خيري شلبي: المدينة خرجت عن الإنسانية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورته : رشا عبدالوهاب

 حقق الكاتب الكبير خيرى شلبي حلمه القديم بكتابة تراجيديا غنائية مصرية في روايته الجديدة "إسطاسية " الصادرة حديثا عن دار الشروق. وعاد العم خيري إلي سحر الريف وغموضه ليتناول موضوعات شائكة منها الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين والعدل الإلهي والقانون الأرضي واشكاليات اخرى ، المدهش أن صاحب "صحراء المماليك" لم يكن يعلم أن اسم إسطاسية يعني طالبة العدالة, ليتطابق بالمصادفة العنوان مع المضمون. ففي شخصية إسطاسية تتجسد ملامح المرأة المصرية القوية والمقدسة على مر العصور.

في هذا الحوار يتحدث خيري شلبي عن الرواية وعن رؤيته للقضايا التي طرحها من خلال عمله الأدبي كما يكشف عن سر إلمامه بتفاصيل وتلابيب الشخصية المصرية وهذا نص الحوار:

ـ متى بدأت تفكر في كتابة رواية “إسطاسية “? ولماذا اخترت هذا الاسم الذي يبدو غريبا وغير مألوف  ليكون عنوانا للرواية?

ـ   الاسم في رأسي منذ أكثر منذ 65 عاما. كنت قد سمعته في قريتنا في أيام الطفولة. إسطاسية إمرأة  قبطية والقبط في بلدتنا كانوا نسبة كبيرة لأنهم أصحاب البلد في الأصل والمسلمون وافدون عليهم وأصبحوا أغلبية لكن الأغلبية المسلمة في القرية -وقريتنا على سبيل المثال -كانوا مربوطين بالقبط برباط عاطفي وثيق جدا على اعتبار أن السيدة مريم وابنها السيد المسيح من نجوم الإسلام وبالتالي فالدين المسيحي كانت مصر من أوائل الدول التي احتضنته بالإضافة إلى أن السيدة مريم في رحلتها للخلاص جاءت إلى مصر. وكان  لدى أقباط القرية أسماء لها فتنة لدي وكنت أحبها جدا لغرابتها وإيقاعها الموسيقي ولاختلافها عن الأسماء التقليدية الكثيرة التي نتداولها كمسلمين ومنها اسم إسطاسية, جذبني الاسم وجذبتني الشخصية فهي باقية في رأسي منذ الطفولة تنمو إلى أن طرأ مقتل شاب قبطي يشبه محفوظ ابن إسطاسية ووجدت أن إسطاسية تحمل الملامح المصرية الأصيلة للمرأة المصرية القوية. وإذا كانت الدول أو الملل الأخرى تعامل المرأة باعتبارها كائنا حيوانيا أو كائنا من الدرجة الثانية أو بمعنى أصح كائناً لا درجة له, كان المصريون لديهم المرأة ملكة مثل حتشبسوت ولو لم تكن ملكة يكون لها تأثير قوي في السياسة. وهناك نماذج من المصريات القديمات مثل كليوباترا فالمرأة في مصر قوية ومحترمة ومقدرة وتكاد تكون مقدسة. إيزيس التي تعتبر روح مصر الأصيلة الأسطورة الخاصة بها عبقرية.

حتى الآن يمكن القول إن محنة مصر مبعثرة, أشلاؤها مبعثرة بأشكال متعددة وخلاصها في روح إيزيس, أن تكون هناك قضية كبيرة عامة تجمع الأشلاء المصرية على حاجة واحدة وهدف واحد وعلى قضية واحدة فتتقدم البلاد. ملامح الشخصية المصرية كما قرأتها في التاريخ وكما رأيتها في الواقع مجسدة في القبطيات على وجه التحديد وصلابة النفس في مواجهة أي مشاكل أو صعاب الحياة كل هذا اجتمع في شخصية إسطاسية.

 

ـ   ما معنى كلمة إسطاسية?

ـ بعدما كتبت الرواية سألنى شاب عن معنى اسم إسطاسية, أنا لم أسأل لأنه لم يكن يعنيني معنى الاسم بقدر ما يعنيني الاسم نفسه بغموضه الساحر. ويمكن لو كنت قد عرفت معناه ربما كان قد بطل سحره لكن عرفت أن الاسم معناه (طالبة العدالة) دهشت أن يكون الإلهام بهذه الشفافية حتى من دون وعي معرفى بحقائق الأشياء وهذا شيء مدهش. لا أريد أن أبدو معجبا بما أكتبه لكن رواية إسطاسية أنا سعيد لأنني كتبتها وكنت أريد أن أكتب منذ زمن بعيد تراجيديا مصرية غنائية.فظهرت شخصية إسطاسية المرأة الثكلى التي قتل ابنها ولم تستطع العدالة الأرضية أن تجلب لها حقها وتم الإفراج عن المتهمين لعدم كفاية الأدلة فلجأت إلى القضاء الأعلى وإلى السماء. ونجحت في إقامة حداد دائم في قريتها وفي القرى المجاورة لمدة ست سنوات أصبح الناس محاصرين بصوتها وبما فيه من حزن ولوعة, متأثرين إلى حد كبيراً ووصل الأمر إلى قناعتهم بأن إذا كان تأثرهم بلغ هذا الحد فما بال السماء وهي منبع العدالة التي لابد أن تستجيب لهذه المرأة الثكلى ولهذا الدعاء المتواصل كل يوم. وأصبحت القرية تعيش في حالة توتر, وتكاد تكون تعرف الجاني لكنها تعرفه بشكل غامض ينقصه التحديد وتريد أن تتحدد الأمور وأن تنتهي البلد من حالة الذنب التي تعيش فيه كلها وأن  تأخذ العدالة مجراها وأن تصمت هذه السيدة التي يشبه ندبها صوت الضمير والإلحاح الذي يضرب في قلوب الناس ليل نهار كأنه يتوعدهم بالأذى إذا لم يشاركوا في البحث عن قاتل ابنها.  لا أعرف إذا كنت قد وفقت في كتابة الرواية كما كنت أرجو لها أم لا ولكن الطبعة الثانية خلال شهرين نفدت لدرجة أنني الآن أبحث عن نسخة وحيدة في أي مكتبة لي أنا شخصيا كي احتفظ بها فلا أجد. وهذا دليل على أن الرواية حالفها بعض التوفيق.

 

ـ   الرواية تناولت قضية شائكة وهي الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر, هل كنت تقصد الدخول في هذا الحقل الشائك?

ـ لم أكن أقصد ذلك لكن الواقع فرض هذه القضية. الظروف التي تحدث الآن ليست وليدة الحاضر لكن لها جذورا طويلة. هناك بالفعل فتنة طائفية موجودة خصوصاً بعد ثورة 1919 وبعد نجاح مصر في أن تكون كتلة واحدة. الاحتلال الإنكليزي بدأ يدخل في نسيج العلاقة ويمكن لورانس داريل في “رباعيات الإسكندرية” أشار إلى ذلك بشكل صريح خصوصا أنه كان يعمل في جهاز الاستخبارات الإنكليزية في ذلك الوقت فكان الاحتلال الإنكليزي يبث الفرقة بين المسلمين والمسيحيين عملا بنظرية “فرق تسد”  التي يعيش عليها الاحتلال في كل مكان فرقوا المسلمين والمسيحيين وكانوا يسعون بالوقيعة بين الطرفين. يتسلطون على مشايخ المسلمين الذين لبسوا العمامة والجبة وملابس المشايخ الكبار وأصبح يحق لهم أن يخطبوا في المساجد ويعظوا الناس وهكذا التقطت الاحتلال مثل هذه الفئة التي ليس لديها بعد فكري ولا ثقافي والغارقة في التعاليم الدينية فقط التي تعرفها وأوهمهم أن هناك حركة تبشير وأن المسيحين يخربون في الإسلام من الداخل ويلفون من جهة أخرى على المسيحيين ويقولون لهم إنكم مضطهدون وليس لديكم مناصب وأن المسلمين يسعون للقضاء عليكم وللإبادة الجماعية إلى آخره. فعلا أوجدوا فتنة بواسطة الطوائف المتخلفة من الطرفين الذين يتصلون بالجمهور الديني سواء في المسجد أو الكنيسة ومثل هؤلاء لديهم تأثير شعبي قوي أقوى من الأئمة الكبار الذين يؤثرون في النخبة فقط والنخب تظل طوال عمرها نخبا تستعلي على العامة فلا يبقى للعامة سوى أنصاف وأرباع المتعلمين. وبعد الثورة استيقظت الفتنة الطائفية  ثم نامت وتظل تنام وتستيقظ.

 

ـ   تناولت الرواية العدل الإلهي والقانون الأرضي لكن العدل الإلهي انتصر لإسطاسية وانتقم لها من قتلة ابنها كما ظهر البطل الذي يمثل القانون على أنه يحمل قدرا من السذاجة?

ـ  المحكمة الإلهية غير المحكمة الأرضية. العدل الإلهي يتمثل في حالة القلق والفزع والعذاب الذي يعيش فيه الجناة  وبسببهم يعم القلق على باقي الناس وهذه أول دلائل العدل الإلهي. والعدل الإلهي يتم بشكل موجع بفقد الأبناء وأن العم البراوي يقدر له أن يظل حياً إلى أن يرى أبناءه وقد ماتوا واحدا تلو الآخر وأن كل ما خطط من أجله وارتكب الجرائم بسببه ضاع. وفي النهاية تتضح حيثيات العدل الإلهي. والدليل فيها أنها قصة دائرية مثلها مثل شفرة الأرض نرجع لنقطة البداية نقطة جديدة لبداية جديدة. انتهت القضية وان هذا الشاب الذي يمثل العدل الأرضي الذي تخرج في كلية الحقوق ويحلم أن يكون نائبا عاما وقاضيا ويجرب إمكاناته في هذه القضية ويرى قدرته على الاحتمال والتحقيق وفسد حلمه بسبب عائلته وتدور الأيام وتأتي إليه إسطاسية نفسها تطلب منه أن يدافع عنها ويرفع لها قضية ضد عمه الذي اغتصب أرضها. ويمكن أن تكون شخصية البطل قد اتسمت ببعض السذاجة باعتبار أن الشخصية الفلاحية تربت تربية أخلاقية مثل حمزة فأبوه إمام مسجد وأمه إمرأة متعلمة كما  توجد حواجز قوية بينه وبين الدخول في مغامرات أو أحزاب. هذا النمط موجود عشناه جمعيا كفلاحين جاءوا إلى المدينة لكنها تختلف من واحد لآخر.

  تجريب جديد في الشكل في هذه الرواية, لماذا اخترت أن تكون “إسطاسية” رواية أصوات?

اشتغلت على هذا الأسلوب في رواياتي الأخيرة في معظمها. الرواية الصوتية على أساس أن “الكاتب العليم” الذي يعرف كل شيء عن أبطاله لم تعد مقنعة للقارئ العصري المادي الذي لا يؤمن إلا بكل شيء مادي ملموس. ولابد من وجود مرجعية إن القارئ يعرف أن هذه المعلومات آتية من مصدرها الأصلي. فبدلا من أن يحكي الكاتب عن بطله, تصبح الشخصية تتحدث عن نفسها ومشاعرها وأسلوبها. وأزعم أنني أمتلك القدرة على الحكي بقواميس متعددة حسب طبيعة الشخصيات بحيث لا يدخل في الشخصية أسلوبي أنا ككاتب ويأتي كل شيء من قاموس الشخصية ومفرداتها الخاصة سواء كانت شخصية قهوجي او اسكافي أو مثقف أو مدرس حيث يمتلك كل شخص قاموس مهنة مؤثر على حياته من دون امتلاك هذه القدرة لا يستطيع الكاتب كتابة رواية صوتية.

 

ـ   لماذا عدت للكتابة عن الريف في هذه الرواية خصوصاً أن روايتك الأخيرة “صحراء المماليك ” كانت عن المدينة, ماذا عن ثنائيات الريف والمدينة في أعمالك?

ـ  عندما أكتب عن الريف أعيش  حالة صفاء كامل على عكس ما أكتب عن المدينة. وأنا أكتب عن المدينة مهما كنت مختلطا بها إلا أنني أظل دائما أبدا بالفلاح الذي يكره المدينة لأنها مدينة متلونة غير القرية التي نعرف أصول الناس بها والتي تمثل الحب الحقيقي والاحترام الحقيقي والقيم العظيمة والمبادئ الأخلاقية. نعم اكره المدينة وأفزع من أضوائها. فكلما كثرت الأضواء كثرت درجة الغش واللعب بالنفوس. المدينة التي تحرض الانسان على بيع شرفه والسقوط في الخيانة ومستنقع التكسب غير الشرعي والسرقة لأنه لا يعرف الناس بعضهم بعضاً ولا يعرفون أصول بعضهم, هذا يعكس إلى أي حد أن المدينة أصبحت مرتعا للقلق والخروج عن الأخلاق وعن الإنسانية أحيانا. وأتذكر أنه في المدينة أن الزيف ضرب أطنابه في كل الناس حتى الذين جاءوا من أصول جيدة في قراهم فجأة يتحولون إلى كائنات من الدرجة العاشرة في المدينة نظرا لسوء حظ أو لسوء سلوك بسيط جدا أدى إلى أن الشخصية تنهار ولا يعرف أن يلمها ثانية فيحكم عليه أو عليها أن يعيش أو أن تعيش في هذه الصورة الذي حكمت عليهم. المدينة مجموعة من الفخاخ المنصوبة في كل مكان ولهذا أكرهها وعندما أكتب عنها أشعر بمعاناة شديدة لأن فيها أشياء أنا أرفضها ومطلوب مني أن أهدأ وأتناولها بشيء من الحيادية لأنه في نهاية الأمر لابد أن تمنع الكراهية عن الكتابة. أكون رافضا نعم, لكن كراهية لا. أكون رافضا لأن هناك صورا كثيرة في وسط هذه المستنقعات التي نعيشها في المدينة حين نقترب منها ونتأملها سنجدها تختلف عما اشتهرت به . واحدة يقولون عنها “اللي قتل الحاوي” وعندما تجلسين في جلسة- وهذه عادة مصرية ذميمة- ويرد ذكر شخص ما كل واحد يتطوع بحكي حكاية لم تحدث وتم تأليفها طالما أنه وجد أن تيار الليلة الضرب في فلان. ولما نقترب من فلان بهدوء وبصفاء نكتشف أنه غلبان وأن هناك بذرة ما لما يحكي عنه. يمكن أن نرى شخصا ما في لحظة ضعف معينة, ومن الخسة أن نقرنه في أذهاننا بهذه اللحظة. هذه فجاجة إنسانية لابد أن أرى ما وراء لحظة الضعف هل هي أصيلة أم محض مصادفة حتى لو واحد حكم عليه في شيك من دون رصيد أو تبديد أمانة هذه المجالات بها مرتع لتشويه الكثير من الأبرياء والمحترمين وكل ذنبهم  أنهم غير خبراء بالألاعيب. القرية تفرض علي ككاتب صفاءها حيث كل الأشياء مرئية من دون ابتذال وهناك قوانين تحكم الدنيا ولا يوجد عنف في القرية مع أنه هناك ليل حقيقي في القرية على عكس المدينة التي لا يوجد بها قمر على عكس الريفيين الذين يعرفون القمر ويصادقونه ويكتبون له أغنيات تتبعه من أول أن يكون هلال إلى أن يكون بدرا في ليلة 14 هذا هو سر حبي للقرية مع التذكر بأننى تكونت أصولي كلها في القرية قبل أن أرحل إلى المدينة ومعظم الأفكار تأتي من القرية.

 

ـ   استعانت إسطاسية بالندب وأقامت حدادا دائما على روح ابنها القتيل, ما السر وراء استخدامك لعادة مصرية خالصة مثل الندب والأغاني الشعبية في الرواية?

ـ الندب موهبة مصرية خالصة متصلة وأساسها النزعة الحضارية المصرية لأن الحضارة المصرية قامت على قهر الموت. فالمصري يرى أنه ليس من المعقول أن يكون الموت نهاية كل شيء ولابد من وجود حياة أخرى بعد الموت وتصور هذه الحياة ومن الجدير بها وكيف يصل إليها وصور الحساب أيضا. ولأنه كان خائفا من أن يزيل الموت كل هذه الحضارة وكل هذه الأشياء قرر أن يتحدى  الموت بالبقاء  فبني الأهرامات وسجل التواريخ والأحداث والوقائع بالنقوش على جدران المعابد وخلد ذكر الموتى في أناشيد شعبية يسهل حفظها كما خلد الوقائع الحربية أيضا بالشعر. ومن هذه الخصيصة فن العديد أو فن العدودة لأن المقصود أن المعددة أو من يسمونها  الندابة وأميل إلى الاسم الأول لأن الندابة اسم به استعلاء غير واع والمقصود من المعددة التي تعدد  مناقب المتوفي وخصاله الحميدة وأخلاقياته العظيمة.

مقالات من نفس القسم