مهيب البرغوثي
يذهب الكاتب والأكاديمي إبراهيم أبو هشهش في مجموعته الجديدة “ديك مسافر على الجدار” منذ البداية بتعريف ما هي هذه المجموعة: هل هي ذكريات طفل عاش حياته بين أزقة المخيم، وحياة أخرى بين المنافي والمدن الكبيرة؟ إنها حكايات من أدركهم الموت فجأة. تبدأ المجموعة في حكاية أولى: “لو الناس لا يموتون بل يسافرون”، هذه القطيعة أو ربما الاتصال الخفي بين الكاتب وبين الموت جعله يخاف منه. من منا لا يرى في الموت “بعبعًا” أو غولًا؟ وقد ذهب أبو هشهش في قصته إلى أكثر من ذلك، حين اعتقد أن الموت مرض معدٍ، قد يصيبه في أي لحظة إذا لمسه أي مشارك في الجنازة، فمشى مرتعبًا من الرجال الذين يمشون فيها.
هذه الثنائية ينسجها الكاتب في تعالقه مع البُنى الجمالية والفنية داخل المجموعة القصصية، إذ نرى ببعض القصص كيف استطاع الكاتب أن يبعث الموت من وسط تلك الصروح والأبنية الفلسفية والمعرفية، معتمدًا على التعريفات الكامنة في المتن ليصل إلى غايات معينة تدفع بوحشيته نحو ارتدائه عباءة الجمال، ولكن كلّ هذا يتم بطرائق فنية تتسم بالتجديد والوصفات التجريبية التي تتقاطع مع كل ما هو فلكلوري، لشدّ القارئ والاستحواذ على بواطن فكره وإمتاعه بطرق مغايرة ومسايرة للواقع.
هذا الموت الذي يلبس الطفل من صغره ويحمله معه في أكثر من حكاية، تعامل معه الكاتب كحكاية صوفية، وذهب إليه أحيانًا كأنه صديقه، وأحيانًا أخرى كانت القطيعة بينهما. كما تقول الكاتبة الفرنسية “مارغريت دوراس”: “الحكاية كلها أنت، لا تحفظ سوى بعض كلمات تتلفظ بها أثناء النوم، تلك الكلمات، أنت مصاب بها، إنها مرض الموت”. إذ نذهب في رؤية الطفولة ثانية، يدركنا الخوف من أن ننام وحدنا في غرفنا المغلقة.
يعود أبو هشهش ليفاجئنا ثانية في دقة حساسية الطفل، الذي يحمله في حكاياته، التي تملأ روح القارئ المدرك لحساسية معنى موت فراشة بين يديه. تلك الفراشة التي سيبقى يحمل ذكراها في روحه سنوات طويلة. إن ثنائية الموت– الخوف، بين موت الديك– وخوف الرجل، للوصول إلى النقطة الأولى والنتيجة: الموت لا يغيّر شيئًا، يبقى الديك ديكًا، والرجل رجلًا، وفي النهاية يخرج بخلاصة: الخوف من الأحياء فقط.
إن إبراهيم أبو هشهش في “ديك مسافر على الجدار”، الصادرة عن دار الشروق– رام الله– عمّان– 130 صفحة، يذهب بجرأة للبحث في مكونات الحياة، بين حكاية وحكاية يدخل في السيرة الذاتية، حكاية طفل، موت فراشة أو ديك، إنه يرى الطمأنينة في روح الأطفال فقط، هذه الخاصية التي تجعلهم ينظرون إلى الحياة بحب، خاصة الطمأنينة والبراءة، يتجول بنا في الحياة؛ ليعود إلى الموت ثانية في “قصة الفتاة ذات الفساتين الملونة”: “لقد ترسّخ وجداني أن موت الأطفال شيء مختلف”.
إن التفكير في الموت هنا، والتنازل الذي يقدمه الأهل للتراب، يصل إلى نتيجة: “أن الموت ليس مجرد لعبة ينهض منها الأطفال ويواصلون اللعب”.
يأخذنا أبو هشهش إلى القص الشعبي في أكثر من حكاية، وإلى الموروث الثقافي. وإبراهيم من المهتمين الذين قرأوا التاريخ الثقافي والسياسي والتراث بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص. وقد استطاع بذكاء أن يُسقط في هذه المجموعة التي تتحدث عن تاريخ القرية والمدينة بكل أبعادها وكل مكوناتها. وفي قصة “أبو عيسى” يتجلى النص ويتحفنا السارد في حكاية قد تكون من المكونات الأساسية للحكايات جميعها.
من يعرف إبراهيم أبو هشهش لا يُفاجأ بمعرفته الواسعة، إنه شغوف بكل أنواع المعارف. ففي “ديك مسافر على الجدار”، الحكاية التي أخذت اسم المجموعة، كلمة قالها تلميذ، تبقى مثل مسمار في الذاكرة، ويأخذ على نفسه عهدًا سريًّا أن يعرف ما يعرفه التلاميذ، بل أكثر من ذلك: لقد ترك الرجال الديك وحيدًا على الجدار ورحلوا تباعًا. الديك هنا هو رمز للرجولة، بقي، والجميع رحل في نكسة 1967. إن هذه المجموعة، بكل حكاياتها، تأخذنا معها عبر رحلة الحياة والموت والجمال والحزن. وقد دوّن على غلافها الشاعر والفنان زهير أبو شايب: “قد تبدو هذه النصوص، للوهلة الأولى، كأنها سيرة منجمة لشخص يضع “طاقية الإخفاء”، ويرى العالم دون أن يُرى فيه، فهو يضيء لنا على كل شيء سوى ذاته”.
في الختام، من حكاية إلى حكاية تختلف رؤية الكاتب وقراءته لظاهرة أو فلسفة الموت في متن الحكاية الممتدّ إلى الواقع الإنساني. تبقى إشكالية التفكير في تلك الحكايات ما قبل الموت وليس ما بعد الموت، ولهذا تأتي كلّ أحداث الحكايات في مجموعة “ديك مسافر على الجدار” عبر تجسيد بطل رئيس أو شخصية ثانوية تقدّم خدمات مهمّة للبطل، مصطدمة بالموت، على نحو مقولة جون كيتس: “الموت يصنع التاريخ، والتاريخ يصنع الموت.”