حاتم عبد الله
إلى روح الأستاذ عادل قنديل
بين أوراق صحف قديمة مبعثرة، أرى مقالا لرئيس تحرير أسبق، مبتسمًا، كما هو معتاد في كل صورنا، نحن المصريين.. جملة “اضحك الصورة تطلع حلوة”، التي اختارها وحيد حامد اسمًا لأحد أفلامه، أمرٌ صريح يأتينا من أي مُصور كنا نقف أمام كاميرته، وقد يكون توجيههم صحيحًا، فالضحكة أو بالأحرى الابتسامة، ترتبط بعض الشيء بالمثال الأفضل في ملامح الوجوه، وتصل إلى ما يشبه الاقتران، بحب الحياة والتصالح معها.
ضحكة رئيس التحرير، تشي بالتطلع والأمل، “كأن الحياة أبد”، ويعرف المحيطون، طول تطلعه لهذا المنصب الأثير لدى معظم الصحفيين، و”الكراسي” زائلة، لكن كرسي صاحبنا لم يثبت حتى اكتمال السنة، فقد صعد إلى المنصب في مرحلة عدم استقرار واهتزاز لكل السُلطات، قلما نشهدها، ولأن “الغربال الجديد له شدة” ولهذا السبب فقط، حرصت السلطة الجديدة وقتها على إزاحته من فوق الكرسي.
(يفتح جهاز الكمبيوتر، الرفيق الأقرب له، منذ توقف فعليًا عن العمل، يفرّق بينهما المرض لفترات، تجاوز بعضها الشهرين.. وبحركة معتادة يدخل على حسابه بـ”فيسبوك”، يكتب “بوست” يحمل نصيحة أبوية، لكنه، كما اعتاد، يُضَمِّنها لَمزًا سياسيًا لاذعًا).
الإخوان جماعة غبية، اكتسب معاوية وصف “الداهية” بقدرته الفذة على احتواء المعادين، بينما هم أساتذة في استعداء المحايدين؛ لماذا خلعوا الرجل وأمثاله؟، هل عزز البدلاء سلطتهم؟ أم قفزوا كغيرهم من السفينة الغارقة؟.
(يكتب “بوست” ثانيًا، منتقدًا الإخوان ومذكرًا بما فعلوه معه؛ تلك الضربة التي كسرته ومكنت منه المرض، أوقفوا تطلعات عُمر وصبر طويل، بقرار متسرع في يوم عصيب: لن أغفر لهم ما حييت.. سأصب عليهم لعناتي بقدر ما أستطيع، حتى لو مجرد بوستات وكومنتات على “التواصل الاجتماعي”).
أُلقِي بكتيبات تنتقد قراراتٍ وأحداثًا قديمة؛ قانون العلاقة بين مالك ومستأجر الأراضي الزراعية، خصخصة مبارك “الخجلى” لشركات القطاع العام.. وأركن جانبًا كتبًا تتحدث عن تاريخ المَلَكية وثورة عرابي ودنشواي وأيام الوفديين والحياة الحزبية والليبرالية وووووو، ثم أركل أخرى عليها أسماء “جان جاك روسو ومنتيسكيو وجون لوك”.
(يتذكر تقرير هيئة المفوضين إلى المحكمة الإدارية العليا، بأحقيته في العودة إلى منصبه، يتحسر على جلسته تلك بالبيت، مع نهمه وشغفه للعمل، بينما ينعم عجائز كثيرون ممن أصابهم ألزهايمر، بنفس مكاتبهم المكيفة.. يهم بكتابة بوست عن المساواة، ثم ينظر إلى وحيده ممدًدا على الكنبة المجاورة مشغولا بالتصفح على هاتفه، يكاد لا يبرح هذه الكنبة، منذ أبعده “صديق!!” عن عمله ظلمًا).
غبار المكتبة في الشقة القديمة خانق، التراب يغطي كل شيء، يتحالف مع الأجواء الحارة على كتمان النَفَس، أكاد أختنق، ألتقط أنفاسي بصعوبة وأبتلع قليلا من الماء البارد، أجلس لحظات قبل أن أُلقِي في سلة المهملات، ببعض الجرائد المؤرشفة.
(يقرأ أمامه على “فيسبوك” بعض الكتابات الخاضعة الخانعة، فيتأفف: “كنت عاشقًا للتمرد، أعرف حدودي جيدًا ولا أتجاوزها، أستطيع دائمًا أن أقول: لست عبدًا ولا تابعًا، أنا موجود، بعناوين تهزم مانشيتات صحف المعارضة، وموضوعات تدور في المساحة الحرجة.. اعتدت التغريد خارج السرب؛ فاحتفظت بالتميز وسط نهقات التهليل”، ثم وضع يده على قلبه يتحسس وجعًا معتادًا، بدأ يسري في صدره).
أجلس على سرير العزوبة، أرتاح بعض الشيء، يبدو أن التعب أكبر من أثر غبار المكتبة المهجورة، إرهاقٌ شديد يسبب ألمًا يدب في جميع أوصال الجسد.
(وجد “بوستات” جذابة، لكنها سياسية، ابتعدَتْ عنها “إيموشَنات” الإعجاب وردود الفعل المختلفة، أبدى بعض الأسى على خوف وجُبن أصدقاء الصفحة، فمعظمهم ينتمون لمهنة الرأي، لكنه ضَحِك، وداعبهم بـ”بوست” يطالب فيه مارك زوكربيرج، بميزة إضافية، تكشف أسماء أصحاب المشاهدات.. الألم تمدد إلى الذراع الأيسر، فأوقف الابتسامة، وبرز في عبوس الوجه).
أُقَلِّبُ في أرشيف الصحيفة، تظهر أسماء لزملاء، طالما حذروني من الرجل “رئيس التحرير زمن التقلبات”، بعضهم كان يجله ويخافه، وآخرون يخشونه أيضًا، وينقمون عليه.
(“ألم القلب هذه المرة مختلف”، بينما تظهر أمامه صفحات أصدقاء، يعرف دواخلهم: “لم أظلم أحدًا منكم، حاولت استيعابكم جميعًا، بعض الشراسة كانت مجرد رد فعل، وبعضها كان لإخافة المجترئين، عانيت كثيرا في حياتي بعد التخرج؛ البداية كانت في العراق، خسرت عملي بسبب رفاق “العيش والملح”، وكادت تتكرر المأساة أكثر من مرة؛ بالإبعاد وبالنقل، وثالثة بالطرد، لكني تجاوزتها جميعًا”).
لم أتواصل معه منذ فترة، اكتفيت بالـ”شات”، شكاواه من ابتلاءات القدر والحياة عديدة، تؤلمني ولا أملك إلا مفردات المواساة؛ التي يكرهها.
(تحامل على نفسه، وبعد عدة “بوستات” مرحة وألعاب تِقَنِية كوميدية، تشبه ألعاب البخت القديمة، نظر مليًا وبفخر وأمل إلى صورة الشهيد محمد صلاح؛ فارسًا فوق حصانه، رفعها في صفحته، ثم تألم بصوتٍ مسموع وهو يضغط على صدره بيديه، سقط مبتسمًا من على كرسيه، سارع ابنه ليحمله، لكنه كان قد أغمض عينيه على نور عظيم).