ديفيليه ملابس فينيسيا الراقصة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

في أزقة مدينة فينيسيا، أسير وحيدا، كما اعتدت في مهام عملي التي تضطرني إلى زيارات متكررة لها، ولا يؤنس وحدتي ليلا بعد أن يخلد أهل المدينة إلى النوم، غير هذه الملابس التي يتناوب أهل نوافذها على جانبي الطريق(نشرها) في عرض الشارع، في حالة تعاون مشترك بين الجيران. 

السؤال الذي يطاردني دائما. لماذا يبدو هذا المشهد غاية في الشاعرية هنا، بينما يبدو قبيحا في حواري القاهرة؟! 

الملابس هنا لها وجوه مبتسمة، وأصوات خفيضة الصوت. إنها تتحرك كفراشات ضلت طريقها إلى الضوء، كراقصات باليه على مسرح هوائي. 

ألوان زاهية، كأنها خرجت لتوها من حمام مغربي، أو كأنها طلت أظافر “مشابكها” بألوان رومانسية. 

لا أكون مبالغا إذا قلت أنني أنصت إلى الموسيقى التي تصدح كلما تطايرت الملابس من هواء فينيسيا العليل، وكأن هذه الملابس وهي متجاورة في اصطفاف منتظم، قد تحولت إلى أصابع بيانو، يعزف عليها بمهارة هذا النسيم القادم لإغوائها. 

فأين نحن من هذه المشاهد؟!  

لدينا مياه البحرين والنيل، لدينا ابنباتي العتيقة، نمتلك ما هو قادر على الإدهاش. 

لكننا ربما لا نمتلك الروح التي تسكن في هذه الملابس الصامتة، لا نمتلك صفاء القلب، أو التصالح مع النفس. 

في فينسيا، لا سيطرة للأرض، ولا حكم للطين، ملك المديمة هو الماء، هو القائد الحكيم، يتنقل الناس من خلاله، ويعبرونه صاغرين، راضين بسطوته وهيمنته. ربما يكون ذلك سبباً لغموض المدينة وأهلها، بل وسبب أيضاً للصمت المطبق على مبانيها التي تغيرت ملامح وجوهها بفعل الماء، فصارت بارعة الجمال رغم شيخوختها، وفائقة الروعة رغم تجاعيد الزمن التي لا تخفى على الناظرين.

نحن نمتلك الماء، ولكنه مستغرق في صراعه مع الأرض، والصحراء، واقع بين فكي تربة مشاكسة، جعلته مثاراً للقيل والقال، نحن لا نحترم مياهنا، نلقمها كل صباح بمخلفاتنا، ونهينها بنفايتنا البغيضة، الماء لدينا طفل شوارع، تركه أهله، لتعبث به الدنيا. الماء لدينا يرتدي ملابس مهلهلة، ينام أسفل الكباري، ويقتات على الحشائش اللقيطة.

لم أشاهد في هذه الرحلة النادرة بكل ما تعني الكلمة، خلافا شب بين بين حجاب. وقميص بدون أكتاف، ولم تتأذى أذناي بمشاجرة بين جلباب و”شورت”. الكل يعيش في سكون، يتجاور دون أن يعترض على الآخر، الكل يغتسل من نفس الماء، ويتطاير من جرَّاء هواء واحد. 

هذا ما نفتقده أيها السادة، أن يحترم كل منا حرية الآخر، وأن يقبل أي منا التجاور مع نقيضه، وأن نتصالح مع أنفسنا، لنترك الحياة تمنحنا متعتها، بدلا من أن نزعجها بفوضوية خلافاتنا. 

ها أنذا أنهي رحلتي وأنا أردد بسرعة، آملا أن لا أخطيء.

وأقول “قميص فينيسيا نشف ولا لسه ما نشفشي”.

 

مقالات من نفس القسم