فهناك في الزمن البعيد حين بدت محاولات الهواء لتحريك أغصانها وفروعها مستحيلة، توارت في باطن الأرض وانطمرت إلى أن تغيرت الدنيا ومن عليها. أزاحت أعاصير الرمال التي تغطيها، من جديد أطلّت على المكان الذي ولدت فيه، لم تجد غير الفراغ يحيط بها، والشمس تلهبها بنارها، حتى وجدها ذلك التاجر في مكان ليس لها. فلا طيور تحط على رأسها، لا أغصان بأوراق خضراء ملتصقة بها، لا حيوانات تتجول في حضورها، ولا حشرات تتسلق ساقها. نقلها التاجر إلى بيته، بين أبناء جيل آخر من الأشجار الحية، وأحفاد تنمو تحت ظلها، على العشب الأخضر الندي، دبّت الروح من جديد في لحائها، وتسربت إلى لُبِّها المحفوظ في تابوت صخري.
وفي ليل معتم، هرب فيه القمر من مكانه، سُمعَ صوت يقترب منها، شاهد آخرون من سكان الحي حيواناً غريباً يقفز في الممر، ذا أرجل رفيعة، وجسم نحيل، يحمل فريسة تئن بين أنيابه، يعدو تجاه الصخرة، متخطياً البوابة الحديدية المفتوحة. أتى بها ليأكلها فوق الصخرة في ذهول ممن يراه. أصبحت الصخرة مرقــــــده، انحصرت دنيته في نباتات الحديقة من حوله.
الكسل والتفكير العميق في أمر ما يشغل ذهن ذلك الحيوان، جعلاه يكتفي بأن ينشب مخالبه بين الحشائش ليندفع الماء إليه. يشرب ويمدد رقبته أمامه، دون مبالاة بالرعب الواقع في قلوب أصحاب البيت المحبوسين في داخله.
بعد أيام، نسى اقتناص الفرائس، استوطن عندهم، اكتفى بأكل الصفادع، والفئران، والحيوانات التي تضل طريقها وتقع بين قدميه، كما هجر المحبوسون في رعبهم الدنيا، وانكمشوا داخل الجدران. بات عليهم أن يبحثوا عن وسيلة تخلصهم ممن قطع عليهم الطريق.
***
بينما الحال هكذا، مَرَّ ساهر من أمام البيت، ظن أن الحيوان مُربّى لحراسة سكان البيت، أو أن سيركاً ما على وشك أن يبدأ عروضه. دفعه الفضول إلى الوقوف طويلاً، مرتكناً بكوعيه على حافة السور. غازل مبتسماً قوة الحيوان النائمة في استسلام ولا مبالاة له، أتى بحركات عشوائية في الهواء، وأصوات مختلفة شكَّلها بلسانه وشفتيه، وجَسّمّها بيديه.
بدأت الحقيقة الغائبة تتكشف أمامه، ظهرت خطوطها الأولى في الأيدي الممتدة إليه من النافذة العلوية، ورؤيته وجه البنت الصغيرة التي تتمسح بالزجاج، وهي محمولة على يد امرأة مذعورة، تلمّ لها شعرها الأسود الطويل بيدها الحرة.
تأكد أن الحيوان الغريب، تقترب هيئته من السلعوة التي سمع عنها، ولم تقع عيناه عليها من قبل، يُرهب أهل البيت، وأنهم في انتظار من ينجدهم، ويدفع عنهم أنياب الافتراس، حين أتاه صوت واهن من الغرفة الملاصقة للبوابة الحديدية التي يقف أمامها. وقف ينظر في عينيه، طالت وقفته، لاحظ أنه لا يبرح الصخرة، ولا ينام، دائم الترقب والحذر، انشغل به وأصابعه تعبث بشعر ذقنه النابتة، التي لم يحلقها منذ يومين، قرر أن يدخل معه في عراك. فها هي فرصته في أن يعجن فعله بدهائه، أن يرتدي قلادة الشجاعة على صدره، أن يثبت لزوجته أنه لم يكن خائباً في سعيه وراء الدور المناسب له في الحياة، وأن كرهه وظيفته الرتيبة في الجهاز الحكومي، من أجل أن يجد ذاته المنطلقة، لم يكن مجرد خيال، أو وهم سيطر عليه. فقد كانت لديه رغبة في أن يعمل مدرباً للأسود والنمور في سيرك المدينة، لكنه لم يجد الفرصة المناسبة. وعناد أبيه معه جعله يمتثل له، ينتظم في عمل روتيني، يستهلك منه النهار بلا فعل يقنعه بجدوى ما يفعل.
***
مطوحاً رأسه يميناً وشمالاً، عاصراً تفكيره، يستجدي فكرة يبدأ منها، دلف من البوابة، ومنها إلى الغرفة الصغيرة، وجد فأساً في ركنها، رأى رجلاً هرماً متكوماً في رعب، سأله وهو يخفف من خوفه:
– ماذا بك يا شيخ؟!
– السلعوة تحبسني هنا.
جلس إلى جانبه، بدأ يشد أطراف الحديث في الاتجاه الذي يريده، باعثاً الطمأنينة في قلبه. أراد أن يعرف كل التفاصيل من الوحش الراقد في حديقة بيت على أطراف المدينة، تاركاً مجاهل الجبل خاوية منه. استمع إليه وهو يحاول أن يتماسك، مشيراً بيديه المرتعشتين تجاه الحديقة.
***
قَدّرَ المسافة من الحجرة إلى الصخرة، اختمرت في رأسه خطة، أمسك الفأس بقبضته، وبدأ في التنفيذ.
***
أصحاب البيت في الداخل لم يتوصلوا إلى طريقة للخلاص، وكلما مر الوقت بدوا مهمومين ومشلولين عن إمساك شيء ينجدهم، اتجهت قلوبهم إلى السماء وهم يسترجعون في ذاكرتهم ما اقترفوا من أفعال، ندموا على الأشياء التافهة التي فعلوها ويفعلها جميع الناس، دون أن تدرج في قاموس الإثم، بدت في ضمائرهم شديدة الإيلام.
استغرقوا في ذلك وقتاً طويلاً، أخرجهم فجأة من موتهم صوت عراك شديد في الحديقة، اقتربوا من النوافذ، نظروا باندهاش وصياح.
***
وجدوا رجلاً قوي البنية، يصرع السلعوة فوق الصخرة ممسكاً بفكيها، أبعدهما عن بعضهما، جذبهما في اتجاهين مختلفين بقوة كبيرة، جعلت الحيوان يقور ويرفع صوته مزمجراً.
أخذا يتقلبان فوق بعضهما. في النهاية, استطاع الرجل أن يمزقه إلى نصفين حيين، وضعهما تحت قدميه، وضغط بشدة.
مشهد قوي جعلهم يفغرون أفواههم، وروح الحيوان اللاهثة تئن متألمة، تصعد من اللحم الحي الملقى فوق الحشائش.
خرجوا إليه مندفعين، أدخلوه إلى البيت وهم يتعجبون من قوته، ومن عراكه مع حيوان كاسر لا يُقدر عليه. حاصروه بالأسئلة والفرح يحركهم، ويضخ الحياة من جديد في أوصالهم:
.. كيف وصلت إلى السلعوة؟
.. ألم تخف منها؟
.. كيف واجهتها؟
.. كيف تمكنت منها بتلك السرعة؟
.. لم واجهت الموت لأجلنا؟
ظل في صمته، تحت حصار أسئلتهم ودهشتهم، محاولاً استيعاب ما فعله..