لا أريد أن أقول أن الفخراني مظلوم مثلا, فهو كاتب مهم تأكدت موهبته برواية ومجموعتين قصصيتين, ولدي ثقة شديدة في قدرته علي الاستمرار علي الرغم من هذا التجاهل النقدي.
من جانب آخر, فإن اهتمام كاتب هذه السطور بالاجيال الجديدة من الكتاب وعكوفه علي أعمالهم, لا ينطلق من الظلم النقدي الذي يتعرض له بعضهم, بل لثقتي المطلقة بأن الكتابة الجديدة في مصر لم ينل منها الفساد الذي شمل كل شيء, وثقتي المطلقة أيضا بأنها ستنجو من كل الفخاخ المنصوبة حولها في كل مكان.
والمفارقة أنه بينما نعاني من التدهور والانهيار والفساد والتراجع علي مستويات عديدة فإن الكتابة الجديدة تكاد تقف في الميدان وحدها, تزدهر تياراتها المختلفة وتشق طرقا جديدة, مستندة الي تراث حافل لا تستقيم الكتابة الجديدة له, بل تستوعبه لتتمكن من الانقلاب عليه, وإلا ما كانت جديدة. بالطبع ليس المقصود هنا هو التيار التجريبي في الكتابة الجديدة وحده, بل ان كل التيارات تهدم وتبني, مستفيدة من توافر سبل النشر وتعدد النوافذ التي يمكن أن تنفذ منها, وربما كان هذا هو العنصر الايجابي الوحيد, لأنني اظن أن الانتشار الاعلامي في الصحف والمجلات, لا يعدو أن يكون جزءا من الفساد, والآلة الاعلامية تهيمن علي نحو أخطبوطي لتسييد منطق المصالح الصغيرة والمجاملات المتبادلة, لذلك سوف تجد هنا وهناك أسماء بعينها تتكرر, والموضوعات محلاة بالصور, والاخبار مجرد مناسبات للتأكيد علي هذا الاسم أو ذاك.
ربما كانت المقدمة السابقة طويلة أكثر مما ينبغي, ومحمد الفخراني ليس سوي نموذج, وإن كان أكثر سطوعا. وإذا كانت هناك ثلاث سنوات تفصل بين روايته فاصل للدهشة ومجموعته قبل أن يعرف البحر اسمه إلا أن الكاتب حقق انتقالة مدهشة بين عالمين وطريقتين مختلفتين في الكتابة عن كل المستويات, وبين لغتين, وزاويتين للرؤية والتناول والاداء.
كنت قد قرأت فاصل للدهشة عندما صدرت قبل ثلاث سنوات, وفرحت بها قبل أن ألتقي بكاتبها, ثم قرأتها مرة أخري أثناء وبعد قراءتي للمجموعة الأخيرة, وأظن انها دون أي مبالغة واحدة من أكثر الروايات إثارة للدهشة, صادمة وموارة بالغضب والاكتشاف, حانقة وحوشية وعنيفة, وهي تفتح عيون قارئها علي عالم العشش في الدويقة, ولصوص وقوادين الكورنيش, وعالم الصحافة ومظاهرات كفاية, والبلطجية والنصابين والعاهرات الغلابة, ومن يبيعون البلاستيك ومناديل الورق, المثليون الخائفون والفاجرون.. خلطة مدهشة لم يتأثر الفخراني ــ علي نحو مباشر ــ طبعا بمن سبقوه. لذلك كانت روايته مختلفة عن روايات الهامشيين والمهمشين ـ وهي كثيرة جدا بالمناسبة ـ علي سبيل المثال لا يدين الفخراني أحدا في روايته, يحتفظ بمسافة كافية بينه وبين شخوصه والواقع الذي تناوله, لا يتورط ولا يقع في حب أو كره ناس روايته, لا مجاز ولا بلاغة لفظية, بل شيء أقرب للركاكة الفنية, هذا فضلا عن استخدامه لضمير المخاطب علي نحو فريد.. لكل هذا جاءت فاصل للدهشة فاتنة وعذبة.. طلقة نافذة لا تنمحي بل تستقر في القلب كطعنة غائرة.
وعلي العكس تماما جاءت مجموعته قبل أن يعرف البحر اسمه. أبطالها وشخوصها البحر والسحاب والسماء والألوان والغابات والليل والنهار والشمس والقمر.. بل ان البشر الحقيقيين متوارون الي هذا الحد أو ذاك, وحتي لو ظهروا فهم يظهرون علي نحو مضبب وغائم وغير مؤكد. الطفل أو المرأة أو الرجل أو الفتاة الصغيرة ويمرون سريعا ولا يتوقفون إلا لحظات قليلة في بعض القصص القليلة. ربما في قصة واحدة هي موسيقي متجولة وشاعر مغامر ذكر الفخراني أسماء لشخوصه مثل ياسر وسامي ورضا وموزة, وباستثناء هذه القصة فإن أغلب الشخوص إما سحاب وسماوات وألوان.. الخ.
وهكذا استبدل الفخراني عالمه بعالم آخر وانقلب عليه وهدمه, وتتابعت التحولات المرتبطة بهذا الانقلاب علي مستوي اللغة وبناء الجملة والرؤية والاداة, مما يعكس الي أي حد نحن أمام كاتب يمتلك عالما ثريا متنوعا.
يستعير الكاتب ـ في أحيان كثيرة ـ بناء القصة المكتوبة للأطفال, كما يستلهم خيال الطفل وانتقالاته المدهشة. فلنتأمل ـ علي سبيل المثال مقدمة قصته قصة اختفاء الشمس ووقوع القمر في الحب.
كان سرب الحمام يطير في غروب الشمس عندما فجرت قصة حب طائشة قلب الحمامة قائدة السرب ثم ينتقل بسرعة شديدة ليضيف: يلطخه الغروب بالدم, وطرفت عين الشمس, فنزلت بسرعة لتفسلها في النهر وما يلبث أن ينتقل علي الفور قائلا: تلقفها تمساح متهور, فوجئت به وحاولت أن تفلت منه, إلا إنه قبض عليها بسرعة وقوة, حتي لم يكن لديها وقت لتتألم.. ويواصل لفت شعرها الذهبي حول جذوع أشجار قريبة, فجذبها بعنف للنهر, صرخت وشعرها يتقطع وينثر رذاذ الذهب في الهواء, حاولت أن تسرب نفسها شعاعا بعد شعاع من بين فكيه, أغلق فمه عليها وغطس.. ويواصل محققا انتقاله أبعد غورا: أظلمت الدنيا علي الشمس, وفوجئت في بطن التمساح بنهر صغير تلعب فيه أسماك وجنيات
والحال أن الفخراني يستعير بناء حكايات الأطفال التي تتيح للكاتب تلك الانتقالات الحرة المدهشة, بمعني أن ما يقود الكتابة هو الكتابة ذاتها, والتحولات التي تجري للشجر والسحاب والألوان والسماء.. الخ لا يتم التفكير فيها قبل الكتابة بل اثناءها. يؤنسن الكاتب عناصر الطبيعة إذن, ليس بوصفها رموزا! أو معاني مجردة, ففي قصة الغابة مثلا يكتب في السطر الأول: كانت الغابة امرأة فقيرة تعيش مع ابنتها الشابة في كوخ صغير يغير مكانه في العالم كل يوم ويواصل باقي القصة وحتي السطر الأخير علي أساس أن الغابة هي امرأة فقيرة تعيش مع ابنتها الشابة.
وحتي عندما يورد في بعض قصصه شخصيات انسانية, فهي شخصيات من طراز خاص مثل الرجل الذي اشتري العالم, وهو مجرد رجل مجهول كما يصفه الكاتب مضيفا معه عربة يجرها حيوان مجهول, جسم العربة لايظهر لأنها محملة بصناديق مليئة بالذهب. يشتري الرجل من الناس الحزن, وقصص الحب الفاشلة, والوحدة, والبرد, والظلام, والغيوم وخريف الأشجار, والمذنبين والكاذبين, بل والشياطين والموتي والأفكار الشريرة.. لكن العالم لا يصبح أجمل بل أكثر تعاسة بطبيعة الحال, وراح الناس يبحثون عن هذا الرجل الذي اشتري منهم كل شيء في محاولة لاسترداد ما فقدوه.
وهكذا تمضي قصص المجموعة التسع عشرة كأنها نص واحد أو جملة موسيقية واحدة تتردد بأشكال وألوان وزوايا مختلفة, لتقدم في النهاية حالة ثرية عصية علي التصنيف, وعصية أيضا علي أن تسجن في معني واحد.
وأخيرا, أود أن أؤكد أن ما أكتبه عن زملائي من الكتاب الأصغر ـ سنا بطبيعة الحال ـ ليس نقدا, فأنا لست ناقدا, وما أقدمه ببساطة مجرد قراءة ومحاولة لفهم ذلك العالم المدهش الذي يقدمونه بإصرار ودأب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*روائي مصري