ارتدت جميلة ملابسها وأحكمت حجاباً حول رأسها بدقة. خرجت إلى الشارع برأسٍ مُثقل بالهموم. فى عامها الثالثُ و العشرين. نحاسية اللون. حسناء، وبهية الطلة. امتلكت عينين لوزيتين، وقلبٌ كهل. هامت عبر شوارع الحى الأرستقراطى جاردن سيتى. لازالت تؤمن بتميزه رُغم الطفو الرأسمالى فى الصحراء بأسماء مدن و مُجمعات سكنية عجيبة. حيّت البعض بابتسامة باهته، وقالت لنفسها لا أحد يعلم .. يجب أن أبتسم، مالهم وما بى ؟. كانت مشتتة الذهن تخطف عينيها طفلة صغيرة فى سيارة بجوار أمها. عجوزٌ تدخن سيجارة في بلكونة. شعور بطىء بالغثيان يسمح بتسرب صداع خفيف. بعض الملامح السريعة تمر أمام عينيها في قلق. أحكمت السماء رحابتها فوق رأسها، وأخذت تتلفت يمنة ً ويسارا. كادت أن تعود أدراجها للمنزل. توقفت لا تلوى على فعل شىء. أغمضت عينيها ثوانٍ لتتغلب على دقات رأسها المدوية. طنينٌ غريب لاح لها مقتحماً الأذن من باطن جوفها. أشاحت برأسها كى تصرفه و فتحت عينيها، ووجدت سيارة أبيها قادمة نحوها فى لهفة. توقفت السيارة و ترجل منها رجلٌ خمسينى يلعن الزحام و يعتذر لابنته فى شفقة.
فى لحظاتٍ كتلك تُخاطب جميلة نفسها، أو لعلها تُخاطب المجهول. تحاول أن تنفذ إلى شيئمعلومٍ لعقولنا لكننا لا نفهم مقدراته لنا. ما بين الشطط و الإيمان، تلمم نفسها و جموح عقلها متسائلة. لماذا يتمسك البعض بالحياةِ رغم هوانها ؟. تتذكر أنها أخلّت بالتزامها حين عادت بأفكارها المُحبطة عن الانتهاء من حياتها الإليمة. تحاول أن تُهدأ من روعها، وتؤكد فى عزيمة أن ما تمر به لن يدوم. يُقدم الطبيب ويردد تحية تراها جميلة فارغة من أى معنى، ولكنها تبتسم. ومن ورائه ترنو إلى مسامعها وقع خطوات قوية. كانت الممرضة المختصة بجسدِها الممتلىء و روحها النشطة. أقبلت على جميلة، فسعدت الأخيرة برؤيتها. احتضنتها الأولى، ثم حاولت طمأنتِها و أكدت على أن اليوم سوف يمر بسلام كسابقيه. اومأت جميلة مستسلمة، ورأسها ما زال قلقاً.
داخل غرفة مغطاة بالطلاء الأبيض تمددت جميلة. والممرضة تضع لها محاليل، وتبتسم فى شفقة مستترة. ناولتها بعد ذلك مكعبات الثلج المعتادة. وضعتها جميلة بجانبها، وفور أن بدأت الجرعة الأولى من جلسة العلاج أخذت تأكلها. كان العلاج يسبب قروحاً بالحلق، فأشار عليها الطبيب بأكل الثلج أثناء الجلسة. أنُهكت تماماً خلال ساعتين، ولم تنتهى الجلسة بعد. وبالخارج يغطى الأب وجهه بين راحتيه. كان حملاً يُثقل قلبه. يتألم فى هوادة يوماً بعد يوم لأبنته. لا من أحد يحمل معه هذا العبء. كريمة زوجته توافاها الله منذ سنوات، وقبل أن يكتشف مرض أبنته. أما أخوها فغارق بين مضاربة أسهم البورصة و تجارته بالصين، ولم يخبره شيئاً عن أمر أخته. تحمل الأمر وحده مستمداً طاقة آلهية وعونٌ ربانى. لم تكن تكلفة تلك الجلسات بالأمر العسير على خالد بكير الصحفى المتمرس من نسل عائلة بكير المرموقة، لكنه بدأ يستشعر بعضٌ من القلق من تكرار الجلسات بين آنٍ و آخر من ناحية، و إنخفاض النشاط الصحافى من خلال جريدته من ناحيةٍ أخرى. فى حقيقة الأمر كان ينشغل بذهنة بعيداً عن آلامه.
خرجت جميلة بعد أربعة ساعات من بدء الجلسة. كانت قد تعودت على قص شعرها منذ أن بدأت الجلسات للمرة الثانية بعد عملية الإستئصال. وهذه المرة أرسل خالد بكير فى شراء قبعة ثلجية تُحد من تساقط الشعر أثناء تلقى العلاج الكيميائى، وتوضع على الرأس خلال الساعات القاسية، ووجدت صعوبة بالغة مع الأطباء هنا فى كيفية التعامل معها، و التى أبتكرها باحثون أميريكيون و أرسل هو فى إستيرادها من السويد. ألتف رأسها بالحجاب فى غير إعتناء، خرجت على والدها يكاد أن يُغشى عليها. أجلسها إلى جواره قبل مغادرة المستشفى. أعطاها زجاجة مياه و طلب فى رفق أن لا تتوقف عن الشرب. كانت يداها ترتجفان و شفاها منفرجة و أعراض الغثيان بدأت تشخص على ملامح وجهها. أصر خالد بكير على أن ترتشف قدر المستطاع المياه، فهو ما أوصاه الطبيب عليه. شربت فى وهن، وضمها إليه و قاما إليه سيارته.
أُصيبت جميلة منذ أعوام ثلاث بورمٍ خبيث فى عنق الرحم، كان صادماً للأب بالطبع، وغريباً أيضا لإصابتها بمثل هذا المرض لفتاه فى هذا العُمر. تم إستئصال الورم وبقيت جميلة فى المستشفى يوماً كاملاً بعد أجراء العملية، والنزيف لم ينقطع. أصابها وهنٌ شديد، أقعدها طريحة الفراش لأسابيع من التعب النفسى، لكنها فى وقت لاحق شعرت بتحسن. كانت متابعات الكشف الدورى مُطمْئنة. لم تكن بالطبع عملية الإستئصال كافية فتبعتها رحلة أولى من عذابات الجلسات الكيميائى. وظنا هى و خالد بكير الأب أن الأمر سوف يتوقف عند هذا الحد. كان خالد بكير يعلم جيداً ضرورة المتابعة الدورية حتى لا يتمدد هذا الخبيث فى إتجاهاتٍ أخرى. و هذا ماحدث على مدار السنوات الثلاث السالفة من متابعات و أطباء و عذابات وجلسات لعينة تُنهك الروح قبل الجسد، وها هى تعود إليها مرةً ثانية خوفاً من الإنتكاس.
جميلة الآن تشعر بفوران داخل جوفها، تتصارع كتل صفراء قميئة مع عصارةٍ هضمية تندفع فى قوة خارج الفم. تتقىء مراتٍ إثر مرات. يصيبها الغثيان و الإغماءات المتكررة، تلعن من دونِ وعى هذا العلاج المرير وساعاته المُكثفة. يمسح خالد بكير جبهتها فى حنانٍ وتأثر. تطُلب جميلة منه أن يأذن لها أن تسافر. تريد أن تستعيد جزءاً من شغف الحياة. أن تسمع إرتطام الأمواج و ترى إمتداد البحر على صفحاته الريميه فتشعر بأن العالم ليس بالضيق الذى تظنه. تريد أن تستمتع بالضجر الذى طالما نفرت منه. سوف يزول الإعياء بإنتهاء الجلسة الأخيرة المُقبلة. رددت له .. ” لا أريد أن أبقى طريحة المرض فى إستسلام. نعم أنا أشعر بالضعف واللاجدوى من أى شىء، ولكنى مللت من هذا الشعور. أرجوك يا أبى أتركنى وحدى أستشعر مدى حريتى، حتى جسدى الذى يطبق على أنفاسى .. لن يقيدنى، فلا تفعل أنت “.
كانت تتأمل خصيلاته القليله التى ضربها شيبٌ طفيف. وأرتسم على ثغرهِ إبتسامه حقيقية. أجفل و قبل أبنته، وأقر أن لها ما تريد، وأضاف أنهما سيناقشان الأمر عن كثبٍ صباحاً.
***
فى شهر نيسان و طقسٌ ربيعى رحلت جميلة إلى الإسكندرية فى رحلة إستشفاء نفسى. من دون أى رقابةٍ أو رعاية. تمنت أن يسمح أباها للسفر خارج البلاد كما عزمت. كانت تداعبها جزر المالديف أو ماليزيا، لكن أنتهى بها الأمر إلى الإسنكدرية. وعدها خالد بكير برحلة أخرى خارج مصر شريطة أن يطمئن عليها بعد أن تسترد كامل عافياتها. الأمر الذى كان يخشاه أن تتألم أبنته بعيداً عنه، فى الوقت الذى لا يستطيع أن يرفض طلبها الوحيد. أن تكون وحيدة و تستردُ روحها المُتُعبة.
كانت الإسكندرية أولى الأماكن التى تبادرت إلى ذهن جميلة، طالما فكرة السفر خارج الحدود لم تعد مطروحة. هنا فى تلك المدينة العظيمة قُدس الطب، ولقى إهتماماً و بحثاً من قبل السكندريين الذين أضاءوا العالم يوماً، وقبل أن يزدهر الطب أكثر على أيدى علماء المسلمين. قصدت حى المنتزة و استقرت بشاليه العائلة .. وحيدة. أنفردت مع نفسِها و موسيقاها و الكتب. كان يطمئن عليها أبيها كل بضعة ساعات من خلال مهاتفة تليفونية أو محادثة إليكترونية. أما هى فلم تعد تسيطر عليها تلك الأفكار السوداوية عن جدوى الحياة، ولذة الموت الغيبية. أطلت من شرفتها على فضاءٍ رحب، وقد أعدت نفسها بالأدوات لترسم. موهبتها القديمة. لازال هناك نبضٌ. لوّح لها شخصٌ خيالّىِ. تأملت ملامحه الغامضة، وحولتها بريشةِ فنانٍ مُحمل بهموم العالم البائس إلى لوحةٍ فنية تحملُ تاريخاً، و روحاً، ونزفاً. تخيلت أنها تحُب. تحُبه هو. هذا اللامع العينين التى أوجدته للتو ريشتها. تغلبت على رجفة أصابعها، وأنسابت الحياة من بين يديها كعازفٍ موسيقىِ ترك آلته طوعاً لقيادة أوركسترا كلاسيكية. أنتهت من لوحتها و قد إنسدل الفجر ونسماتِه، وأرسل البحر إليها منُادياً. غادرت الشرفة هبوطاً إلى الخارج بقدميين حافيتين. تلألات حبات الرمل تحت خفِتها. كان كل شىء متناغماً، حتى تلك الموسيقى الهادئة المُنبعثة من سماعات أذنيها كانت مصادفةً تتمايل مع نسمات الليل و الإرتطام الخافت لموج البحر على الشاطىء. أرهفت السمع لموسيقى البحر بعد أن أزاحت سماعات الرأس. كانت سعيدة. أفترشت الرمل و أرخت كفّيها وراء رأسها. أنتبهت أنها خرجت من دون غطاء شعرها، إبتسمت. كان قصيراً مصففاً فى انسياب. تمايلت الأفكار داخل رأسها. والغريبُ فى الأمر أنها أفكارٌ تتشبثُ بالحياة. أيقنت جميلة فى تلك اللحظة أنها تُصارع من أجل الحياة، وأنها تحبها. التجارب الأليمة تولد معرفة عميقة. فالحياة الواحدة لا تكفى مَن مثل جميلة لإرضاء جموح تطلعاتها. أغمضت عينيها و تراقصت. لم يكن موج البحر صاخباً، ولكنها أعتدلت، ثم توقفت فى رشاقة. دارت وقد باعدت يداها فى الفضاء. لفت حول نفسها و رأسها عاليه تتطلعُ إلى السماء. لم تشُعر بالغثيان. فى تلك اللحظة طارت جميلة لفضاءٍ لم نعرفه من قبل، وبينما كانت تستكشف رحابة العالم داخل روحها، تلمسُ خيطٌ أبيض السماء من الفجر، وتجمعت الحمامات فوق رأسها فى حلقاتٍ دائرية تستمتع برقصتها. وبدء صباحٌ جديد.
*إهداء إلى الحالمات المتعبات
*قاص مصري