رأيت الكروان ..
حسام المقدم
الدنيا في السادسة صباحاً.. كل شيء يوحي بحالة من العذرية تناديك لتكون أنت الأول، أول السائرين، أول الناظرين للسماء، أول المستقبلين لنهار طازج. يحدث هذا مع الطبيعيين الذين ناموا وصحوا لينعموا بهذه اللحظة. أما مع حال الذين شهدوا ليلة مع الأرق الأسود، بلا نوم أو غفلة أو حتى حلم يقظة، فلا شك أن عيونهم المتأذية من الضوء الفائر للنهار ستنسحب لبداية نوم مرضي معكوس، وضد هذه الطزاجة التي تنادي الإنسان في هذه اللحظة الرائعة من عمر الدنيا. بالفعل هممتُ لغلق النافذة، والهروب من جلستي فوق المكتب مراقباً بدايات النهار، وأخريات ليلتي المؤرقة. كنت أتأهب لسحب الشيش حين رأيته، ولم أكن أعرف أنه هو إلا حين علت موسيقاه المتدرجة المنغمة من ذلك البيانو السماوي.. أوشكت أن أزعق: رأيت الكروان!
أمامي على سطح الجيران المقابل كان يقف متجمداً، رافعاً رأسه، متسمعاً لشيء ما، تحمله قدمان عاليتان. طائر في منطقة وسطى بين الحمامة واليمامة، أو هو يشبه "فرخة البحر" بشكل ما. له جناحان بنيان، وبطن بيضاء مشربة بعروق بنية. رأسه كبير ظاهر بالقياس إلى حجمه، وليس عليه تاج هدهد أو حتى عرف ديك، رأس أملس على جانبيه عينان جاحظتان تظهران جلياً حين يُميل رأسه ويبحلق متجمداً في الفضاء. الذيل ممدود للوراء، مهمل إلى حد ما إلا ساعة التجلي! وساعة التجلي هذه يشترك فيها الجسد كله، بداية من المنقار القوي الذي يمطه للأمام كدجاجة تشرب، ويفتحه، عدة فتحات متتالية، بأقصى الاتساع كأنه يستغيث. تتجاوب الرقبة باختلاجات مرتشعة، يعاونها الجسد المنتفض، والذيل النابض، لتخرج تلك التدرجات الموسيقية صاعدة درجات متناسقة مرتبة، يتلون معها الصوت ويشف حتى يصل إلى أعلى الجواب، ثم تعود الموسيقى هابطة نفس الدرجات لكن بسرعة لتسكن في عمق هذا الوجود.
جاءني خاطر أن الكروان حين يخرج موسيقاه تلك، فإنه لا يخرجها من صوته، إنها تخرج من كل ذرة في جسده، تماماً كأهل الأوبرا حين تصعد أصواتهم – بالغة النقاء – من أظفارهم مخترقة أجسادهم الشفافة حتى الحناجر الذهبية. هذه السلاسة الطبيعية، ابنة الكون، وراءها جسد يرتعش ويتلفت ويتسمع. هل يعرف الكروان قلق وأرق الإبداع؟
تابعته لخمس عشرة دقيقة واقفاً متسمعاً، متلفتاً، إلى أن جاء كروان آخر ووقف بنفس الهيئة. كان أقل امتلاءً، ليس له استدارة البطن. قدّرت أنه الذكر، وأنه لبى الدعاء من رفيقته المحترقة بالموسيقى من أجله. ماذا نقول عن كائنات تتنادى بالموسيقى؟ إنه الكون العجيب، الذي يرفق بنا كل حين ويمنحنا حبة رمل من صحراء المجهول.
هل كنت أتخيل الكروان بهذا الشكل؟ الآن لن توجد تلك الصورة التي رسمتها له في مخيلتي، كطائر أبيض بجناحين خضراوين في حجم يمامة، ومنقار ذهبي وذيل طاووس. الآن لا يبدو الكروان أكثر من طائر عادي، إلى جواره تكون اليمامة أرق، والحمامة أجمل، والعصفور أكثر رشاقة وبهجة. لكن أي منهم لم تخرج منه موسيقى لها هذا الصفير المتدرج الغريب الذي يفعل في النفس ما لا تفعله أبدع ألوان الموسيقى والفن. يعيش الإنسان ويعيش ولا يعرف أن خياله العملاق في واد، وحكمة الكون في وادٍ آخر، وأن "بشار بن برد" الأعمى رأى ورأى بأذنه التي تعشق قبل العين في كل الأحيان، وأن ليس للإنسان إلا أذنان ولسان واحد، "ومن له أذنان للسمع فليسمع"، كما أن "طه حسين" بصوته الرخيم ما زال يهيم مع كروانه الذي يُرجع صوته في الفضاء الشاهد على "هنادي" ومن هم مثلها في كل الأزمان. غير أن "جارسيا ماركيز" كان غريباً في قصته "ليلة طيور الكروان" حين فقأت تلك الطيور عيون ثلاثة رجال في حانة لمجرد أن أحدهم قلد صوت الكروان!
موسيقى الكروان هي موسيقاي، رغم كل شيء. ستظل تلك النغمات المتصاعدة والمرددة في سمع الكون: "الملك لك لك لك".. ستظل بنثارها وأطيافها نافذة في روح قلقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري