن تغازل أديبا، أو شابا غزلا صريحا يُروَى عنها، فكانت فتاة مُحافِظة تنأى الخروج عن العادات والتقاليد المعروفة فى زمانها، وتأبى أن تجهر بحبها.

أحزانٌ تتري

يبدو من كتاباتها الأدبية، نقلا عن ” دمعة على المُغرد الصامت، و” ابتسامات ودموع” أن ظروف حياتها التي بدأتها وحيدة، كانت السبب الرئيسي في حالة الحزن التي خيَّمت عليها، ولازمتها حتى فارقت دنيانا، فلم تهنأ “مي” بإخوة يؤنسون وحدتها، فصمت أخوها الوحيد بالموت، وصمت بموته طائرُها المغرد، إلا من نغمِ الشجن والأحزان، التي زادت بفقد أبيها ثم أمها، وبقت وحيدة بلا أنيس ولا جليس يسليها صباح مساء.

وانطفأت مي

كان لصقيع الوَحدة وبرودة الفراغ أكبرُ الأثر في حالة الحزن التي لازمت ” مي”، فحاولت أن تتغلب عليها، بأن تصبَ لواعج النفس، وكلم الفؤاد على الورق، ولكن هيهات أن يزول الحزن، فقد كانت كتاباتها عن الدموع والابتسامات مُحركا للنار تحت الرماد، فساء مِزاجها، واختفتْ عن صالونها، بعدما تدهورت أعصابُها، فشدّت رحالها إلى أهلها بلبنان فأساءوا  وفادتها، وأودعوها مستشفى نفسيا تضاعفت فيه علتُها، فنقلوها إلى مصحة خاصة بعد أن هاجمتهم الصحف، ظلت بها 9 أشهر، ثم عادت إلى مصر، ومنها إلى إنجلترا، التي رحلت إليها أملا في الاستشفاء، لكن نار الجوي كادت تحرقها فزادت علتُها، فنكصت راجعة إلى مصر، ثم سافرت إلى إيطاليا، وانشغلت بدراسة آثار اللغة الإيطالية، عساها تنسى علتها وسوء مزاجها، ولكن أنّى للعليل أن ينسى داء لازمه ؟

ازداد مزاجها تعكُرا، فرجعت إلى مصر، ومنها إلى روما، ثم إلى مصر، حتى استسلمت لأحزانها ومرضها العصبي الذي نُقلت على أثره إلى مستشفى نفسي بالمعادي، أسلمتْ فيه نفسها إلى بارئها عن 55 عاما، وسكن طائرُها عن الصدح، ورغم أنها سطرت أدبا ملأ الدنيا وشغل الناس إلا أن “أديبة الشرق” خرجت وحيدة ولم يتبع جنازتها من أصحابها سوى: لطفى السيد، ومطران، وأنطوان الجميل.      

مقالات من نفس القسم