ديستوبيا هرمس

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كريم سامي

في ديوانه الثاني "كلاشنكوفي الحبيب" الصادر عن دار نشر "شرقيات" يقدم هرمس قصيدة نثر لا تبتغي التقشف البلاغي، بل وذات نبرة موسيقية أيضا، غير أن هذه الشاعرية لا تعوق الشاعر عن القفز بخطوات رشيقة بين حزمة من الأفكار، والرؤى تسيطر على النصوص، وتصبغها بمرارة تسبح بين طيات الكتاب رغم عذوبة اللغة، والتراكيب.

في عالم هرمس ريشات، ودروع، نجوم، وتكايا، غجر، وسيوف، وفي أكثر من موضع ستجد نوح، وطوفانه، وربما تعطلك بعض الألفاظ التي ترقد في المعاجم مثل: أنابيق، وممكوسة.غير أنه في كل الأحوال هناك: جندي. مرة يفكر في الانقلاب، وفي عينه تلتمع ألف نجمه، ومرة في القهر يقشر البرتقال، ويقسمه بين الجنود للأبد.

فاتحة الديوان ترصد لنا ما يشبه تناسخ الهنود الحمر، أو لعلها محاولات من الذات للفرار من مصير حتمي. ص 11:

أحدهم كان وحيداً، وتحول لذئب

وشعر بملل كبير، وخيبة

 ذلك أنها، وكالبشر

تعيش الذئاب في قطعان.

الذين تحولوا لقرود ارتاحوا من خطوة الحضارة.

 غير أن المقطع الأخير من النص  يمنحنا إجابة جديدة عن منشأ هذه التحولات، حين يلحق الشاعر بسربه المتحول، ويشيخ، وكأن هذه التحولات ما هي إلا مرآة للغول الكبير: الزمن.

وفي قصيدة الفوضويون في المدينة ص15 نتابع الحضور الخفي للزمن الذي يواصل عمله الأثير في النفي المتكرر لكل ما في الحياة: 

ما سرق أرواح هؤلاء

هو بالتأكيد ما أغلق نادي أُنس الوجود

ما سرق البلح من الوكالة

هو ما يدورني كالدمية بين السقاة.

الملاحظ في هذا الديوان أن ما يوجز في قصيدة، يُفصل في أخرى، وكأن القصائد تكشف بعضها بعضاً، ربما لأن الأفكار المُلحة التي تطرق رأس الشاعر محدودة كما يقول بورخيس، وجل ما يفعله الكاتب هو إعادة صياغة هذه الأفكار في هيئات مختلفة.

لذلك يعاود صاحب الكلاشنكوف حربه الضارية مع الزمن. لنقرأ ص 68

ما أريده حقاً هو الذهاب بعيداً

أو تعلم لغة جديدة

هكذا لن تحاصرني سلاسل معنوية للزمن

أو أزمان مسلسلة للمعاني.

الفكرة الأخرى التي تسرح بين القصائد الديوان هي استخدام الشاعر. لنقرأ ص 18

فجأة خرج المنادي في شوارع مدينتنا

وبطبله المصنوع من جلد الشاعر

أذاع على الناس مرسوماً سلطانياً.

ونجد في قصيدة فم الماسورة ص 45 تعبير ” هوان الجمال ” متبوعاً بالصورة ذاتها:

“رؤوس الشعراء رصفت الطريق”.

ولا يتوقف هرمس بل يتمادى في التكرار لنقرأ  ص45:

حشرات حمراء ضخمة تدخل المدينة من الشرق

يهلل لقدومها الجميع

ويذبحون تحت أقدامها المشعرة

الشعراء الباقيين من أخر مظاهرة دامية.

ولعل ” هوان الجمال ”  ما هو إلا مرادف للديستوبيا مثلما يقول هنري ميللر في معرض حديثه عن رامبو: عندما يختنق صوت الشاعر يفقد التاريخ معناه، وينفجر وعد الدينونة.

سنعثر في الديوان على ملامح شتى لهذا الخراب، لنقرأ:

ص55: الكراهية تملأ المدينة.

ص62: الفاشية، والعبث، والقبح، وجثث حمير تتعفن على شط الترعة.

ص96: أريد -لولا شفقتي الغبية- أن أوزع صحوتي عليكم يا أبناء الكلاب، لتروا موت الطبيعة.

حتى نجد الديستوبيا اسما، ومعنى:

ص91: فجأة ترى الديستوبيا متحققة حولك في كل شيء.

ويستمر الشاعر في تدوير أفكاره، حتى يقدم لنا ما يشفع له بالتكرار من صيحات خلابة تشبه نفير سان جون بيرس : ص101

أنا كنت مهمازاً في بطن النعامة، وكانت سفارتي مطهمة، وعالية اللواء

صبروني، صبروني

رأسي تهدم لما عليَ وقعت حضارة بكاملها

سقطت بحيرة وعلا بنك، اختفت التكايا وانتشرت البارات.

هذا النشيج الهرمسي يفضح تغول المادة، وانسحاق الروح، يكتب هرمس ص54:

عن قرى خالية من الشعراء، غير أننا نكتشف أن هذه الأسباب ليست وحدها من يؤجج غضبه

فنجد الثورة المخذولة في أكثر من موضع، وكأن الشاعر يرفض أن يقتصر ألمه على الشخصي بل يعدد مصادر بؤسه لتشمل العام أيضاً. لنقرأ قصيدة كلاشنكوف ص39:

لاحظت أن الجو العام هو تنويم الجميع.

من المرعب أن ترى تطور البروباجاندا.

من يخبأ أسلحة ستين عاما

ماذا سيفعل بها وبنا؟

لقد أنشأت الثورة منتدى شعبيا

هذا هو إنجازها الوحيد.

وربما لأن الحلم الذي كان بين الأيدي تبخر، وكأنه سراب: حلم الثورة. هو ما أنتج خصومة ظاهرة بين الشاعر، والكلمات الكبيرة. لنقرأ ص38:

إنني لا أبالي بالمستقبل، والأمية، والعرق

إنني متبطل، وحزين.

ويهزأ هرمس ص58:

ورموز نحاسية مدبسة برقبتي يسمونها الوطن.

ومرة أخرى كما في ص100:

قئنا السلطة، والخوف، والتلفزيون، الوطن.

هزائم عديدة، من كل صوب تحل كارثة، وكل النوافذ تحمل الدمع إلى عيون هرمس حتى ذاته التي يلتجأ إليها تخونه هي الأخرى، كأننا في ملهاة قديمة، وبطلها شاعر، يتحايل، ويتقنع لكي يحافظ على نضارته أمام وحش وظيفته أن يشيأنا: لنقرأ ص50

لا نفهم ما الذي حدث لنا

لنصبح وحيدين في الغيتوهات

بدون أي أمل في الحب.

في هذا الديوان لا تكف التحولات، تطفر من بين القصائد، والشاعر يأخذ صورة تلو الأخرى  لملامحها المتباينة، كأنه يشتهي تثبيتها، حفظها، لربما يعود إليها لاحقاً، ويتعرف على اللعنة، التي لا تصيب الشاعر وحسب، بل تتلف كل عالمه. ص57

 

في زمن مضى

كنت أعبد الشمس

الآن تجرجرني اللعينة وراءها بالسلاسل.

وتتجلي غربة الشاعر عن نفسه الضائعة، والتي لا يعرف أين ضيعها أو ضيعته في قصيدة كلب، شص، وتعاسة:

يكتبون عن أشياء خيالية كانت تملؤني

فيما مضى

عندما كانت الشمس لولباً ملوناً يتخارج من سماء الغروب

وكانت اللبؤات يخطفنني من غرفة نوم أمي ليلاً

وينزهنني في سهوب من الرؤى

أفكر فيهم وأنا أراقب ليلي كيف صار قصيراً

وأحلامه محتله.

ويواصل الشاعر فكرته غير أنه يباغتنا بهذه الصورة الطازجة. ص69:

لم نعد قادرين على إقناع ذواتنا

أننا عندما وجدنا ريشة في الطريق

ولم نلتقطها

فإننا ضيعنا عمراً كاملاً من الطيران.

ويستمر فقد الذات في ص104:

لو أنني كنت أنا من ثلاثة أعوام، لكنت بكيت، لكنني أنا الآن.

حتى في الصفحات الأخيرة من ديوانه، وكأنه لا يكتفي بأن يبدأ ديوانه بالتحولات، بل يصنع الخاتمة من رماد التحول لنقرأ ص106:

وحين أجالس وجهي، وأنا أحلق، لا تلتقي أعيننا، إذا، أين ضيعت روحي؟

هذا الانشطار، الروح التي فجرها الغضب إلى شظايا، مراثٍ تليق بعزيز، وغنائية تلمس الشغاف، كأن الشاعر على ضريح ذاته القديمة، يولول كثكلى، يسترسل النحيب، ولا يكف الدمع عن الهطول،لنكمل سلسلة الضياع الطويلة ص87:

وسكراناً، ومفلساً، بكيت كثيراً

كان هذا منذ سنوات

ظللت سكراناً

لم أعد مفلساً

لم أعد أبكي

لم أعد أبداً.

وإزاء كل هذه العواصف، كان لابد للشاعر من عزاء، يلطف من فداحة الكارثة، ويروض وحش الهزائم، لذا نجد قصيدته التي لها روح السوناتا من فرط رقتها، إلى مارثا ص17:

كل الحكاية أنني أستطيع عندما يعلو الماء وتنقلب العيون

أن أرسو على عينيك كفكرة لا تهم أحداً

أن أنزل بعد ذلك من عينيك

كدمعة لا أستطيع ذرفها من الضعف.

غير أن العزاء لا يقتصر على الحبيبة، فيجده الشاعر في الغياب، الغياب الحاضر على الدوام في القصائد كمخبأ من عنف الوجود. ص67:

بالأمس قررت أن أدخل في نوم اصطناعي.

أخذت عدة أقراص ملونة

نمت طويلاً، وبلا أحلام.

ويواصل هرمس الهروب عبر الخمر هذه المرة. ص76:

 

وعندما يمسكني الضيق من رقبتي

أجرع كأس الويسكي دفعة واحدة.

غير أن كل هذه المحاولات لا تضاهي جمال صلاته الآتية، وهو يجرب وضعيات شتى للخلاص، حتى يتوسمه في الحب كمطلق، فنجده يشدو. ص71:

أيتها النجوم انتظريني

يا همس البحر

يا حروف الشجر

يا نفس الكثبان

انتظروني

 

ربما فاتني شيء

 

لا تفتني أيها الحب

لا تفتني أيها الحب.

و يستكمل هرمس مسيرته في الفرار من الجحيم، جحيم الإفاقة، الوعي، يحاول أن ينزع قدميه من أوحال الواقع، فيبتكر عوالم غريبة، عامرة بالملوك، والسيوف، والدروع، وكأنه ذاهب لحرب بدائية، وكأنه عائد للبراءة الأولى، بعيداً عن الأوطان، والديستوبيا، وكل مخلفات العصر الحديث، ويفضح الشاعر حيلته هذه ص80:

يبدو أنني مهتم بتعاليم أخرى

أخترعها يومياً.

ويمكن العودة لقصائد: صانع السيوف، روعة السقوط، ملاحم تنتهي بخيبات، والدرع، لتعقب هذه العوالم.

الغريب أن الشاعر الذي يدور في كافة الأفلاك، يضع يده على اللعنة لمرة واحدة، ووحيدة في الديوان، فيقول الشاعر في قصيدته الرائعة  فم الماسورة ص41:

دعونا إذن نرسل شكوانا بصمت

إنها الشكوى نفسها منذ قرون

ذات الكآبة، والجنون، والمالنخوليا.

وأخمن أن الشاعر قد عجز في هذه النادرة عن التغاضي عن اللعنة الظاهرة، ربما لجسامتها، ولعلها طريقته للاستمرار، إذ أن ديمومة الوعي تقود إلى مصير كمصير هولدرلين، ونيتشة الذي يتناص معه الشاعر في قصيدته كلاشينكوف ص41:

ستبقى الحقيقة مُدرجة كترمومتر.

لتحدث الإحالة تلقائياً إلى ” هذا هو الإنسان ” حين يسأل الفيلسوف:

إلى أي حد يستطيع العقل أن يتحمل الحقيقة؟

غير أن هرمس سرعان ما يصيبه الذعر مرة أخرى، وينشد الدعم من الخارج هذه المرة، مستغيثاً بالرفاق ص72:

أحقاً يا رفاقي

يبني الألم الانسان؟

إلى

أي

حد؟

طمئنوني.

 

نهاية، هذا ديوان شعر حقيقي، ربما يخفت البريق بين الحين، والأخر، لكن الشاعر لا يطيل انتظارنا، بقفزات غزال ينتقل، وبيد خبيرة في حمل الكلاشنكوف يصوب طلقته في قلب فريسته، وكما يقول هرمس:

على أية حال  فالنهار دافئ، والليل طويل،

وحظي يتعثر أحياناً ولكنه لا يسقط

وإجازتي ستنتهي سريعاً

وأنتِ ستعودين

” واللي عمل زين على طول الزمان منصور “

 

مقالات من نفس القسم