“دنقلا” .. ثلاثة وجوه لمأساة النوبة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رغم أن صفحات رواية "دنقلا" لإدريس على،  الصادرة فى طبعة جديدة ضمن سلسلة مختارات دار الكرمة للنشر والتوزيع،  لا تزيد عن 167 صفحة، إلا أنها عمل  سردى كبير وعميق لروائى متفرد، يشهد على زمنه وأهله، ويقدم باقتدار ثلاثة وجوه متداخلة لمأساة النوبة، أحلام سكانها المجهضة، وآثار تهميشهم المضاعف بعد بناء السد العالى. النظرة الأكثر عمقا أن نعتبرالرواية تراجيديا ثلاثية الأبطال: عوض شلالى، وأمه حوشية النور، و زوجته النوبية حليمة، تتداخل دوائر الخيبة والإحباط، فتقودنا مأساة التهجير والتهميش الى نهاية كارثية، يتم ذلك بلمسات مكثفة مقتصدة السرد والحوار، ولكنها قوية وحادة كنصل السيف. ليست مأساة النوبة مجرد محنة غرق القرى القديمة، والإنتقال الى صحراء قاحلة حارة، مأساتها فى  رواية "دنقلا" أخطر وأعمق: فى إجهاض الأحلام، وفى قهر البشر من داخلهم، لم تعد البيت هى البيوت، ولا الناس هم الناس.

يعبر بناء الرواية عن فكرة الوجوه الثلاثة ، لدينا ثلاثة فصول: الأول بعنوان “المنفصل” وبطله عوض شلالى، والثانى بعنوان “محاكمة عوض شلالى”، ولكن بطلته الحقيقية الأم الصابرة حوشية النور، والفصل الثالث بعنوان “أحزان حوشية وحليمة”، وبطلته الفعلية حليمة الزوجة المنسية لعوض. تُرسم ملامح الحكاية بدقة وبكل تفاصيلها. أزمة عوض مثلا مرّكبة، لأنه ضحية نوبيته، وضحية انتمائه السياسى كشيوعى وشى به أحد زملائه، كان عوض سجين الواحات لمدة سنوات عشر، انتهت بعفو رئاسى عنه، فى ظل اتفاق انتهى بحل التنظيمات الشيوعية،  فى منتصف الستينات من القرن العشرين. خرج عوض من السجن الى سجن أكبر هو سجن الوطن، ما زالت تطارده ذكرى مقتل ابن خاله  بحر جازولى طالب الحقوق فى الواحات، رد إهانه الضابط بأقسى منها، قتلوه،  له ابن خال أكبر، ضابط جيش ذهب الى سيناء، فلم يرجع. عوض يشعر بالمرارة لأسباب كثيرة: من خيانة ووشاية زملائه، من وساوسه بأن يكون فى كل مكان مخبر، وفى كل مقهى واش، من مأساة أولاد خاله، من زوجة أبيه الثانية القاهرية، امرأة شمالية بيضاء من بولاق، إنه يشك فى أنها قامت بتسميم أبيه، بعد أن نهبت أمواله. براعة إدريس على ليست فى إحكام الطوق حول عوض فحسب، ولكنها فى انتقال عوض من الحلم العام المجهض وهو تحقيق العدالة والمساواة بين الناس، الى الحلم المحدود ( المجهض أيضا)، وهو العودة الى قريته النوبية قرشة، وتوعية أهلها بأصولهم، والإحتجاج على تهجيرهم، دون تعويض مناسب، وتركهم من دون زراعة أو صناعة أو عمل، ثم انتقال عوض الى دائرة حلم ثالث مجهض، حيث يسافر متسللا بعد مطاردته فى قريته الى السودان، هناك سيدعو الى إحياء دولة النوبة القديمة، وعاصمتها دنقلا، يفشل عوض مرة أخرى، يعتبرونه مهددا لوحدة السودان. ينتهى عوض الى الدائرة الأكثر ضيقاوهى الذات، بعد تشرد فى أوربا الشرقية والغربية، ينسى وطنه وأهله، يعيش حكاية حب مع الفرنسية سيمون، التى تفشل فى أن تعيد إليه تسامحه مع ماضيه المرير.

ولكن إدريس على ينتبه بذكاء الى أن محنة النوبة ذات وجهين: مأساة رجال تغربوا لعدم وجود عمل أو زراعة فى بيئتهم الجديدة، ومأساة نساء وحيدات مهجورات، تترجم الحالة الثانية شخصيتا حوشية النور، وحليمة، الأم حوشية هى فى الأصل امرأة مهجورة، تزوجها شلالى، والد عوض، عاش معها لمدة شهرين فقط، ثم تركها ليعمل فى القاهرة، اشتغل بوابا ثم أصبح سفرجيا فى فندق شبرد، ولكن شلالى عرف امرأة بولاق البيضاء، فلم يعد أبدا الى حوشية، مأساة النوبة لم تبدأ بالسد العالى، ولكنها بدأت بتهميش البشر، بل واسترقاقهم من العرب، ثم جاءت  عملية إنشاء خزان أسوان وتعليته، لتحول المكان الى بيئة طاردة لسكانها. حوشية ستصبر 19 عاما انتظارا لعوض، الذى لم يعوضها عن أى شىء، عشر سنوات  كان فيها محبوسا ومغتربا فى وطنه، وتسع سنوات ظل فيها  مغتربا فى أوربا. فقدت حوشية بصرها، ولكنها لم تفقد الأمل، كانت تتوجه الى المحطة، تسأل القادمين  عن ابنها الوحيد، الذى هرب  بعد أيام من عودته الى قرية قرشة، طارده الأمن، فذهب الى السودان، ثم انقطعت أخباره، عاشت حوشية وحيدة على الكفاف، يعتنى بها الجيران، وشابة اسمها حليمة، عاشت حليمة على إعانة الشؤون الإجتماعية، وعلى مصمصة الشفاه، وجلسات التعزية، حتى عاد عوض من أوربا، أصبح الآن كابتن مطعم فى سفينة عملاقة، عاد ومعه ذكرى سيمون، معتقدا أن يمكن أن يرجع إليها.

حوشية هى بامتياز بطلة الفصل الثانى، من أجلها سيحاكم عوض على تركها، وسيتفق أعيان البلد على قرار تزويجه، فإذا بقى عوض، صارت له عائلة، وإذا ترك مصر من جديد، وجدت أمه من يعتنى بها، يوافق عوض  على الصفقة، ربما كان يشعر أيضا بالذنب بسب معاناة أمه وبهدلتها وفقدان بصرها فى غيابه، تغير الزمن من الستينات الى السبعينات، قامت حرب أخرى، وانتهت مطاردة الحكومة للناشط السابق ( النوبى والشيوعى معا) ، تغيرت الدنيا أمام عوض بعد أن شاهد فى أوربا حرية الإنسان ، ولكن شيئا لم يتغير فى قريته: قحط وفقر وتهميش، عزلة وعادات وقيود، رجال مهاجرون الى الشمال ( القاهرة أو أوربا )، ونساء وحيدات تصطنعن البهجة، وتحاصرهن الأحزان.

فى الفصل الأخير، ستبدأ محنة حليمة، يكرر عوض حكاية والده الذى ترك زوجته، وذهب الى الشمال فلم يعد، حليمة عشقت عوض الذى سرعان ما طار من جديد الى أوربا، حياة حليمة أصبحت سجنا حقيقيا: تخدم العجوز الكفيفة حوشية النور، وتتحمل قهرها، بينما تعانى من رغبات جسد مهجور لم يرتو، تعانى حليمة من قهر والدها، الذى يرفض أن تطلق من عوض، تعانى من نظرات الشباب الجائع، ومطاردتهم لها. ثلاثون شهرا وهى تنتظر على أمل أن يعود عوض، الذى لا يعنيه سوى إرسال المال، تغير البيت، دخلت الثلاجة ، وأضيف جهاز التكييف، ولكن حليمة محبطة ومهزومة، سيقودها الإحباط الى تمرد خارق، وغير مسبوق، وسينتهى الأمر بكارثة تطيح أيضا بحوشية النور.

لعلكم قد لاحظتم الطريقة الذكية والمبدعة التى شيّد بها إدريس روايته عن “التراجيديا النوبية”، إنها أقرب الى فكرة الأوانى المستطرقة، التى تتسلل إليها مياه الحزن، فتغرق الجميع، مهما اختلفت الأجيال والأزمنة: مأساة شلالى تنقلنا الى مأساة عوض، ومأساة عوض تنقلنا الى معاناة حوشية النور، ومعاناة الأم حوشية ستقودنا الى محنة ومأساة حليمة. كأنها دوائر تحاصر البشر، وتجهض أحلامهم، التهجير فتح الملف كله، من سنوات الإستعباد والقهر فى عصور العرب والمماليك، الى أيام التهميش والعزلة بل والإهانة بسبب اللون أو المهنة، إنها تنويعات مؤسية على معنى السجن: سجن الواحات، وسجن الغربة فى الوطن، العادات والتقاليد التى تسجن المرأة، وتحولها الى جزء من صفقة، سجن العمى والإنتظار اللذين عاشتهما حوشية، وسجن الرغبة  والإنتظار، وهما سبب تمرد حليمة الأخير.

“دنقلا” ليست فى جوهرها سوى صورة ثلاثية الأبعاد للمحنة من خلال عيون مدرس حلم بتغيير العالم، فلم يستطع حتى أن يحقق حياة شخصية ناجحة، وأم صبرت على هجر الرجال، فلم تهنأ بحياة ولا بنهاية سعيدة، وزوجة شابة تمردت على القهر، فأطاحت بكل شىء. عوض وحليمة وجهان لتمرد تاه منه الطريق، فتحول الى رد فعل أكثر منه كرد فعل واع. عوض انفصل عن بلده وناسه وأمه، لأنه أصبح غريبا فى وطنه،  وحليمة صارت غريبة فى قريتها مع حماة شرسة وأب عنيف يهددها بالموت. محنة النوبة كما رسمها ببراعة إدريس على ليست فى التهجير والتهميش وفى إغراق البيوت والأرض الزراعية فحسب، ولكنها أيضا  فى سطوة العادات والتقاليد، فى كسر الإنسان، فى الخلل الإجتماعى الذى نشأ بسبب هجرة الرجال، فى تآمر التاريخ والجغرافيا على بشر يعشقون الحياة، ويعشقون قراهم، جذورهم تأبى أن تقتلع، ولكن كل ما حولهم، يضيق عليهم الحياة، ويدفعهم للتمرد أو الموت قهرا.

ليست دنقلا مجرد اسم لعاصمة النوبة الموحدة  القديمة التى انشطرت  حاليا بين مصر والسودان، دنقلا فى روايتنا البديعة، التى تستحق شهرتها، هى رمز لحلم ضائع ومفقود، سواء على مستوى الشخص النوبى العادى، أو على مستوى الجماعة كلها. المدهش أن هذه الحالة الإنسانية لم تنقل إلينا عبر هتافات صاخبة،  ولكن من خلال نص سردى متماسك، وعبر شخوص رسمت معالمها، وتفصيلات حياتها بقوة وحساسية عالية، وبوعى شديد سواء بالتاريخ أو بمشكلة الهوية، لم ينزلق إدريس على الى تعصب مضاد، تعبيرات مثل “أهل الشمال”  ليست عنصرية، ولكنها تعبر عن حالة إنفصال يشعر بها المظلومون، ماذا تنتظرون ممن لم يأتهم من الشمال إلا الكوارث؟! الغزاة، وتجار الرقيق، الهجانة الذين يؤدبون المتمردين بالسياط، الخزان الذى قطع الأرزاق، والسد الذى  تسبب فى التهجير الى جبال السلاسل وسط الصحراء. الشمال بالنسبة لحوشية  هو الذى خطف شلالى، وبالنسبة لحليمة هو الذى خطف عوض. كل شخصية فى الرواية كانت تبحث عن دنقلا الخاصة بها دون أن تعثر عليها. يستخدم إدريس على فى سرده المتدفق  الأفعال المتتالية، والاسماء المتتالية ، فيمنح حكايته معنى القوة القاهرة، التى ستقود الى نهاية حتمية مفجعة. ولكنه يترك  أيضا مسافات بينه وبين أبطاله، لايدينهم ولا يلومهم، ولكنم يقدمهم كما هم، كضحايا وكمتمردين فاشلين. تتسع اللوحة للعمدة الشرس، وللخفير خادم كل حكومة، للبشارى الشجاع الذى يهرّب عوض الى السودان، لصديقه الوفى الدمرداش الذى يسانده، لرجل يحميه فى بيته، للمغنى عبده  شندى الذى غرق فى الخمر، يبكى النوبة الضائعة، حتى أخذوه الى الخانكة، للخال جزولى  الذى لم يعرف تفاصيل موت ابنه فى الواحات، للأوربية سيمون المتسامحة والتى تقدس الحرية. معالم المكان أيضا حاضرة، طقوس الأفراح، الأغانى، التعديد على الغائب أو الميت. ألوان الرواية بيضاء وسوداء ورمادية، قطعة من الحياة بطعم الغربة المزدوجة: فى الوطن ، وخارج الوطن، والتى لا يعبر عنها سوى عدودة عبده شندى، التى حولت الإحتفال برجوع عوض الى بكائية:

“يا بلدى/ يا وطنى/ يا دارى/ يا تراب أجدادى/  يا نخلاتى يا نوبة/ يا واحد/ يا واحد/ يا واحد” .

مقالات من نفس القسم