دفتر موهَن

منى بنت حبراس السليمية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

منى بنت حبراس السليمية

ربما ما كنا لندرك قيمة الدفتر قبل أن تقول مريم ابنة جيراننا جملتها مازحة: “أعيرونا الدفتر لنشتري به راشن البيت”. ضحكنا من جملتها يومئذ على ما يمكن أن يفعله الدفتر الأهم على الإطلاق؛ فمن حَمَله حِيزت له الدنيا وما فيها، وأنال صاحبه امتيازات بلا عدّ. يشبه الدفتر في وقته ذاك مصباح علاء الدين، أو كلمة السر لدخول مغارة علي بابا.

أما الفكرة فقد كانت لصاحبها موهَن الهندي صاحب الدكان المقابل لبيتنا في سمائل، الذي أصبحنا نطلق عليه اسم (دكان موهَن) دون أن نعرف اسم مالكه الحقيقي الذي لا بد أن يكون عمانيا، ودون أن نُعير اهتماما لاسم الدكان المثبت على اللوحة الكبيرة المرفوعة على واجهته. لاحظ موهَن الكميات الهائلة من المشتريات التي تقتنيها العائلة من دكانه يوميا وشهريا، أفرادا وجماعات. كلٌ يأتيه لأشياء مختلفة قد تخصه أو تخص البيت كله من أساسيات وكماليات وقرطاسيات وألعاب أطفال وملابس وأوانٍ وكل ما قد يخطر في بال الناس في التسعينيات من سلع وأغراض. يشتري أفراد العائلة يوميا ما يفوت شراؤه في حفلة الشراء الشهرية، بيد أن الدفع الفوري لم يكن متيسرا دائما في زمن لم تكن فيه الفواتير نظاما معتمدا، غير أن النظام العائلي كان يقضي بسداد المستحقات بنهاية كل شهر فور وصول راتب أبي.

لاحظ موهَن أن كلاً كان يشتري ويطلب منه تسجيل ما اشتراه في الدفتر الأزرق الطويل، حتى الأطفال منا الذين كنا نذهب إليه مرات عدة في اليوم. وعندما كان يسألنا ما إذا كان والدانا يعلمان بالموضوع نجيب صادقين أو كاذبين: نعم يعلمان! فيكبر الدفتر وتكثر صفحاته في انتظار نهاية الشهر.

عرف موهَن أن الأمر قد فلت، فتناول في لحظة فارقة في التاريخ دفترا ورديا من رفٍّ في زاوية القرطاسيات، وحرص أن يكون ضخما وافر الأوراق، معلنا قانونا جديدا لتأمين نفسه وإبراء ذمته في التعامل مع بيتنا: (لا يبيع إلا لحامل الدفتر الوردي)، وأصبح هذا القانون ساريا حتى آخر يوم قضاه في عُمان، ولم يحاول أحد تغييره. يكتب موهَن كل شيء قرين سعره وتاريخ الشراء، وينسخ ما كتبه في دفتره الأزرق الطويل ضمانا يثبت حقه، حتى إذا ما حانت نهاية الشهر يسدد أبي المستحقات كلها يوميّها وشهريّها بعد عملية حسابية تستغرق من موهَن وقتا طويلا. 

ولا يمانع موهَن إذا تأخر السداد شهرا أو شهرين، وهي مرات استثنائية، ما دام كل شيء موثقا في الدفتر الأغلى على الإطلاق، فبيتنا يقع تحت أنظار دكانه مباشرة، وليس واردا أن نهاجر من البلد أو نغير العنوان. يفصل بين واجهة دكانه ومدخل بيتنا الرئيس شارعٌ عام، يتعين علينا اجتيازه للوصول إليه والعودة منه.

مع الوقت توسع موهَن في تجارته وكَبُر حجم دكانه حتى أصبح يشبه الهايبرماركت في وقت لم تعرف فيه سمائل بعد المحلات الكبيرة. وفي خطوة توسعية لافتة استقدم موهَن خلال فترة وجيزة كتيبة إخوته لمعاونته في أعمال الدكان.

يعرف موهَن وإخوته جميع أفراد العائلة، ومن لم يكن مألوفا منا في دكانهم يقدم الدفتر الوردي[1] كعلامة هوية وانتماء إلى بيت حبراس، فالدفتر كان حالة خاصة تخص بيتنا وحده، ولم يكررها موهَن مع غيرنا من البيوت، فلا أحد يشتري بالطريقة المجنونة كما كنا نفعل، ففي أحد الشهور سدد أبي مجموع مقيّدات الدفتر ما قيمته 800 ريال دفعة واحدة (وهو مبلغ كارثي على موظف في التسعينيات). لم يترك أبي هذه الحادثة تمر عفوا، فصبَّ جامَّ غضبه على أفراد عائلته جميعا لعاهة شرائهم المفرطة، وعلى موهَن وعصبته لاحتمال أن يكونوا قد سجلوا أكثر من المشتريات الحقيقية، إذ لا أحد يدقق من خلفهم لأنهم يقيدون الأشياء باللغة الإنجليزية أو بشيء آخر مما لم يكن يفهمه أحد في العائلة، فقرر أبي أن ينهي قصة الدفتر إلى الأبد. ولكن الأمر لم يدم طويلا، وعاد الدفتر تحت إلحاح الضرورة إنما بشروط: لا يُترك في مكان معلوم. لا يستخدمه الأطفال. لا تُشترى إلا الضروريات فقط. يقيّد اسم المشتري في خانة جديدة على يسار الجدول. ولكن الوقت كان كفيلا بأن يعود الدفتر سيرته الأولى وقد نسي أبي غضبته تلك، وآمن بأن الدفتر شرٌّ لا بد منه!

شكّل الدفتر على مدى سنوات عامل أمان غذائي ومالي واقتصادي، لاسيما في أيام كان يغيب فيها أبي عن البيت للعمل في نزوى، ولا يعود إلا في نهاية الأسبوع. يذهب مطمئنا إلى أن عائلته لن ينقصها شيء بوجود الدفتر. بل إننا إذا ما احتجنا إلى المال في غيابه، نذهب إلى موهَن ليعطينا إياه نقدا ويسجله في الدفتر: قرض | loan!

افتتح موهَن فرعا آخر لدكانه غير بعيد، في الجهة الغربية من التقاطع الذي يقع بيتنا على زاويته الشمالية الغربية، مستفيدا من وجود إخوته الذين باتوا يشكلون عصبة التموين الغذائي لكثير من بيوت المدرة وسمائل في التسعينيات. مع الفرع الجديد لم نكن بحاجة إلى دفتر آخر. دفتر واحد كان كافيا لدكانين تديرهما المجموعة نفسها من عصبة موهَن وإخوته.

في إحدى زياراتنا إلى الفرع الجديد اكتشفنا أننا نسينا الدفتر في البيت، فعاد أخي عامر للبحث عنه. في الأثناء كان أحد أفراد العصبة يراجع معنا بعض ما في الدفتر من مشتريات المرة السابقة. يعود عامر ليخبرنا أنه لم يجده في البيت. اقترحنا عليه الذهاب إلى الفرع الأول فلعل أحدنا تركه هناك. يخرج المسكين للبحث عنه في الدكان الآخر، وعبثا فتشوا المكان من دون أن يعثروا على أثر للدفتر. كنا نضع السيناريوهات الممكنة لحل مشكلة ضياع الدفتر: نستحدث دفترا جديدا. ماذا بشأن المشتريات غير المدفوعة فيه؟ يحتفظ موهَن بنسخة من المشتريات في دفتره الأزرق الطويل. نستخدم دفترا جديدا مؤقتا حتى يظهر الدفتر القديم. ماذا لو أن أحدهم سرقه وراح يشتري به ما يشاء من أغراض لبيته، ثم يعيده إلينا بعد ذلك خلسة وقد ضاعف القيمة المثبتة فيه؟ فال الله ولا فالكم. موهَن وإخوته يعرفوننا جميعا ولا يمكن أن يبيعوا أحدا غيرنا بالدفتر. عاد عامر لاهثا ليقول بأن الدفتر قد اختفى ولا أثر له في الدكان الأول أيضا. 

نعاود البحث من جديد، لنكتشف أن الدفتر موجود على طاولة المحاسب، وأننا كنا نراجعه قبل قليل دون أن ننتبه، بينما كان عامر المسكين يهرول بحثا عنه في كل الاتجاهات. ضحكنا للموقف الذي دفع ضريبته عامر وحده، ولكن عضو العصبة المناوب في الفرع الجديد أرضاه بعلبة عصير برتقال كانت شهيرة في عُمان باسم “سنتوب” نسبة إلى اسمها الإنجليزي sun topالذي يعني “قمة الشمس” مع صورة على جانبها الأيسر، ودفتر مصور كنا نحرص على إتمام جميع ملصقاته لنحصل على الجائزة التي كانت عبارة عن كرتون “سنتوب” جديد. وعدنا إلى البيت بعد وقت طويل ضاع في البحث عن دفتر كان أمام أعيننا ولم نره.

لم يكن حدثا سعيدا عندما قرر موهَن وإخوته مغادرة سمائل نهائيا والعودة إلى الهند بعدما أتم بناء بيوت له ولإخوته هناك، منهيا برحيله قصة الدفتر الوردي إلى الأبد، وليحل محله نشاط جديد: محل لبيع الملابس الجاهزة، ولافتة كبيرة جديدة تعلو واجهته انتبهنا إلى المكتوب فيها هذه المرة: (دار الأسرة).

……………………

[1]كلما نفدت أوراق الدفتر الوردي يستخرج موهَن وإخوته دفترا جديدا آخر ورديا غالبا. لذا فإن اللون الوردي أصبح علامة مميزة ارتبطت بموهَن ودكانه.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم