أمينة رشيد
في هذه “الرواية” القصيرة “دنيا زاد”، استطاعت مي التلمساني أن تحول تجربة خاصة جدا وأليمة، إلى عمل فني متقن وجميل. أجزاء من سيرة ذاتية يسمح وجود ضمير الراوي المتكلم والإحالات إلى واقع الكاتبة من أسماء بعض الشخصيات وعنوان مجموعة “نحت متكرر” والحدث الأساسي إلخ، بالتوحيد بين صوت الراوي والمؤلف والشخصية الأساسية، وهي من الشروط المعروفة للسيرة الذاتية، لكننا نقرأ دنيا زاد أيضاً كمجموعة قصص قصيرة مستقلة تدخل مع ذلك في علاقة عضوية مع الموضوع الأساسي للكتاب وتصون وحدةوروايته منفصلة عن سيرة الحياة، وواضعة حدودا المضمونية والأسلوبية، لتعطينا عملاً يقرأ على مستويات مختلفة من التلقي، فينتقل القارئ مع مي من معاناة تجربة يعرف أنها حدثت إلى خصوصية وفنية كتابة أدبية تقوم هذه الكتابة على المفارقة بين كتابة وثائقية، ترصد تفاصيل الحدث من رقم الغرفة 401 إلى المراحل المختلفة التي سيقت وتلت موت المولودة دنيا زاد، وبين العبارات المكثفة القاسية، التي تعبر عن الألم والحزن الشديدين.
فتنتقل الرواية من الحزن اللبدي ـ بين الحلق والقلب ـ إلى الوجع الحميم والمستمر بين “الحلق والرحم”،واستطاعت مي التلمساني من تفاصيل العلاج والمرض إلى علامات الموت والدفن أن تبدع استعارة جنائزية ممتدة على صفحات الرواية، وتقوم ببناء درامي محكم لعملها الفني.
ففي الحياد المقصود للغة، تدق بعض الصور والعبارات خالقة إيقاعا متميزا يحدد مناخ الموت والفراق: خرجت من مقبرتي إلى مقبرتها، وتعود صورة المقبرة في صياغات مختلفة، أبرزها الرحم، المقبرة، التي تميز طبيعة العلاقة بين الأم والمولودة الميتة، بين المرأة وجسمها، بين إثم حدود الجسد مصير غير مفهوم لطفل حكم عليه بالموت قبل أن يحيا، أو على لسان الراوي الآخر، الروج تأتي صورة الموكب الصغير الذي توجه بالطفلة المولودة إلى المقبرة ويتساءل: متى ولدت حقا ابنتنا، تلك التي رأيتها منذ ساعات قليلة تتوارى في غرفة تحت الأرض دونما سبب حقيقي.
ويتجلى الموت كالشخصية الرئيسية للرواية، برعت الكاتبة في تنظيم مفرداته، ألم ضرب في الجسد والرو، وفي جميع العلاقات التي تربط ـ وتفصل ـ بين الرواية ومن حولها، فتستخدم الكاتبة بمهارة تقنية وجهة نظر الراوي لخلق تلك المسافة، من زاوية الغرفة 401 ترى الراوية، الممرضات، أفراد الأسرة، الزوج، يتجولون في رقصة صامتة جنائزية، وقدا نقطعت الصلة بينها وبينهم جميعا، ومن هنا أيضا أهمية تقنية إيجاد الصوت الآخر، الزوج، فيتوزع الألم بين الصوتين في رواية الحدث.
وتبرز المسافة التي يخلفها ألأم خاص جدا لا يعيشه المرء إلا في وحدة مطلقة، لا يستطيع أحد أن يساعده فيه: تجربة الموت، وموت الطفل بصفة خاصة، في خيط الحزن وألم الفراق، يلعب الزمن دوراً أساسياً ومميزاً في صوت الوحدة الروائية بين الحدث والزمنالقريب في مرور”أيام بلا أرقام”، حتى بداية الاهتمام بشيء خارجي، الإعجاب بثوب ذي ألوان زاهية، شهور عجاف تتلو هذا الفعل الأول منذ موت دنيا زاد إلى بداية “نقطة تحول” تبقى ملتبسة” إذ تحوم على امتداد صقحات الرواية صورة الطفلة ذات الوجه الأزرق المستدير، رغم السحابة البيضاء التي مرت فوق صفحته.
ربما لا ييقنعنا بنفس الشدة والحضور وصف العالم الخارجي من أحاديث أسرية حول بيع البيت، إلى رؤية عالم البورجوازية الصغيرة التي تراه، ولا تراه الرواية، من شرفة شقتها، منعلقة في عزلة الحداد القابض عليها، وبستطيع مع ذلك أن يستكمل الشعور الجارف بالوحدة، والمسافة التي تابعت الفراق، ويجعلنا نتمنى لمي التلمساني مستقبلاً باهرا في الكتابة الوصفية، القائمة على ذكاء البناء الدرامي والإنصات إلى حد صدق التجربة.