د. وليد الخشاب: وماذا لو كان الفن هلوسة جماعية؟

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 5
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: ياسر عبد الحافظ

من فينا من لم يترك فؤاد المهندس أثرًا عليه؟ لم نكن نعتبر ما يقدمه أعمالًا للإضحاك والتسلية فقط، وإن كان هذا هدفها، لكن ذلك البطل الذى لا يتمتع بمواصفات جسدية خارقة، ولا وسامة لافتة، ومصاب بقصر نظر، أتى ليقلب المعايير المعهودة ل السينما المصرية، ليصبح مزيجًا فريدًا بين عمالقة زمنه، ويمنحه جمهوره الواسع مكانة خاصة استحقها بعبقريته الفنية بالطبع، إنما فوق ذلك لأنه يشبه مشجعيه، الأحلام نفسها والظروف المعاكسة دومًا والضحك منها فى إطار رحلة للارتقاء والتغلب على الضعف ليس فيها مستحيل لأنها مصنوعة من السخرية ضمن إطار القاعدة الذهبية: إن لم ننجح فقد ضحكنا!
التفت د. وليد الخشاب إلى ذلك كله وأكثر منه فى كتابه «مهندس البهجة» وتحت عنوان فرعى «فؤاد المهندس ولا وعى السينما» وهو العنوان الذى يفتح من خلاله وبجرأة بابًا جديدًا فى النقد السينمائى، فما أنجزه فى عمله قد يكون معهودًا فى لغات أخرى، لكن بالنسبة للغة العربية، وثقافتها، وسينماها، يبدو مفاجئًا ومثيرًا لعشرات من الأسئلة، وهذا فى الحقيقة ما كان مدهشًا لى فيما أتابع استقبال الكتاب، فغالبية الآراء والنقاشات لم تتجاوز فكرة الاحتفاء ببطلها القديم الذى ينصفه العمل بكتابة رشيقة تجمع ما بين مدارس مختلفة، فيها من الأكاديمى والنقد والتحليل، ليقدم قراءة مغايرة لتلك التى قولبت المهندس فى «الخفة» و«التفاهة».
وليد الخشاب، أستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، كندا. إضافة لذلك فهو شاعر، وله مساهمات ودراسات فى مجالات عدة، من بينها النقد الأدبى، التصوف من خلال علاقته بالسياسة وأبعاده فى الفن. وقضايا الهوية والثقافة والحداثه.

مستخدمًا خبراته فى تلك المجالات المختلفة، وعبر تواجده فى ثقافتين فاعلًا وممارسًا، فى مصر وكندا يعيد الخشاب رسم بورتريه فؤاد المهندس، ومع أنه فى حوارى معه يرفض فكرة البورتريه هذه إلا أننى لم أتمكن من التغاضى عنها لأنها كانت واحدة من الأفكار الأساسية التى خرجت بها من عمله، وهو ما أجبرنى فقط ليس على العودة لمشاهدة نماذج من الأعمال التى تناولها الكتاب بل والرجوع إلى لقاءات للمهندس وتصريحات له بحثًا عن «زلة لسان» التعبير الذى يستخدمه الخشاب فى كتابه) تقودنى إلى شخصية أخرى كامنة فى أعماق تلك التى نعرفها جميعًا، وكأنه فؤاد المهندس بشكل ما الأستاذ مختار فى مسلسل «عيون» الذى يخفى داخله شخصية أخرى تستيقظ عند نومه!يقدم الخشاب تأويلًا جريئًا لأفلام المهندس مستندًا على اللا وعى، ويصل به التأويل إلى أن «أفلام المهندس أجرأ الاعترافات اللا واعية فى تاريخ الثقافة العربية» وفق هذا لن يعود المهندس هو الممثل المدعوم من المؤسسة الرسمية لتسلية الجماهير، أو للإلهاء وفق الوصف المندثر فى أدبيات اليسار، لا، المهندس وفق عمل وليد الخشاب «تجسيد وتفصيل لما يرقد فى لا وعى المجتمع المصرى» ووفق هذا فإننا فى الكتاب نقرأ على سبيل المثال تحليلًا يربط بين لعبة القرين عند المهندس واللعبة ذاتها على مستوى إدارة السلطة بين عبدالناصر وعامر. وأن «أفلام المهندس تجسيد وتفصيل لما يرقد فى لا وعى المجتمع المصرى».ليس «مهندس البهجة» عملًا فى النقد السينمائى بل بحثا مختلفا حول علاقة الفن بالمجتمع والسياسة من خلال دراسة أعمال لها شهرتها الواسعة لكنه يقلب ما استقر حولها انطلاقًا من أن «الكوميديا مسألة جادة» وهو أمر مفهوم بالتأكيد، الكثير مما هو مضمر ولا يمكن التصريح به نقوله من خلال الضحك والفكاهة، لكن الجديد هنا أن الخشاب يمضى فى عمله إلى أبعاد لا أظنها مسبوقة، كما لا أظن أنها حظت بالمناقشة التى تستحقها، لأنه وفق القاعدة التى يرسيها «زلات اللسان الكوميدية» وباستنطاق لا وعى الأعمال يمكن القول إن مجمل تاريخ الكوميديا المصرية لم تتم قراءته على وجهه الصحيح لكن القراءة الجديدة المقترحة لن تتوقف عند حدود استخدام المناهج المعهودة للنقد السينمائى بل تتخطاها لتدمج مدارس أخرى على رأسها التحليل النفسى وصولًا إلى نتائج قد لا تخطر على البال قبل الشروع فى التحليلات!

بشكل شخصى ومع إعجابى بعمل د. وليد الخشاب وتقديرى للجهد والرؤية المختلفة، لكن بعض النتائج التى وصل إليها أربكتنى لم أتفق معها تمامًا لكنها شجعتنى على التفكير وإعادة النظر فيما أعرف عن المهندس وأعماله، إنما ظلت لدى أسئلة ضرورية وبناء عليها جاء حوارى مع د . وليد الخشاب محاولة لتفسير بعض ما قدمه فى كتابة وإجابة عن الأسئلة التى يثيرها.

يدمج كتاب “مهندس البهجة” مدارس متنوعة: البحث الأكاديمي، التحليل الثقافي، النقد السينمائي، التحليل السياسي.. ويبدو أن التداخل كان مقصودا لإنتاج عمل يمكن قراءته بسهولة مع توافر البعد الأكاديمي.. هل تحدثنا عن المنهج الذي مضى عليه عملك في الكتاب؟
المنهج مقاربة والحقل المعرفي موضوع للبحث. فالتحليل الثقافي -أو ما يسمى اليوم بالدراسات الثقافية، أو النقد الثقافي، هو حقل معرفي موضوعه المنتجات الثقافية المختلفة من “رفيعة” و “جماهيرية”، ويتميز عن غيره من الحقول المعرفية بابتعاده عن ثنائية: ثقافة رفيعة من إنتاج الصفوة، مقابل ثقافة جماهيرية، واسعة الانتشار للاستهلاك السريع. كتاب “مهندس البهجة. فؤاد المهندس ولاوعي السينما” ينتمي لحقل الدراسات الثقافية لأنه يتناول منتجاً ثقافياً يتراوح تقديره -عند الناس عموماً والأكاديميين خصوصاً- بين كونه جزءًا من إنتاج الثقافة الدارجة الجماهيرية الخفيفة وبين كونه فناً راقياً معقداً ورفيعاً. والمنتج المقصود هنا هو فن الكوميديا، أو الفكاهة بشكل عام، ومنتجات فؤاد المهندس من اسكتشات إذاعية وأعمال مسرحية أفلام سينمائية ومسلسلات إذاعية وتلفزيونية بشكل خاص.
أما المنهج الذي أتبعه في ذلك الكتاب فهو منهج بيني يمزج بين عدة مناهج: لعل أبرزها هو منهج التحليل النفسي، لكن ليس بالاقتصار على نظريات فرويد، وإنما بتمثل نظريات ومفاهيم أطلقها الفيلسوف الألماني والتر بنيامين، وعدلها وطبقها على السينما نقاد ومبدعون مختلفون، مثل راؤول رويز، لاسيما مفهوم اللاوعي السينمائي، الذي هو تجلٍ لمفهوم بنيامين عن اللاوعي البصري. منطلق هذا المنهج باختصار هو البحث -في الصورة أو في الفيلم- عن عكس ما يقوله ظاهر الصورة (وهو ما يجعل من هذا المنهج صادماً بالنسبة للبعض، إن ارتضوا أن يقبلوا سطح النص أو سطح الفيلم، وهو ما يجعله منهجاً محفزاً لمن يبحث عن تجاوز الظاهر في موضوع بحثه).
أما الإطار المنهجي والمعرفي العام والأشمل في كتاب “مهندس البهجة” فهو المادية التاريخية. أتناول تاريخنا الثقافي وموقع إنتاج فؤاد المهندس منه، اعتماداً على وثائق مادية: تسجيلات أفلام ومسرحيات ومسلسلات، تسجيلات حوارات، وبدون تفسيرها اعتماداً على مفاهيم غير مادية مثل العبقرية والهوية الأزلية، وانطلاقاً من نظرة لتاريخية الظواهر والمنتجات محل الدراسة، وليس باعتبارها كيانات أزلية لا تتغير. كذلك يستدعي المنهج المادي التاريخي ربط الظواهر السياسية التاريخية والاجتماعية الاقتصادية بالإنتاج الثقافي كدوائر متوازية متفاعلة، لا كدوائر تنعكس إحداها في الأخرى.
المنهج هنا إطار لممارسة تحليل الأفلام، وهي ممارسة أقرب إلى الحرفة منها إلى “العلم النظري”. ففي المحصلة النهائية، أرى ما قمت به في “مهندس البهجة” نتاجاً لحرفتي كصنايعي نقد.
الفرضية الأساسية التي يقوم عليها الكتاب تتمثل في اللا وعي الذي يقف خلف إنتاج كوميديا المهندس.. من الضروري أن نتوقف هنا لتفصيل ما الذي تعنيه باللا وعي، لأن هذا المفهوم متضارب في حقول علم النفس وهناك فرضيات تعتبر أنه لا وجود له؟
لا يفترض الكتاب أن هناك لاوعياً يقف خلف إنتاج فنان معين، وإنما يطرح نموذجاً معرفياً يرى أن العمل الفني يحمل تجليات وآثاراً للاوعي جمعي. التصور التقليدي يفترض أن ذات الفنان تنقسم إلى منطقة لاواعية تؤثر في المنطقة الواعية وتؤثر عليها فيما تبدع قريحة الفنان عملاً إبداعيا. أما النموذج الذي أنطلق منه هو نموذج مادي تاريخي يفترض أن العمل الفني هو منتج لا يختلف في جوهره عن أي منتج، وليكن قطعة شوكولاتة خارجة من مصنع للحلويات. ويطرح أن عملية الإنتاج هي عملية صنعة لا إبداع ذات متفردة تجود قريحتها بعمل فني يحمل بصمات مؤلف خاص وتأثيرات عبقرية معينة. وعملية الإنتاج يتخلف عنها منتج يحمل آثار زمن وظروف صناعته مثلما نستطيع معرفة إن كان المصنع يتوجه إلى مستهلك ثري أم فقير، عربي أو غربي، فقط من ملاحظة غلاف قطعة الشوكولاتة التي ينتجها المصنع: هل كتب عليه اسم المنتج بالعربية أم الإنجليزية، هل يقلد الغلاف غلافاً غربياً معروفا، هل ورق الغلاف فاخر أم عادي؟
لو مددنا خط التشبيه حتى آخره لوجدنا أن عنوان مسرحية لفؤاد المهندس، مثل “سيدتي الجميلة” -مثل غلاف الشوكولاتة- يتوجه لمستهلك -أو متفرج- عربي لأن العنوان بالعربية، لكنه يقلد/يقتبس عنوان مسرحية غربية، فهو إذاً يتوسل بقيمة المنتج الثقافي الغربي، وهو يتوجه لجمهور يمكن تقدير مستواه الاقتصادي بحساب قيمة التذكرة لدخول المسرحية، مقارنة بمتوسط الدخول والمرتبات في عصره. ربما لا يكون من السهل أن نحسم إن كانت الإحالة إلى المسرح الغربي -والمسرحية الغنائية “سيدتي الراقية” تحديداً- نابعة من لاوعي يقر بأن الإنتاج الثقافي الغربي “أعلى قيمة” من إنتاجنا الثقافي، أو أنه الأصل وإنتاجنا نحن هو نسخة منه، أو أنها إحالة واعية إلى الغرب تستغل ولع جمهور الخمسينات والستينات بمنتجات ثقافية مستوردة من الغرب، لكن مغلفة بغلاف محلي. التفسيران محتملان، واختيار أحدهما يرجع على تفضيلات وانحيازات مؤلف الكتب، والقارئ ايضاً.
وفي النهاية بدلاً من الاستغراق في مدح عبقرية المهندس كممثل أو عبقرية كمخرج أو عبقرية سمير خفاجي وبهجت قمر كمؤلفين/مقتبسين، يمكننا تأمل تضافر جهود هؤلاء الفنانين الذين يشتركون في صناعة منتج يحمل في آخر المطاف اسم فؤاد المهندس كنجم، أو ك “براند”، باعتبارهم “صنايعية فن” في “مصنع للكوميديا”. فالتركيز هنا على جانب الصنعة الفنية، لا على محاولة اختراع صورة الفنان العبقري. وهذا ما يسهل مثلا دراسة آليات الاقتباس عن المسرح الغربي، التي هي سمة مهمة في إنتاج فؤاد المهندس، بدلا من إغفالها، لأن الاقتباس قد يتناقض مع فكرة الاختراع الأصيل الملازم لتصورنا عن المبدع العبقري.
تأتي اللحظة التأويلية الكبرى في كتابي عندما أنتقل من دراسة “مصنع الكوميديا” إلى تفسير بعض سمات منتجات ذلك المصنع باعتبارها تجسداً لجوانب من اللاوعي الجمعي، أو تطبيقاً لخطاب أيديولوجي سميته “أيديولوجية الفودفيل”. أطروحتي هنا هي أن المنتج الفكاهي الذي قدمه فؤاد المهندس (وآخرون في الخمسينات والستينات) يحمل بصمات خطاب فكري وعقائدي، ربما كان بعضها واعياً وبعضها لا واعٍ، وملخص ذلك الخطاب هو أن الدولة تفتح الأبواب واسعة لدخول الطبقة الوسطى في مقابل الحصول على ولاء هؤلاء المنضمين للطبقة الوسطى. تضمن الدولة توسيع الطبقة الوسطى عن طريق التعليم والتوظيف في مدارس الدولة ومؤسساتها، وتبشر بأن ذلك الدخول يضمن متعاً مادية ولذات ربما تكون “غير شرعية”، ولا تشغل بال الناس بأخلاقيات تقليدية أو دينية، بل تهتم بما سميته: “علمانية مرحة”. وتشجع الدولة فقط أخلاقيات العمل وأخلاقيات الولاء للنظام ولقيم التحرر الوطني. وفي المقابل، تقتضي الدولة الحصول على تأييد مطلق. هذا تصوري لدور الكوميديا في خطاب الدولة في المرحلة الناصرية: خطاب حامل لأيديولوجية الفودفيل. ورأيي أن أعمال فؤاد المهندس في الستينات والسبعينات كانت خير تمثيل لهذه العقيدة الفكرية، وإن كانت الملاحظة تنسحب على الإنتاج الثقافي الكوميدي كله.
بخلاف النكتة السياسية التي يتم قبول أن وراءها الكثير من المعاني المضمرة خلفها وبالتالي تحكم اللا وعي بها إلا أننا عندما نتصدى لعمل جماعي مثل السينما نعي أنه عمل جماعي وعليه بداهة تتراجع مساحات اللا وعي الفردي لصالح الوعي الواقعي والفني. كيف نخرج من هذا المأزق في رؤيتك لأفلام المهندس إلا إن اعتبرناها هلوسة جماعية؟
وماذا يضير الفن إن اعتبرناه هلوسة جماعية 😊؟ وماذا يضيرنا لو اعتبرنا أن غرام الملايين بنجم إنتاجه الفني ضحل (مثل محمد رمضان، على سبيل المثال) هو نوع من الهلوسة الجماعية؟ أو لو اعتبرنا أن تسليم الجماهير قيادها لفرد واحد منذ 1956 حتى 1967 هو عصاب جماعي؟ كل تلك قراءات مشروعة وإن لم تكن بالضرورة تجسداً مطلقاً ووحيداً للحقيقة.
لكن الواقع أن عملية الصناعة تتم باقتراح من أحد الصناع. مثلاً، شخصية فرافيرو في فيلم “العتبة جزاز”، لنفترض أن المؤلف هو الذي اقترحها. لكننا نراها في الفيلم لأن المخرج والبطل والمنتج قد وافقوا على ظهور تلك الشخصية. فلا يعني وجودها وتفسيرها على أنها معادل للزعيم، ولكن بمحاكاة ساخرة، أن جميع الصناع المشاركين في الفيلم قد أصيبوا بهلوسة جماعية وتصورا فرافيرو كمعادل لناصر. وإنما دلالة هذا الطرح هو أن اتفاق فريق صناع الفيلم أو أصحاب القرار الحاسم في فريق العمل قد يصادف مزاجاً عاماً في المجتمع، أو قد يفصح عن هاجس يشغل الناس في المجتمع، دون أن يجرؤوا بالضرورة على تفصيله والتصريح به. لا أظن أن جميع العاملين بفيلم “العتبة جزاز” كانو يقصدون أن فرافيرو محاكاة ساخرة لناصر، ولو وعوا هذا التفسير لتجنبوا الشخصية تماماً. لكن بعد أن ظهر الفيلم، وبعد أن نقرأه في سياق ما بعد هزيمة 1967، وانهيار صورة البطل العربي الخارق حامي حمى الأمة، نجد وجاهة في افتراض توازٍ بين صورة البطل الخارق المضحك وبين صورة القائد العربي القادر على كل شيء. وبما أن هذا التوازي كان على الأرجح غير مقصود من صناع الفيلم، يصبح وجيهاً أن نعتبر فرافيرو تعبيراً لاواعياً عن السخرية من صورة البطل الخارق في الفن وفي الحياة.
في مفهوم اللا وعي الفني تنقسم التحليلات إلى شقين إما أن الفنان يترك بشكل واع تمام لا وعيه يقوده إلى المنتج، أو أن اللا وعي الفني هنا بدائي وفطري لم يتم التعرف عليه ولا ترويضه… تحت أي الفرضيتين يندرج فؤاد المهندس ولا وعي أعماله؟
اللاوعي متحرر دائماً من القوانين ومن الاعتبارات الاجتماعية أو الأخلاقية، وبهذا المعنى هو دائما قريب من فكرة البدائية، أي أنه خزانة الرغبات والغرائز قبل أن “تهذبها” وتقمعها اعتبارات الثقافة و”التحضر” والضغوط الاجتماعية. اللاوعي إذاً -لو تصورناه في حالة لا حركة- هو خزانة افتراضية لكل ما هو “ضد القانون” أو ضد “المقبول اجتماعياً أو سياسياً. واللاوعي -إذا تصورناه في حالة حركة- هو طاقة شوق ورغبة ونزوع إلى الحياة، كثيراً ما تكون متحررة من القيود الأخلاقية أو السياسية. وهذان المعنيان هما الإطار المفهومي الذي ألجأ إليه في تحليلاتي لأعمال فؤاد المهندس من زاوية اللاوعي. اللاوعي طاقة لا ترتبط بالضرورة بذات منفردة، فهي لا ترتبط مثلاً بلاوعي فؤاد المهندس بالضرورة، بل قد تكون طاقة تسري في المجتمع، في أجساد عديدة وربما لا متناهية العدد. فعندما أطرح أن شخصية “مستر أكس” تمثل لاوعي شخصية “مفتاح” في فيلم “أخطر رجل في العالم”، يمكن أن نفهم تلك الفرضية على أن ذات “مفتاح” الطيبة تتوق سراً لأن تكون مباشرة وعنيفة في ممارستها للحب، مثلما يفعل “مستر أكس” مع السيدات. لكن عندما أطرح فرضية أن ازدواج عالم الفيلم بين أكس ومفتاح يوازي ازدواج المجتمع بين خطاب التحرر وممارسة كبت الحريات، وأن الإلحاح على الازدواج في أفلام المهندس تعبير لاواعٍ عن تأزم الآلاف من الناس بسبب الازدواجية في المجال العام، مفهومي للاوعي هنا هو مفهوم جمعي.
من بين مقاصد الكتاب الفرعية تقديمه شخصية مختلفة للمهندس بخلاف كونه الكوميديان الأشهر وفنان الدولة في عهدي ناصر والسادات، هنا نحن ملامح بورتريه مغاير لفؤاد المهندس لكنه غير مكتمل.. هنا وكأننا إزاء معارض قمع توجهاته لكنها كانت أقوى منه للحد الذي كانت تخرج دونا عنه.. أم لعلها كانت رسائل خفية منه! لأي قراءة تنحاز؟
لا أرى فؤاد المهندس معارضاً للنظام لا في الستينات ولا في السبعينات ولا فيما بعدهما، بل هو جزء من النظام أيا كان شكله، حتى إنني قلت في كتابي إن فؤاد المهندس يمثل الجناح الكوميدي لدولة التحرر الوطني، مثلما هناك الجناح الجاد لتلك الدولة، أو جناحها اليميني وجناحها اليساري. لكنني أرى أن أحد ملامح تميز فؤاد المهندس هو أنه ليس مجرد “بوق” للنظام وأنه ليس مجرد مضحك القصر. ولا أظن المهندس أو أفراد فريق العمل كانوا يبعثون برسائل خفية لنقد النظام، بل أعتقد أنهم كانوا على وعي بمساحات الحرية المتاحة ويفهمون أية حدود يلتزمون وأية مخاطرات محسوبة يغامرون بها، فيداعبون النظام في إطار سعة صدره، لكن لا يسخرون منه، لأنهم من المخلصين له.
لم يهدف الكتاب لتقديم بورتريه لفؤاد المهندس ولا يوجد بورتريه كامل لأي فنان، فرسم مسيرة نصف قرن -هي زمن مسيرة المهندس الفنية- بشكل كامل، معناه كتابة عدد من الصفحات تستغرق قراءتها خمسين عاما. يشعر القارئ أن صورة معينة لهذا الفنان أو ذاك قد اكتملت، عندما يتصور أن الدراسة قد أحاطت بما يتصوره أساسيا أو مميزا في شخصية الفنان، أو بما يعتقد أنه بصمة ذلك الفنان. في كتاب “مهندس البهجة” محاولة لتجاوز القراءات المألوفة لمنجز المهندس، لكنه ليس سيرة للفنان. الكتاب تأمل في دور فؤاد المهندس في تاريخنا الثقافي وتمثيله لتاريخ الطبقة الوسطى المصرية وللخطابات السائدة في تلك الطبقة. ويركز الكتاب على الدلالات السياسية والرمزية لأفلامه ومسرحياته ومسلسلاته الإذاعية والتلفزيونية في فترة نجوميته الكبرى في الستينات والسبعينات.
وإن مضيت في مشروع لتتم الجزء الناقص من بورتريه شخصية المهندس، على أي صورة ستخرج شخصيته من تحت يديك؟
ليس على صانع كتاب عن فنان أن يقدم بورتريه لهذا الفنان، ولا يوجد شيء اسمه بورتريه كامل لأي وجه في العالم. ربما نطالب كاتب سيرة فنان أن يقدم صورة شاملة عنه، لكن “مهندس البهجة” ليس سيرة فؤاد المهندس. وعندما نقدم صورة ما لفنان أو لشخصية تاريخية، فلابد أننا نركز على ملامح ما ونغفل ملامح أخرى. كتاب “مهندس البهجة” يتناول أربعة محاور: 1) دور المهندس في التاريخ الثقافي وبالتحديد في تاريخ إنتاج الفكاهة؛ 2) توازي طغيان فكرة الازدواجية في أفلام المهندس مع انتشار ازدواجيات كثيرة في المجتمع؛ 3) تلمس البوح بمكبوتات معينة في المجتمع الناصري من خلال الصورة في أفلام المهندس؛ 4) غلبة الاقتباس عن الغرب على أعمال المهندس. يمكن للقارئ إذا أشبعته هذه المداخل وأطروحاتها أن يرى فيها صورة شاملة (لا كاملة)، ويمكن أن يراها تفتقد إلى عناصر أخرى، وهذا طبيعي، لأن فناناً بقامة فؤاد المهندس وإنتاجاً بحجم إنتاجه يحتاج عشرة كتب لتفيه حقه.
لكن إن مددنا منطقي على استقامته، فربما شرعت لمشروعي القادم في بحث علاقة أدوار المهندس في المسرح والسينما بالظروف التاريخية في عصر ما بعد الانفتاح، أو فترة حكم الرئيس مبارك، مثلما ركز “مهندس البهجة” على التفاعل بين أعمال المهندس والعصر الناصري. وربما خصصت مشروعاً لدراسة أدوار المهندس قبل أن يصل إلى النجومية مع “اعترافات زوج” و “أنا وهو وهي”. تناولت هاتين القضيتين في كتابي “مهندس البهجة” لكنهما تستحقان أن يفرد لكل منهما كتابٌ مستقل.
أعرف أنه لاعتبارات الموازنة بين البحث الأكاديمي وضرورات النشر للعامة خرج الكتاب خلوا من الإشارة لمراجع ما في هذا المجال النقد السينمائي التحليلي النفسي قد تود أن تحدثنا عن هذا المجال خاصة مع تشبكيك له مع واقع السياسة والاجتماع؟
من يقرأ كتاب “مهندس البهجة” يجد مجموعة من المراجع مذكورة في الهوامش (حوالي سبعة، منها دراستان لي)، وإحالات في المتن إلى نظريات مؤلفين أساس مثل فرويد ونيتشه، وهذا عدد قليل بالنسبة لكتاب من 225 صفحة، إن قيمناه بمعيار الكتب الأكاديمية. لكن “مهندس البهجة” ليس مصمما ككتاب أكاديمي يتوجه إلى متخصصين، وإنما هو كتاب يحاول أن يقدم محتوى من العيار الثقيل وهو موجه للمتعلم العام، غير المتخصص. لذلك لا يزدحم الكتاب بالهوامش وقوائم المراجع، ويبتعد قدر الإمكان عن اللغة المتخصصة وعن المصطلحات غير المفهومة إلا لمحترفي النقد الفني أو الثقافي، ولا يستخدم مصطلحات غربية غير مألوفة.
ومع ذلك ففي الصفحات الأولى من الكتاب استعراض موجز للمنهج يكفي غير المتخصص كمدخل، مثل توضيحي لأنني لا أستخدم فكرة الفن كانعكاس لواقع وإنما فكرة التوازي بين دوائر الإنتاج الاجتماعي والثقافي. أعني -على سبيل المثال- أنني أرى أن الازدواج والانفصام الشائع في أفلام فؤاد المهندس بين شخصية طيبة وقرينها الشرير، ليس انعكاساً لانقسام الدولة بين مؤيدي الزعيمين الرئيسيين في النظام الناصري، ناصر وعامر، وإنما هو مواز لعديد من الازدواجيات في المجتمع، بين الحداثة ومعارضيها، وبين خطاب التحرر وسياسات القمع، إلخ. هذا نقاش في صميم النظرية الماركسية للنقد الثقافي وفي قلب السجالات في حقل الدراسات المعرفية. لكني أعرض خلاصته للقارئ العام بدلا من أن أصدعه بمدخل نظري يناقش المساهمات النظرية لجرامشي وأدورنو وألتوسير وويليامز وإيجلتون، وهي المناقشة المعتادة التي يصل منها الباحث في الدراسات الثقافية إلى موقف حول علاقة المجتمع بالإنتاج الثقافي.
بالمثل، لا أشير لمراجع في الدراسات السينمائية. لكن من يقرأ تحليلاتي للأفلام ير كيف أحلل الأفلام انطلاقاً من ملاحظة الكادر الواحد، والوحدة السردية، والمونتاج، بالإضافة إلى تحليل القصة في سياقها التاريخي وإلى مقاربة الفيلم ككل من منظور نظرية الأنواع السينمائية. لكنني لا أفصل هذا المنهج لأن الغرض من الكتاب ليس تعليم الدارسين كيف يحللون فيلماً، بل أن يصاحبني القارئ في رحلتي مع الفيلم.
ما ركزت عليه المراجع هو مفهوم اللاوعي البصري عند بنيامين وتحوله إلى مفهوم اللاوعي السينمائي عند منظرين سينمائيين مثل راؤول رويز، لأن هذا المفهوم ليس مألوفاً في عالمنا العربي. حتى كتاباتي أنا التي تستلهم بنيامين في تحليل أفلام مصرية بهذا المنظور هي كتابات منشورة بالفرنسية. لهذا أردت أن تتاح للقارئ فرصة التعمق في القراءات حول الموضوع إن شاء. وعلى كل حال، فالأيام هي التي سوف تنبئنا إن كان كتاب “مهندس البهجة” نفسه سوف يتحول إلى مرجع، أم ستتجاوزه الدراسات الثقافية.
كيف يمكننا التفرقة بين السينما الرمزية وبين اللا وعي السينمائي؟ بين فنان يريد أن يقول شيئا وهربا من الرقابة يقوله رمزا وبين آخر لا يسعى لأي صدام لكن المعاني تخرج دونا عن إرادته. وهل لهذا التفرقة من ضرورة؟
هذا سؤال هام في رأيي: هل فريق العمل المحيط بفؤاد المهندس مثلاً كان يقصد استخدام رموز معينة في أفلامه ليوجه بعض الانتقادات للنظام، أم كانت هناك إشارات تصدر عن ذلك الفريق دون إرادة واعية؟ هل كان الفريق يقصد السخرية من عبد الناصر عندما أطلق عنوان مسلسل ثم فيلم “شنبو في المصيدة” ؟ هناك روايات يتم تناقلها عن رفض المسئولين لذلك العنوان خوفاً من تفسيره على أنه إشارة لناصر بعد أن وقع في المصيدة التي أدت إلى هزيمة 1967 والفيلم قد أنتج بعد النكسة مباشرة. لا يمكن أن نعرف النوايا، حتى لو صرح صناع الفيلم بأنهم كانوا يقصدون أو -على العكس- لو قالوا إنهم لم يكونوا يقصدون إسقاطاً على الزعيم. الأمر راجع للدارس وتأويله. المنطق الذي اتبعته من أول الكتاب إلى آخره -لو طبقناه على هذا المثال- هو افتراض وقوع مصادفة سقوط ناصر في مصيدة في عالم السياسة، وسقوط شخصية شنبو في مصيدة في عالم الفيلم، وأن تلك المصادفة تمثل تعبيراً لاواعياً عن موقف الناس من انهيار صورة البطل القادر على كل شيء، لأن صناع الفيلم لم يكونوا ليجرؤوا على استخدام ذلك العنوان لو اتفقوا فيما بينهم أثناء صناعة الفيلم على أن العنوان إسقاط على ناصر.
ما أهمية هذا اللا وعي.. هل يمكن القول أن يتسرب إلى المشاهد بشكل ما؟ لا اسأل عن العظة الأخلاقية وراء الفن إنما كان يبدو لي أحيانا عند القراءة أن هناك تحميل مضمون تافه مضامين ثقيلة لا تسمح له خفته بتحملها!
من ناحية موضوع البحث، تميل الدراسات الثقافية إلى تناول منتجات وممارسات تشتهر بأنها غير ذات قيمة رمزية أو فنية أو ثقافية. هناك من يرى أن فن أحمد عدوية لا يرقى إلى مستوى الفن ولا يصلح أن يكون موضوعا لدراسة جادة، وهناك من هم مثلي، يرون في أغاني عدوية منجزاً هاماً وثريا بالدلالات. بالمثل، يمكن أن ينظر البعض إلى أفلام فؤاد المهندس -لاسيما في الستينات- على أنها خفيفة أو غير ذات مضمون. ويمكن أن يرى فيها البعض -وأنا منهم- أنها أفلام خفيفة لكن ثرية بما تحمله من آثار التاريخ الثقافي والسياسي.
قلت أن تاريخ الكوميديا في السينما المصرية لم يكتب بعد. ووفق منجزك في هذا الكتاب ما الذي تشير إليه تلك الجملة؟
لا أعرف كتابا جامعا مانعا عن تاريخ الكوميديا في السينما المصرية، وعلى كل حال فكتابة ذلك التاريخ يحتاج عدة كتب ولا يكفي كتاب واحد مهما بلغ حجمه للاضطلاع بتلك المهمة. كتاب “مهندس البهجة” مساهمة في كتابة تاريخ الكوميديا العربية، لاسيما في السينما. صحيح أن الكتاب يركز على فؤاد المهندس، لكنه يخصص عدة صفحات لبدايات السينما الكوميدية مع نجيب الريحاني. ومشروعي البحثي الحالي يركز أيضاً على الكوميديا في السينما العربية.
في فترة ما عندما كانت قوى اليسار نشطة كانت التهمة الأساسية الموجهة لأفلام المهندس هي تغييب وعي الجماهير.. الآن وبسقوط اليسار وقراءاته أصبح بإمكاننا الانفتاح على قراءات مختلفة مثل التي قدمتها.. هل ترى أن القراءات النقدية المؤدلجة كانت خاطئة؟ وأن القيمة الفنية لأي عمل تتوقف على كيفية قراءته وليس على رسالته المباشرة؟
أتفق معك في كون التهمة التي طاردت أفلام فؤاد المهندس كانت تتلخص في ثلاث كلمات: تغييبية، هروبية، سطحية، وهي تهم صادرة عن خطاب ستيناتي يتصور أن وظيفة الفن تقتصر على التزامه بقضايا المجتمع وانتصاره للطبقات الشعبية ولقضايا التحرر الوطني. هذا موقف أيديولوجي تقليدي تقابله مواقف أيديولوجية بعدد المقاربات النقدية للأعمال الفنية. لا أعرف ما هي القراءات النقدية غير المؤدلجة، فكل قراءة نقدية هي بالضرورة حاملة لأيديولوجية ما. عادة ما يصف مثقفو اليمين قراءات المثقفين اليساريين بأنها مؤدلجة وكأن القراءات المنطلقة من موقف يميني هي البعيدة عن الأيديولوجيا. في رأيي أن فؤاد المهندس هو فنان محافظ سياسيا وأخلاقيا وتقدمي فنياً، ولذلك فأراه بوضوح يميني المزاج، ولهذا استهدفه النقاد ذوو النزعة اليسارية في الستينات والسبعينات واعتبروه تغييبياً، لأنه لا يتناول -مثلا- الصراع الطبقي على نحو جذري. وهناك قراءات تنطلق من أيديولوجية يمينية ترى في فؤاد المهندس مجرد صانع الضحك اللطيف. كل هذه القراءات لها وجاهتها ولها أوجه قصور، وأتفق معك في أن النقد المحترف لا ينبغي أن يتوقف عند تحليل رسالة العمل الفني. جماليات أفلام ومسرحيات فؤاد المهندس تعتمد على الحرفية الشديدة في البناء والتنفيذ، وليس فقط على التفسيرات السياسية أو الاجتماعية (المتضاربة) التي يمكن للنقاد التوصل إليها، حسب تنوع ميولهم وانحيازاتهم.

مقالات من نفس القسم