خوليو كورتاثر: أحمل كتبي داخلي 

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورته: إيفلين بيكون جارفيلد

إيفلين جارفيلد: دعنا نبدأ ببعض الأسئلة العامة. كيف يمكن لك أن تشير إلى كتابتك ضمن سياق الجيل الأدبي في الأرجنتين وفي أمريكا اللاتينية؟

خوليو كورتاثر: السؤال غامض بعض الشيء لأن هناك طرقًا عديدة للانتماء فيما يتعلق بالأجيال. أعتقد أنك تشيرين إلى جيل أدبي بعينه. دعينا ننحي أمريكا اللاتينية جانبًا نظرًا لأن البانوراما الأرجنتينية معقدة بما يكفي. لكي تفهمين الأجيال ينبغي عليك أن تبعدي نفسك زمنيًا لأنه مادمت تعيشين ذلك السياق الجيلي، فإنك لن تدركينه. أقصد أنني عندما بدأت الكتابة، أو حتى النشر في عام 1950، لم أكن مدركًا لأي سياق جيلي. كنت قادرًا على تبين بعض مراكز القوى، كتاب أعجبت بهم في الأرجنتين وآخرين لم أعجب بهم، لكنني الآن، بعد خمسة وعشرين عامًا، أعتقد أنني سأكون قادرًا على قول بعض الكلمات العقلانية عن "هذا الجيل". الشطر الأول من عملي محدد ضمن خطوط فكرة محددة جدًا، القصة القصيرة، "بيستياري" على سبيل المثال. من المنطقي تخيل تصور أنه في الخمسينات كنت ميالاً إلى غالبية الكتاب المثقفين وذوي الذوق الرفيع، وإلى حد ما بعض المتأثرين بالآداب الأجنبية والأوربية، قبل أي شيء الإنجليزية والفرنسية.

حاورته: إيفلين بيكون جارفيلد

إيفلين جارفيلد: دعنا نبدأ ببعض الأسئلة العامة. كيف يمكن لك أن تشير إلى كتابتك ضمن سياق الجيل الأدبي في الأرجنتين وفي أمريكا اللاتينية؟

خوليو كورتاثر: السؤال غامض بعض الشيء لأن هناك طرقًا عديدة للانتماء فيما يتعلق بالأجيال. أعتقد أنك تشيرين إلى جيل أدبي بعينه. دعينا ننحي أمريكا اللاتينية جانبًا نظرًا لأن البانوراما الأرجنتينية معقدة بما يكفي. لكي تفهمين الأجيال ينبغي عليك أن تبعدي نفسك زمنيًا لأنه مادمت تعيشين ذلك السياق الجيلي، فإنك لن تدركينه. أقصد أنني عندما بدأت الكتابة، أو حتى النشر في عام 1950، لم أكن مدركًا لأي سياق جيلي. كنت قادرًا على تبين بعض مراكز القوى، كتاب أعجبت بهم في الأرجنتين وآخرين لم أعجب بهم، لكنني الآن، بعد خمسة وعشرين عامًا، أعتقد أنني سأكون قادرًا على قول بعض الكلمات العقلانية عن “هذا الجيل”. الشطر الأول من عملي محدد ضمن خطوط فكرة محددة جدًا، القصة القصيرة، “بيستياري” على سبيل المثال. من المنطقي تخيل تصور أنه في الخمسينات كنت ميالاً إلى غالبية الكتاب المثقفين وذوي الذوق الرفيع، وإلى حد ما بعض المتأثرين بالآداب الأجنبية والأوربية، قبل أي شيء الإنجليزية والفرنسية.

من الضروري أن نشير إلى بورخس، على الفور. لأنه من حسن حظي، أن تأثري به لم يكن على مستوى الموضوع (التيمة) أو التقنية، لكنه بالأحرى كان تأثرًا أخلاقيًا. علمني بورخس أنا والآخرين أن نكون دقيقين جدًا، صارمين، وعنيدين غير متهاونين في كتابتنا، ننشر فقط ما هو أدب بارع ومنجز على نحو رائع. من المهم الإشارة إلى هذا لأنه، في تلك الفترة، كانت الموضوعات الأدبية في الأرجنتين مهملة جدًا وغير مصقولة. كان هناك قليل من الالتزام، وقليل من النقد الذاتي. شخص ما كنموذج غير عادي مثل “روبيرتو أرلت”، على العكس من بورخس على كافة المستويات، لم يكن لديه نقد ذاتي على الإطلاق. قد يكون هذا أفضل، فربما كان النقد الذاتي سيجعل كتابته عقيمة. لغته كانت غير مُعتنى بها، مليئة بالأخطاء الأسلوبية، وضعيفة. لكن كانت فيها قوة إبداعية هائلة. لدى بورخس طاقة إبداعية أقل على هذا المستوى، لكنه يعادل ذلك بجودة الانعكاس الفكري والتجويد الذي كان بالنسبة لي أمرًا لا ينسى. لذلك ملت تلقائيًا نحو نزعة التفكير العقلاني المفرطة في الأرجنتين. لكنه كان ميلاً يجمع بين موقفين متناقضين كلية لأنني في ذلك الوقت كنت قد اكتشفت الكاتبين الشعبيين، “هوراشيو كويروخا” و”روبيرتو أرلت”. أنت تعرفين الانقسام بين مجموعة فلوريدا ومجموعة بويدو. اكتشفت هؤلاء أيضًا في بويدو. وما أسميته “قوة”، منذ لحظة، ترك انطباعه بشدة في عقليتي. لذا، على سبيل المثال، فإن جانب حياة المدينة بأكمله في “بورتينو” في مجموعتي القصصية “كتاب الحيوان”، أنا مدين فيه – ليس كتأثير مباشر لكن بالأحرى كموضوعات (تيمات) غنية ثرية – إلى روبيرتو أرلت. حيث رغم كل الذي قيل عن بوينس أيرس بورخس – بوينس أيرس الغرائبية، المخترعة – فإن بوينس أيرس هذه موجودة بالفعل لكنها بعيدة كل البعد عن كل حقيقة هذه المدينة. لاحظ أرلت الأشياء من جذورها فيما يتعلق بالثقافة، والأمور الحيوية والدوافع الشخصية، ورأى بوينس أيرس التي يمكنه العيش فيها والتنزه عبرها، والحب والمعاناة فيها، في حين رآها بورخس أقدارًا أسطورية أو ميتافيزيقية وسرمدية. وعليه ترين، مكاني في هذا الجيل – الذي لا أنتمي إليه لكن للسابق عليه – في نفس الوقت يحقق نوعًا من قواعد الطاعة الأخلاقية والسلوكية لدرس بورخس العظيم، وأيضًا الطاعة الأرضية، الحسية، الشهوانية، إذا كنت توافقين، لروبيرتو أرلت.

هناك أمثلة عديدة بالطبع، لكن هذا المثال يكفي لإعطائك فكرة عما أعنيه. سلك آخرون في جيلي مسارات مشابهة أحيانًا، لكنني أعرف أنه ليس هناك أحد آخر جمع بين هذين القطبين في آن واحد. كان هناك بورخسيون زائفون أنتجوا أدبًا منتحلاً أو محاكيًا.

وأسوأ ما يمكن لأي واحد، فيما يتعلق ببورخس، أن يحاول القيام بتقليده، لأن هذا سيكون مثل محاولة تقليد شكسبير. في الأرجنتين، أولئك الذين حاولوا تقليد بورخس، عن طريق تأليف كتب ممتلئة بالمتاهات والمرايا والناس الذين يحلمون بأن الآخرين يحلمون بهم – أنت تعلمين كل التيمات البورخسية هذه – على حد علمي، لم ينتجوا شيئًا ذا قيمة. على صعيد آخر، هؤلاء الذين مالوا تجاه الطرق الأكثر شعبية، نحو الأرجنتينيين الأقل شهرة، مثل أرلت وكويروخا، هؤلاء، حقق العديد منهم أعمالاً غير عادية ورائعة.

سأذكر حالة “خوان كارلوس أونيتي”. إنه ليس أرجنتينيًا، لكننا لا نقيم فارقًا بين الأورجوانيين والأرجنتينيين فيما يتعلق بالأدب. كان كويروخا أرجوانيًا أيضًا. رجل مثل أونيتي، الذي كان تأثره المبكر بوليام فوكنر بالغًا، لكنه في نفس الوقت، كان على صلة مباشرة بنبض الشوارع، وبالناس، برجال ونساء أورجواي، كانت عنده شخصيته المستقلة المتفردة، في رأيي، وهي التي جعلت منه واحدًا من أكبر روائيي أمريكا اللاتينية. أونيتي أقدم قليلاً لكننا يمكن أن يندرج في نفس الجيل الخاص بهؤلاء الذين نحو منحى واقعيًا وأبدعوا أعمالاً أكثر أهمية من هؤلاء الذين بحثوا بمعنى الكلمة عن الجانب الفكري والغرائبي المحض في أساطير بورخس. أنهيت بشكل لا شعوري التباعد بين الجانبين، لأنك إذا تأملت القصص القصيرة في “كتاب الحيوان” ستجدين أن ما جذب اهتمام كثير من النقاد، وهو ما يعرفه الجميع الآن، أن قصصي في وقت واحد ؛ واقعية جدًا وغرائبية جدًا.

والغرائبي هو وليد موقف واقعي جدًا، يومي، حادث روتيني يحدث للناس كافة. ليست عندي شخصيات غير عادية مثل شخصيات بورخس الدانمركية أو السويدية أو الجوشية (رعاة البقر). لا، شخصياتي هي الأطفال، والشبان، والناس العاديين ؛ لكن العنصر الغرائبي يظهر فجأة. كان هذا الأمر برمته أمر لا شعوريًا بالنسبة لي. احتجت لقراءة دراسات نقدية عديدة لأدرك هذا. حقيقة، لم أكن أعرف أبدًا أي شيء عن نفسي، ملاحظاتك النقدية من ضمن الملاحظات التي جعلتني أرى أشياء، استوعبتها فيما بعد. سأقول لك شيئًا ما، “يا إيفي”. لا أعتقد أنني كتبت من قبل أي شيء فكري. بعض الأعمال قد تكون سلكت بدرجة ما هذا الاتجاه ؛ على سبيل المثال، “لعبة الحجلة” التي نبعت من وقائع ملموسة وشخصيات بدأت في التحدث، ومن ثمَّ يشرعون في التنظير. حسنًا، أنا وأنت يمكننا التنظير الآن أيضًا إن أحببنا، لكنه سيظل دائمًا على مستوى ثانوي. أنا لم أولد للتنظير.

إيفلين جارفيلد: من قبل، ذكرت كيف تكتب القصة القصيرة، كما لو أنك تقوم بعملية تطهير، تطرد الأرواح الشريرة. أيضًا قلت أنك تتعامل مع الكتابة باعتبارك وسيطًا أو ناقلاً. لكن يمكن لكثير من الناس تجربة مثل هذه الأحاسيس بدون كتابة مجموعات قصصية مثل “بلو أب – تكبير الصورة” أو “الطريق الجنوبي السريع” أو “كل النيران النار”.

خوليو كورتاثر: هذا هو الفارق الكبير بين الإبداع الأدبي والنقد الأدبي. عندما كنت صغيرًا احترمت النقاد لكن لم يكن عندي رأي جيد فيهم. بدوا لي ضروريين، لكن بالنسبة لي كان العمل الإبداعي وحده المستحوذ على اهتمامي. لكنني تغيرت كثيرًا منذ ذلك الوقت، بسبب بعض النقاد الذين درسوا كتبي، فقد بينوا لي كم كنت أجهل إلى حد كبير الكثير عن نفسي وعملي. أحيانًا، يطلق على النقد نوعًا من الإبداع اللاحق أو المستوى الثاني. بمعنى، أن مؤلف القصة القصيرة يكتب من لا شيء بينما يبدأ الناقد من عمل منته بالفعل. لكن هذا أيضًا عمل إبداعي لأن الناقد لديه ذخيرة قدرات عقلية وحدسية لا نمتلكها نحن المؤلفين. هذا نوع من تقسيم العمل. يقضي الناقد وقته يتفجع ويندب أنه لم يكن خلاقًا ومبتكرًا. تشكَّى “برونو” أنه لم يكن “جوني”، لكن إن جاز لي الحديث الآن بلسان “جوني”، فإنه سيشكو كذلك من كونه ليس “برونو” بدرجة معينة.

أنا، عن نفسي، أريد أن أكون نوعًا مركبًا من الاثنين، حتى ولو ليوم، يوم واحد في حياتي، مبدع وناقد. عندما أقول “مبدع”، تكون الكلمة مصحوبة دائمًا ببعض الحرج لأنها كلمة محملة بمغزى رومانسي بعض الشيء من القرن التاسع عشر، يعني، أن المبدع نسخة مصغرة من الإله. لم أعد أؤمن بهذا الآن. الإبداع هو عمل كغيره من الأعمال الكثيرة. ليس هناك مقياس للقيم التي تضع المبدع فوق الناقد. الناقد العظيم والمؤلف العظيم كلاهما بالتأكيد في نفس المكانة وعلى نفس القدر.  

إيفلين جارفيلد: في روايتيك “كرونوبيوس وفاموس” و”الحجلة”، تأخذ في تغيير أو تبديل الواقع، في البحث عن الأصالة في الحياة والأدب، مع التوظيف الجيد للدعابة والتفاؤل.

خوليو كورتاثر: فيما يتعلق بكتبي، تغيير الواقع هو رغبة، أمل. لكن تجدر الإشارة إلى أن كتبي لم تكتب لا عن خبرة سابقة ولا تم تخيلها تحت ستار تغيير الواقع. هناك أناس يكتبون كمساهمة في تعديل الواقع. أعرف أن تعديل الواقع أمر لا نهاية لبطئه وصعوبته. لا تشتغل على ذلك المستوى من الوعي. يطور الفيلسوف نسقًا فلسفيًا مقتنعًا أنه سيعدِّل الواقع لافتراضه أن النسق على صواب. يبرهن عالم الاجتماع نظريته. يتظاهر السياسي أيضًا بتغيير العالم. أما حالتي فهي أكثر تواضعًا بكثير. دعينا نقول أن “أوليفييرا” هو الذي يتحدث: دعينا نعود لإحدى التيمات الثابتة في “الحجلة”. أنا مقتنع بشدة، كل يوم أكثر مما سبقه، أننا سلكنا الطريق الخطأ. أي أن البشرية أخذت المسار الخطأ. أتحدث، قبل أي شيء، عن الغرب، الإنسان الغربي لأنني أعرف القليل عن الشرق. لقد سلكنا تاريخيًا الطريق الخطأ الذي قادنا مباشرة إلى كارثة واضحة محددة لا جدال فيها هي، الإبادة بأي وسيلة من الوسائل – الحرب، تلوث الهواء، التلوثات الأخرى، الإعياء، الانتحار الكوني بصفة عامة، أي شيء يحلو لك. في “الحجلة”، قبل أي شيء، هناك ذلك الشعور المستمر بالتواجد في عالم ليس من المفترض أن يكون كما هو عليه. هنا دعيني أسجل تصريحًا اعتراضيًا مهمًا.

هناك نقاد اعتقدوا أن “الحجلة” كتاب متشائم جدًا من زاوية أنه يرثي فقط الأوضاع العامة المتدهورة كلها. أعتقد أنه كتاب متفائل إلى أبعد حد لأن “أوليفييرا”، بالرغم من طبيعته المشاكسة، كما نقول نحن الأرجنتينيون، ونوبات غضبه، وتوسطه العقلي، وعجزه عن بلوغ أو تخطي حدود معينة، إنه رجل يضرب رأسه في الحائط، حائط الحب، والحياة اليومية، والنظم الفلسفية، والسياسية. يضرب رأسه ضد كل هذا لأنه متفائل أساسًا، ولأنه يعتقد أنه يومًا ما، ليس بالنسبة له لكن فيما يتعلق بالآخرين، سيسقط ذلك الحائط الذي يضربه برأسه وعلى الجانب الآخر ستكون هناك مستوطنة تحقيق الرغبة، الألفة، تواجد الإنسان المخلص، البشرية التي حَلم بها لكنها لم تكن واقعًا بعد حتى تلك اللحظة.

كتبت “الحجلة” قبل موقفي السياسي والأيديولوجي، قبل رحلتي الأولى إلى كوبا. أدركت بعد سنوات عديدة أن “أوليفييرا” نادر مثل “لينين”، ولا يؤخذ هذا كحجة مطلقة. إنه تشابه جزئي على مستوى العقل لأن كليهما متفائل، كل بطريقته الخاصة. لم يكن من الممكن للينين أن يحارب هكذا إن لم يكن مؤمنًا بالإنسان. على الفرد أن يؤمن بالإنسان. في أعماقه كان لينين متفائلاً بشدة، تروتسكي نفس الشيء. فقط ستالين كان متشائمًا، لينين وتروتسكي متفائلين. وأوليفييرا في طريقه الصغير المتوسط متفائل أيضًا. لأن البديل هو إطلاقه النار على نفسه أو ببساطة الاستمرار في العيش وقبول كل شيء جيد في الحياة. لدى العالم الغربي أشياء عديدة جيدة. لذا كانت الفكرة العامة في “الحجلة” هي إدراك الإخفاق والفشل والأمل في تحقيق النصر. الكتاب لا يقترح أية حلول، إنه ببساطة يحصر ويحدد نفسه ليوضح أو يبين الطرق الممكنة لتقويض السور ولرؤية ما على الجانب الآخر.

إيفلين جارفيلد: قلت أنه في “الحجلة” ليست هناك نظرية أو فلسفة تحاول تغيير الواقع ؛ مع ذلك، إحدى الطرق لعمل هذا ليست بتوظيف الفلسفة لكن عن طريق خبرة الرجل المتألم الذي لا يقبل الواقع كما هو. ذلك يخدم أكثر بكثير كنموذج للشباب عن كتاب في الفلسفة.

خوليو كورتاثر: سأقول لك شيئًا قلته بالفعل للآخرين. عندما كتبت “الحجلة” اعتقدت أنني كتبت كتابًا مدرسيًا لأناس من سني، من جيلي. وعندما نُشر الكتاب في بوينس أيرس وقرئ في أمريكا اللاتينية، فوجئت بخطابات، مئات الخطابات تلقيتها، وفي كل مئة منها كانت نسبة 98 من الشباب، بل حتى من المراهقين في بعض الحالات، رغم أنهم لم يفهموا الكتاب بالكامل. على أية حال، كانت ردود أفعالهم إزاء الكتاب غير متخيلة بالمرة بالنسبة لي عندما كتبته. كانت المفاجأة الكبيرة من الناس الذين في مثل سني، المجايلين لي، لم يفهموا أي شيء، وكان النقد الأول للحجلة، ساخطًا مستاءً.

إيفلين جارفيلد: لم يفهموا “كرونوبيوس” أيضًا.

خوليو كورتاثر: بالطبع، ليسوا كلهم. لكن الحجلة تعني الكثير بالنسبة لي، على زاوية معينة، بالنسبة إلى كرونوبيوس. كرونوبيوس لعبة عظيمة بالنسبة لي، متعتي. الحجلة، ليست كذلك ؛ كانت نوعًا من الالتزام الميتافيزيقي، نوعًا من امتحان شخصي دقيق، علاوة على ذلك. ثم اكتشفت أن الحجلة كانت موجهة للشباب وليست لأناس في سني. لم يكن ممكنًا تخيل هذا أبدًا عندما كتبتها. لماذا؟ لماذا كان الشباب هم الذين اكتشفوا ذلك الذي أبهرهم، والذي ترك أثرًا فيهم؟ أعتقد لأنه ليس هناك درسًا في الحجلة. الشباب لا يحبون أن يُلقنوا دروسًا. هناك نوع معين من البالغين يقبل هذا الأسلوب، أما الصغار فلا. فيها وجدوا أسئلتهم الخاصة، العذاب اليومي للمراهقة وبكورة الشباب، حقيقة أنهم لا يشعرون بالراحة في العالم الذي يعيشون فيه، عالم آبائهم. والملاحظ، أنه عندما نشرت الحجلة، لم يكن هناك هيبيز بعد، ولا “شباب غاضب”. في ذلك الوقت ظهر كتاب “أوزبورن[1]“. لكن كان هناك أبناء الجيل الذين أخذوا في التطلع إلى آبائهم ومخاطبتهم قائلين: “أنتم لستم على صواب. أنتم لا تمنحوننا ما نريد. أنتم تُوَرِّثوننا ميراثًا لا نقبله، تركة لا نرضى بها”.

لم تمتلك الحجلة سوى مستودع من الأسئلة، والقضايا، والعذاب مما كان الشباب يشعرون به ولم يكن متبلورًا أو منسقًا في الحجلة التي لم يتم تجهيزها فكريًا للكتابة عنهم أو التفكير فيهم، وجدوها الكتاب الذي احتوى عليهم وعلى كل هذه الأمور معًا. احتوت الحجلة على ذلك العالم الكامل من الاستياء، ومن البحث عن “مستوطنات الرغبة”، لاستخدام استعارة أوليفييرا. ذلك يوضح كيف كان الكتاب هامًا للشباب أكثر منه للكبار.

إيفيلين جارفيلد: إنه لهذا السبب بالتحديد يعتبر هذا الكتاب بمثابة “رفيق سفر”، روح جامعة. لهذا يبدو الكتاب مصدر تفاؤل مبشر جدًا من وجهة نظري.

خوليو كورتاثر: بالطبع، أنا أيضًا أشعر بنفس الشعور، على الرغم من وجود هؤلاء الذين يرون الجوانب السلبية فيه. إن أوليفييرا سلبي جدًا، لكنه كذلك لأنه في أعماقه يبحث عن المستوطنة.

إيفيلين جارفيلد: الكتاب ليس سلبيًا. مستحيل أن يقوى أوليفييرا على القفز من النافذة نحو لوحة الحجلة.

خوليو كورتاثر: إنه لم يقفز. لا، لا. أنا متأكد من هذا.

إيفيلين جارفيلد: أنا، أيضًا متأكدة.

خوليو كورتاثر: بالطبع، هذا مؤكد تمامًا.

إيفلين جارفيلد: أعرف هذا، كيف يمكن لأحد أن يقول أن هذا الكتاب تشاؤمي؟

خوليو كورتاثر: لكن هناك نقادًا قالوا أن الكتاب “ينتهي أخيرًا بانتحار البطل”. أوليفييرا لم ينتحر.

إيفيلين جارفيلد: إنه غير قادر على فعل هذا، وهو قادر على مواصلة العيش.

خوليو كورتاثر: إنه ينتهي إلى اكتشاف إلى مدى يحبه المسافر الرحالة و”تاليتا”. لا يمكنه أن يقتل نفسه بعد ذلك. كان ينتظر المسافر لأنه اعتقد أن المسافر كان قادمًا لقتله. لكن المحادثة معه أثبتت أن الأمر ليس كذلك. بالإضافة إلى أن،  تاليتا” كانت في الطابق الأرضي، وأن الأعداء هم الأغبياء الآخرون مثل مدير المستشفى. لم يقفز أوليفيرا، لقد بقى في النافذة فقط يفكر في أن كل الذي يتبقى هو القفز، لكنني أعرف أنه لا يفعل هذا. ولم يمكنني قوله، يا إيفي.

إيفيلين جارفيلد: لا، إذا قيل فسوف يعني أنك ستدمر الكتاب.

خوليو كورتاثر: يدمر كل شيء. قول أنه لم يقتل نفسه هو تدمير الكتاب. الفكرة أنك أنت أو أي قارئ آخر من يجب أن يقرر. لذا أنت تقررين، مثلي، أن أوليفييرا لم ينتحر. لكن هناك قراء قرروا أنه انتحر. حسنًا، هذا أمر سيئ جدًا بالنسبة لهم. القارئ هو شريك في الوقائع، وعليه أن يقرر. بالطبع، إنه كتاب متفائل جدًا. نعم. إنه متفائل مثل رواية “كتاب مانويل” ولكن على مستوى محدود جدًا أكثر تاريخية، مما سمح لي بوقفة اعتراضيه. كتبت “كتاب مانويل”، كما يقولون بالإنجليزية، “ضد الزمن”، كانت هناك مشكلة واقع المحاربة والتعاون فيما يتعلق بصراع السجناء السياسيين وعمليات التعذيب في الأرجنتين. وعليه كان عليَّ إنهاء الكتاب في لحظة معينة. لذا جاء الجزء الثاني بأكمله بعيدًا عما كنت سأكتبه لو توفرت عليه فترة سنتين أو ثلاث سنوات. مثلما كان الأمر مع الحجلة. كان عليَّ إكماله بسرعة وأنا أعرف جيدًا أي الأجزاء التي لم يتم إتقانها بشكل جيد. هل تفهمين؟  ذلك قد يساهم في توضيح حقيقة أن بعض قرارات “أندرين” الأخيرة لم تكن واضحة. نجد فيها اعتمادًا على حدس القارئ.

إيفيلين جارفيلد: يمكن أن نرى بوضوح ما أعددت له أو قصدت إليه. إنه كتاب به كثير من الالتزام السياسي.

خوليو كورتاثر: بالطبع.

إيفيلين جارفيلد: الواحد يرى ذلك على الفور، لكن لأنني تحت تأثير كتبك الأخرى، لم أعد أستطيع رؤية كيف تقدر بهذه السهولة على الانتقال من عالم البورجوازية إلى شيء آخر مختلف كلية. و”أندريس” فعل هذا، أيضًا “أنت – تعرف كيف” وماركوس شخصية واحدة بمفردها مع أندريس في أشكال متنوعة، “لونستين” أيضًا، وأنت أيضًا، كواحد من تلك الدمى المقطعة الأوصال. ذراع هنا، آخر هناك…

خوليو كورتاثر: جيد جدًا، هذا هو الأمر بالضبط.

إيفيلين جارفيلد: لا يمكنني رؤيتك وحدك في بعدك السياسي فقط.

خوليو كورتاثر: لا، أنا أيضًا لا أرى نفسي هكذا.

إيفيلين جارفيلد: لهذا قلت لك أن شخصًا ما يمكن أن يقرأ الكتاب ويقول إنه كتاب دعائي (بروباجاندا). وهو بعيد عن كونه كذلك.

خوليو كورتاثر: نعم، أنا سعيد أنك رأيت هذا. كنت أعرف أنك ستدركين هذا. اسمعي، في نهاية الكتاب، حقيقة أنني جمعت الوثائق في عمودين، التعذيب في الأرجنتين والتعذيب في فيتنام، هذا متعمد. لكن ليس للأسباب التي يتصورها بعض الناس. فهو من ناحية، بالطبع، موقف إنسان يساري من أمريكا اللاتينية ضد نظام أمريكا الشمالية. لا شك في ذلك. لكن، هذا ليس كل شيء. لقد قدمته بهذه الطريقة لأن أمريكيين لاتينيين بعينهم يخطئون تمامًا في اعتقادهم أن كل ما هو أمريكي لاتيني هو جيد من البداية كمسلمة، وأن كل هو أمريكي شمالي هو سيئ. في ظروف معينة، تكرر الآليات نفسها بشكل عنيد وبلا هوادة.

في أمريكا اللاتينية، القائمون بالتعذيب هم أعدائي، أعداؤنا، لكنهم أرجنتينيون، بوليفيون، برازيليون، أناس من أمريكا اللاتينية. كونك أمريكي لاتيني لا يعطيك صك الجودة أو شهادة بأنك من أهل الخير. البعض جيد والآخرون سيئون، جماعة هنا وجماعة هناك. لذلك فإن العمودين لا يظهران فقط أن السفاحين في أمريكا اللاتينية مثلهم مثل هؤلاء الذين في البنتاجون، لكنهما يظهران شيئًا ما أكثر عمقًا عن الجنس البشري.

إيفيلين جارفيلد: المشهد الأخير في هذه الرواية مؤثر جدًا، عندما يقوم لونستين بتنظيف الجثة. أسأل نفسي كم من المعاني المختلفة يمكن أن يحملها هذا المشهد. لأنك فيما يبدو لم تنه عمل أبدًا بموقف ملموس يمكن للقارئ أن يمسك به في سهولة.

خوليو كورتاثر: أنت على صواب تمامًا، سأقول لك شيئًا آخر آمل ألا يصدمك. لا أعرف ما إن كنت متأكدة من هوية تلك الشخصية التي ماتت. أنا أيضًا مثلك. النهاية مفتوحة جدًا على احتمالات مختلفة حيث يمكن أن يكون ماركوس، ربما أنه ماركوس، لكن أيضًا ربما يكون “أنت – تعرف – من”.

إيفيلين جارفيلد: أو أحد ضحايا التعذيب.

خوليو كورتاثر: أيضًا، رغم أنه من المستبعد من وجهة النظر العملية أن يرسلوا جثة خضعت للتعذيب إلى المشرحة.

إيفيلين جارفيلد: لكن المشهد يجيء بعد سرد الحوادث ويترك فيك انطباع وأحاسيس ضحية التعذيب. اعتقد “ماركوس”، أو “أنت – تعرف – من”، الجثث المعذبة ورمزيًا حياة البرجوازية، لكن حتى “أندريه” لن يترك أبدًا كل هذا وراءه.

خوليو كورتاثر: أسعدني كل ما قلتيه وهو يمدني بالعزاء عن تركي النهاية مفتوحة. عثورك على العديد من الخيارات المتاحة هو بالضبط ما أردته أنا من القارئ. ربما سيرى كل واحد في هذه الجثث شخصًا آخر كنوع من الرمز أو التركيب. كتبت الصفحة الأخيرة هذه على عجل. في نهايات كتبي هناك دائمًا إيقاع العذاب الذي يجبرني على التعجيل بالانتهاء تحت تهديد كارثة مباغتة مدمرة متوقعة. كتبت هذه الصفحة بتهور. أعرف غريزيًا عندما أنتهي. بعد عدة ساعات، عندما قرأت الجزء الخاص بالجثة في المشرحة، كان هناك مرجعان جعلاني أفكر في كل ما لم آخذه في الاعتبار عندما كنت أكتب هذا الجزء، ولا فكرت فيه أنت أيضًا: صورة “تشي جيفارا” التي تم نشرها عالميًا. الرأس المشرئبة قليلاً، العينين ليستا مغلقتين تمامًا، وهنا بصيص من الضوء. قال له “لونشتاين”، أنظر إليَّ كما تحب، لا يهم. هناك شيء ما في وصف ذلك الرجل الميت الذي هو أيضًا “تشي- رفيق سلاح”. إذن أنا أضفت خيارًا آخر لكل الآخرين. لكنه لم يكن متعمدًا لأن هذا سيكون رخيصًا وفقيرًا جدًا.

إيفيلين جارفيلد: بعكس تجربة بعض الروائيين، تبدو الصفحات النهائية من الرواية ليست صعبة على الكاتب من حيث الكتابة.

خوليو كورتاثر: فقط البداية هي الصعبة بالنسبة لي، صعبة جدًا. الدليل على هذا أن بعض كتبي لم تبدأ فعلاً من حيث انتهت إليه بالنسبة للقارئ. الحجلة، على سبيل المثال، بدأت من منتصفها. الفصل الأول الذي كتبته كان عن “تاليتا”، عاليًا فوق الألواح. لم يكن لديَّ أدنى فكرة عما سأكتبه قبل أو بعد هذا المقطع. بداية الكتابة دائمًا صعبة جدًا بالنسبة لي. على سبيل المثال، بدأت رواية “62/ نموذج تسليح” ثلاث مرات. كان أصعب كتاب بالنسبة لي من حيث الكتابة لأن قواعد اللعبة كانت قاسية صارمة وأردت احترامها. لم أتمتع بحرية كبيرة في هذا الكتاب. كان عندي نوعًا آخر من الحرية التي ظهرت فيما بعد، لكن ليس في البداية. كان عليَّ أن أذكر ما حدث مع “المطارد”. إنها لمعجزة أن كتبت هذه القصة. كان من الممكن منطقيًا أن تضيع في النهاية إلى الأبد.

سأحكي لك القصة. في باريس، عندما قرأت خبر موت “تشارلي باركر”، اكتشفت أنه كان الشخصية التي كنت أبحث عنها. كنت قد فكرت في رسام، كاتب، لكن هذا لم يكن ملائمًا لأنني أردت أن تكون شخصية المطارد محدودة الذكاء جدًا، مثل أوليفييرا نوعًا ما، هذا رجل متوسط، بل أقل من العادي أو بلا مميزات، لكن في أعماقه ليس بعادي لأنه يمتلك نوعًا من العظمة الشخصية أو العبقرية. شخصية فكرية تبدأ سريعًا في التفكير بألمعية، مثل شخصية “توماس مان”. عندما مات تشارلز باركر، أدركت (أعرف جوانب كثيرة عن حياته) أنه كانت له شخصيتي، رجل ذو قدرة عقلية محدودة لكن مع خاصية معينة في شيء ما، في هذه الحالة، كانت الموسيقا. اخترعت بحثه الميتافيزيقي. وعليه جلست إلى الآلة الكاتبة لكي أكتب وأنهيت الجزء الكبير الذي يبدأ عندما يذهب “برونو” في إحدى الليالي إلى الفندق للتحدث مع “جوني”. ثم اعترتني بلادة ذهنية. لم أدر ماذا أفعل. لذلك بقيت تلك الخمس عشرة صفحة أو العشرين هذه مهملة أو مدفونة بعيدًا في الدرج لأشهر عديدة. ذهبت إلى جنيف للعمل في الأمم المتحدة، وكانت هذه الصفحات من بين الأوراق التي أخذتها معي. كنت وحدي تمامًا في بانسيون في يوم من أيام الآحاد، ضجرًا، بدأت تصفح هذه الأوراق. “بحق الجحيم ما هذا؟” قلت لنفسي. أعدت قراءة الخمس عشرة أو العشرين صفحة دفعة واحدة، جلست إلى الآلة الكاتبة، وأنهيتها في غضون يومين. لكن كان من الممكن أن أفقد هذه الصفحات. يجب أن يجيب هذا قليلاً على سؤالك عن البدايات والنهايات.

النهايات ليست صعبة بالنسبة لي، تقريبًا تكتب نفسها بنفسها. هناك نوع من السرعة. النهاية الكاملة للحجلة التي دارت أحداثها في مصحة المجانين كُتِبت في ثمانية وأربعين ساعة في حالة هستيرية محمومة تقريبًا – إن كان عليَّ أن أقول هذا لنفسي.

إيفيلين جارفيلد: أثناء الرحلات الطويلة هذه، هل اكتسبت خبرات أخرى كثيرة كانت مفيدة في كتبك؟

خوليو كورتاثر: أقل مما قد تتصورين. على سبيل المثال، حالما تنتهين من قراءة (نثر من المرصد) سترين على الفور إحدى هذه الخبرات. مرصدا “جاي سينج” في “جيبور” و”دلهي” جعلاني مبهورًا بهما. هذا الانطباع تحول بعد أربعة سنوات إلى كتاب. منذ ذلك الوقت الذي رأيت فيه المرصدين شعرت بالرغبة في الكتابة. وأعتقد أنني التقطت قرابة ثلاثمائة صورة للمرصدين لأنه كانت عندي رغبة في كتابة نص مصحوب بالصور (كولاجي). وفي النهاية كنت قادرًا على فعل هذا.

إيفيلين جارفيلد: بالإضافة إلى الآثار والذكريات الخاصة بها، يمكن للمرء أن يرى في “62 نموذج تسليح” مغامراتك كمترجم، بالبراعة والسهولة التي تتمتع بهما في مزجك للأماكن والفترات المتناظرة.

خوليو كورتاثر: إنها نتاج رحلاتي. كما أشرت من قبل، أنا دولي بشكل أساسي وبعمق. أنا العكس تمامًا، عكس السواد الأعظم من كتاب أمريكا اللاتينية، الذين يحبون المكوث في بلداتهم، في أركانهم الخاصة ويبدعون مما حولهم لهؤلاء المحيطين بهم: حالة “أونيتي”، على سبيل المثال، الذي لم ينتقل أبدًا من الأورجواي، أو “رولفو” من المكسيك حسبما نعرف، أو هما حقًا لم يغادرا بلديهما. هناك قائمة طويلة. في حالتي الأمر ليس كذلك. وأعتقد أن “جول فيرن” يعتبر مسئولاً إلى حد كبير عن هذا. منذ الطفولة كان السفر عندي هدفًا في الحياة. عندما كنت في العاشرة من عمري قلت لوالدتي أنني أبغي أن أكون بحارًا. ونظرًا لأنني كنت إلى حد ما طفلاً عليلاً (كنت مصابًا بالربو)، وبالإضافة إلى هذا كان الأمر مكلفًا في الأرجنتين لتكون بحارًا، وقد كنا فقراء، قررت أمي أنه من الأفضل أن أكون مدرسًا. وطلبت مني ذلك بصراحة تامة. وعليه، قبلت ذلك. لم يكن ممكنًا عمل غير ذلك. ولا أنا كنت ميالاً إلى المهنة الأخرى حقًا لأنني، لو كنت قد عملت كمدرس بالفعل، كان يمكنني أن أهرب لأصبح بحارًا. لا، فقط كانت مجرد نزوة طفولة نتجت عن الرغبة في السفر. حسنًا، لاحقًا صرت قادرًا على تحقيق هذه الرغبة بدون أن أصبح بحارًا.

إيفيلين جارفيلد: عندما تكتب، كيف تختار القالب أو الشكل الخاص بالكتابة؟

خوليو كورتاثر: أنا لا أختار شيئًا. قبل أن أبدأ، تكون عندي فكرة عامة عما أريده وأعرف تلقائيًا أنه يجب أن يكون قصة قصيرة، أو أعرف أنه الخطوة الأولى نحو رواية. لكنني لا أتعمد هذا. الفكرة فيما يخص القصة القصيرة هو كونها تولد بالفعل وهي في قالب القصة القصيرة، ولها مقومات القصة القصيرة، بل إن قصتان طويلتان مثل، “لقاء” و”Las babas del diablo“، كنت أعرف أنهما لن تكونا روايتين لكن قصتين قصيرتين. وعلى الصعيد الآخر، أشعر أحيانًا أن بعض العناصر تبدأ في الالتحام أو الاندماج: تكون أكثر رحابة وتعقيدًا وتتطلب الشكل الروائي. “62 نموذج تسليح” مثال جيد على هذه الحالة. انطلقت أنا بداية ببعض المفاهيم القليلة المضطربة جدًا: فكرة ذلك الاعتقاد المريض بوجود مصاصي دماء والتي ترجمت فيما بعد في شخصية “هيلين”، وفكرة “جوان” كشخصية. في التو، أدركت أنها ليست قصة قصيرة، وأن الواجب هو تطويرها كرواية طويلة. وذلك عندما فكرت في الفصل “62 في الحجلة” وقلت لنفسي أن هذه كانت فرصة لمحاولة تطبيقها عمليًا لمعرفة إن كانت ستفلح. لمحاولة كتابة الرواية التي لا تحتل العناصر السيكولوجية فيها مركز الاهتمام لكن حيث تتم السيطرة على الشخصيات بما أسميته “شخصية شبحية” أو كوكبة ذات أذرع. وسيقومون برد الفعل ويأتون بأمور دون أن يعرفوا أنهم مُحَرَّكون بواسطة قوى أخرى.

إيفيلين جارفيلد: إن أمكنك إنقاذ خمس كتب فقط من النار التي ستلتهم كل الكتب الأخرى الموجودة في العالم، فأيها ستختار؟

خوليو كورتاثر: هذا النوع من الأسئلة لا يمكن الرد عليه أثناء دوران المسجل.

إيفيلين جارفيلد: هل ينبغي علينا إغلاقه.

خوليو كورتاثر: لا، فعندئذ ستكون الإجابة جاهزة جدًا، متمعنة جدًا. أنت قلت كتب، أنا لا أعرف، أعتقد على سبيل المثال، أن أحد هذه الكتب الخمسة التي سأحب إنقاذها سيكون قصيدة، قصيدة لكيتس. هل تعرفين؟

إيفيلين جارفيلد: نعم.

خوليو كورتاثر: واحدة من قصائده.

إيفيلين جارفيلد: أيها؟

خوليو كورتاثر: أي واحدة من التي أحبها، القصائد الغنائية العظيمة: “قصيدة عن جرَّة إغريقية” أو “قصيدة إلى عندليب” أو “إلى الخريف”، اللحظات العظيمة لكيتس الناضج. وبما أننا نتكلم عن الشعر، أود إنقاذ “مراثي دوينو[2]” لريلكه. لكن خمسة رقم عبثي أخرق.

إيفيلين جارفيلد: أعرف أنه كذلك وصعب جدًا، لكنني أريد أن أعرف الإجابة الآن، على الفور.

خوليو كورتاثر: حسنًا، هناك كتاب نثري سأنقذه، وهو “عوليس”. أعتقد أن عوليس بطريقة ما خلاصة وذروة الأدب العالمي. سيكون هذا أحد الكتب الخمسة. يحق ليَّ معاقبتك بالفعل على هذا النوع من الأسئلة. هل تعرفين بماذا أجاب أوسكار وايلد؟ لقد كانوا أكثر كرمًا معه. سألوه أي عشرة كتب سينقذها. وأجاب أوسكار وايلد، “أنظر، حتى الآن لم أكتب سوى ستة كتب فقط”.

إيفيلين جارفيلد: أنت متواضع جدًا لأنك لم تضمن الإجابة أيًا من كتبك.

خوليو كورتاثر: لا ينبغي عليَّ ذلك، فدائمًا ما أحملها بداخلي.

إيفيلين جارفيلد: ماذا عن ماركس؟

خوليو كورتاثر: كنت أفكر في الأدب. بالطبع، عندما ذكرت كتب، كان عليَّ أن أفهم، من وجهة النظر التاريخية، بالطبع، ماركس ومحاورات أفلاطون.

إيفيلن جارفيلد: لديك إذن أربعة كتب من خمسة. والآن أنا خجلة أن أسأل إذا كنت قد اخترت نفس الكتب منذ عشر سنوات عندما كتبت الحجلة؟

خوليو كورتاثر: نعم، ربما باستثناء ماركس. لأنني عندما كتبت الحجلة لم تكن تهمني مشاكل العالم السياسية ذات الطبيعة الأيديولوجية، كما حدث فيما بعد. ربما الاستثناء الوحيد سيكون ماركس في هذه الحالة.

إيفيلين جارفيلد: أيّ من مؤلفي هذه الأيام يهمونك أو يعجبونك بدرجة كبيرة؟

خوليو كورتاثر: قد يبدو الأمر غريبًا عليك لكن في السنوات الأخيرة هذه، قرأت، أكثر من الأدب والأعمال الإبداعية، كتبًا في الأنثروبولوجيا، في أنواع معينة من التحليل النفسي والعقلي المعاصر الذي يبهرني، لأنني أعتقد أن تلك الكتب مليئة بالاحتمالات الشيقة والميادين الممتعة تمامًا كما في الأدب. إلى جانب شيء آخر فعلته وسأفعله دائمًا ألا وهو قراءة الشعر. قرأت كميات هائلة من الشعر. لم يسألني أحد، لم يعقد معي أحد مقابلة ويسألني عن الموضوعات الشعرية، انطلاقًا من مبدأ أنني لست شاعرًا وإنما كاتب نثر. مع ذلك فإن الشعر ضروري جدًا بالنسبة لي وإذا كان هناك قدر من الحنين أمتلكه، فهو لأن عملي ليس حكرًا على الشعر فحسب.

إيفيلين جارفيلد: لكنك تُضمِّن الكثير من الشعر في نثرك.

خوليو كورتاثر: بالطبع، علاوة على ذلك أعتقد أن جزءًا كبيرًا من نثري تم تخيله وأُبدِعَ بشكل شعري، على سبيل المثال، “نثر من المرصد”، ليس بأكمله هكذا لأنه رُصِّعَ بمقاطع أو فقرات شعرية. لكنني أعتقد أنه قصيدة، وبالذات الجزء الأخير من الكتاب. إنه عاطفي جدًا، بل هو شعر غنائي.

إيفيلين جارفيلد: عندما تقول أنه يجب عليك أن تقرأ الشعر، فإنها إذن رغبة ملحة ضرورية، أي الشعراء ترجع إليهم بالضرورة؟

خوليو كورتاثر: منذ مطلع شبابي ملت نحو الشعر المكتوب بالإنجليزية، مازلت إلى الآن أفضل الشعر الإنجليزي عن أي شعر آخر، بما في ذلك الشعر الفرنسي الذي قرأته بفهم عميق جدًا لأنني أعرف الفرنسية أفضل من الإنجليزية. مع ذلك لديَّ انطباع أن الإنجليزية هي لغة الشعر. منذ سنواتي المبكرة شعرت بامتنان شديد تجاه الرومانسيين الإنجليز. اكتشفت فيما بعد شعر القرون الوسطى الإنجليزي وبدأت قراءة المقتطفات والمختارات منه. ومؤخرًا اكتشفت شكسبير، الذي قرأته بالإنجليزية أكثر من مرة. بين الحين والآخر أقرأ، شكسبير ثانية، ليس بأكمله، وإنما بعض الأعمال التي أفضلها من شعره. الشعر الإنجليزي هو المؤثر، الجدير بالاعتبار بالنسبة لي.

إيفيلين جارفيلد: تحب تشبيه فن الكتابة بالملاكمة، بالجاز والتصوير الفوتوغرافي، وهي هواياتك المفضلة. متى بدأت الاهتمام بها؟

خوليو كورتاثر: ما أفعله مقصود ومتعمد إلى حد ما. على سبيل المثال، عندما أستخدم التشبيهات والاستعارات أو المقارنات. في أمريكا اللاتينية مازالت هناك رومانسية وميل جوهري نوعًا ما للبحث عن الاستعارات والتشبيهات، فهي أكثر المقارنات نبلاً. الآن لم يعد بإمكان الواحد مقارنة شخص ما بالبجعة، لكن إن أمكن له هذا، فسيفعل.

منذ وقت مبكر جدًا في حياتي، شعرت أنه يجب على المرء الاقتراب من العناصر اليومية الموجودة في الحياة التي يمكن ملؤها بالجمال. مباراة جيدة في الملاكمة كالبجعة تمامًا. لذا لِمَ لا ننتفع بهذا داخل نظام من المقارنات، داخل ميزان القيم. لذلك، وتقريبًا من البداية، هناك مرجعيات كثيرة من هذا النوع في كتبي. إنه عمدي لكي لا يبقى الأدب مقدسًا، وإنما لجعله ملامسًا لأرض الواقع، لأنه يجب أن تكون أقدامه كذلك راسخة في الأرض. “القمة” و”القاع” مرجعين في مقياس القيم الغريبة، لكنهما في الوقت الراهن قد تغيَّرا بالنسبة لأناس ربما كثيرين.

عندما كنت صغيرًا جدًا وبدأت في العمل وتوفر لديَّ بعض المال لشراء كاميرا فقيرة الإمكانيات إلى حد كبير، بدأت التقاط الصور بطريقة منظمة جدًا، محاولاً إتقان تقنيتي. فيما بعد، كانت الكاميرا الثانية أفضل قليلاً. التقطت بها صورًا جيدة. أنا لا أعرف كيف أفسر لك سبب هذا الاهتمام. في أعماقي أعتقد أنه كان شيئًا هامًا من الناحية الأدبية. التصوير الفوتوغرافي نوع من أدب الأشياء. المُصَوِّر الجيد هو الذي يعرف كيف يبرز الأشياء بشكل جيد وفي إطار أفضل. بالإضافة إلى أنه يعرف كيف يختار أو يستثمر الصدفة البحتة وهنا تبرز السريالية  وتلعب دورها. بدا لي دائمًا أمرًا رائعًا أن شخصًا ما يمكن أن يصور المفارقة بين عنصرين أو ثلاثة، على سبيل المثال، الشكل الثابت للرجل الواقف الذي، إثر قدر ضئيل من تأثيرات الضوء والظل المسلط على الأرض، يظهره وكأنه قط أسود ضخم. على مستوى أعمق، أنا أبدع الأدب، وعليه فأنا أصور الاستعارة: الرجل الذي له ظل قطة. أعتقد أنني جئت إلى التصوير عن طريق الأدب.

إيفيلين جارفيلد: لذلك يقتضي منك التصوير علاقة معينة بالأدب فيما يختص بطريقتك في رصد الواقع والمنظور.

خوليو كورتاثر: نعم، وفيما بعد صارت تلك طريقة لإنهاء نصوص محددة تخصني، مثل “الجولة الأخيرة”، حيث احتلت صور كثيرة أماكن معينة عن عمد وعليه قد يتمم القارئ الاختيار الذي أطرحه عليه، ويستكمله بالصور المرئية. فكرة الكولاج – الصورة مع نص مكتوب – تبهرني. لو كنت أمتلك وسائل تقنية لطبع كتبي، أعتقد أنني سأستمر في عمل كتب كولاجية.

إيفيلين جارفيلد: هل لك أن تختار أي من هاتين الجملتين لوصف كوتاثر؟ “الحياة كتابة” أو “الكتابة حياة”؟

خوليو كورتاثر: “الحياة كتابة”، بالطبع لا. أما القول بأن في الكتابة حياة، فإنه إلى حد ما دقيق ومضبوط. الكتابة تشكل جزءًا من الحياة، في حالتي، هي الجزء المهم جدًا جدًا، ربما الأكثر أهمية، لكنها أيضًا ليست حياتي كلها. لست واحدًا من هؤلاء الكتاب الذين تأخذهم وتهيمن عليهم مهنتهم لدرجة أن كل ما عداها يصبح مفتقرًا لأهميته. أعتقد أن هذه الحالة هي التي كان عليها بلزاك، إلى حد ما، وربما أيضًا مع فارجاس يوسا. يقول هذا: لكي يعيش فارجاس يوسا فإنه محتاج فقط لغرفة، ومنضدة، وآلة كاتبة وأن يترك في هدوء مزودًا بكميات كبيرة من الورق.

إيفيلين جارفيلد: ما الذي سيحدث لك إن لم تستطع الكتابة؟

خوليو كورتاثر: لا أعرف، لا أعرف.

إيفيلين جارفيلد: ستبدو كالرجل الذي في قصتك القصيرة، فقد رأسه لكنهم لم يستطيعوا أن يدفنوه حتى استرد فجأة كل حواسه.

خوليو كورتاثر: بالطبع. لو كنت أعيش في بلد منعوني فيه من الكتابة أو كنت سجينًا ولم يعطوني لا ورق ولا قلم رصاص، لا أعرف. يمكن أن أكون كسولاً جدًا فيما يتعلق بالكتابة أو أقضي فترات طويلة من الوقت دون كتابة أي شيء، ولا أشعر بسوء حيال هذا. أقوم بأشياء أخرى. أقرأ، على سبيل المثال.

إيفيلين جارفيلد: هل ستجد الكوابيس و الأشباح تظهر لكن في شكل مختلف؟

خوليو كورتاثر: ربما، بلا شك.

إيفيلين جارفيلد: في “كتاب مانويل”، هناك محادثة طويلة بين ماركوس وأندريس عن النساء. يقول أندريس إن الاستبسال رجالي، خاصة للبالغين لأن “الكل يعرف أن الطفولة تبقى مصونة جيدًا في الرجال عنها عند النساء”. يقول ماركوس فيما بعد أنه يحتاج إلى النساء ليجعلنه يشعر بنفسه بشكل أفضل وأقوى طوال الوقت. هل لك أن تعلق على هذه الرؤية للمرأة – الطفلة، أو الدمية التي يمكن للرجل أن يلهو بها ليحقق سعادته؟

خوليو كورتاثر: أنا لا أقبل هذا المفهوم عن المرأة – الطفل، لا بصفة شخصية ولا هوية شخصياتي. أتحدث الآن أيضًا نيابة عن ماركوس. على العكس، ماركوس وأنا نحب المرأة الناضجة جدًا. إنها فكرة النضج، لكي تكون ناضجًا فذلك يحتاج إلى استكشاف. ما يقوله ماركوس وأندريس هو أن الرجل لديه قدرة عن المرأة لأن يكون ناضجًا مع الاحتفاظ في الوقت ذاته بموقف طفولي معين إزاء الحياة. وهو موقف إيجابي، وحماسي ؛ ومعنى اللعب، ومعنى ما هو مجاني، ومعنى لقضاء الساعات تلو الأخرى في محاولة إعادة تجميع وتركيب الساعة الصغيرة التي انكسرت لأنه يشعر بحب هذا العمل، رغم أنه يمكنه إحضارها للساعاتي الذي عند الناصية. ويرى المرء هذا نادرًا جدًا في الجانب الأنثوي.

إيفيلين جارفيلد: مع ذلك، نراك تُبدع نساء مثاليات في رواياتك، مثل “ماجا”، غير أنها تعرف كيف تلهو وتلعب جيدًا.

خوليو كورتاثر: و”لادميلا”، أيضًا. ومن هنا تنبع مثاليتهن التي تبهرنني أنا وماركوس وأوليفييرا. “تيل”، حبيبة “جوان”، على سبيل المثال، إنها شخصية ذات مغزى صغير، وحتى الآن هي ساحرة بالنسبة لي وأعاملها بتعاطف وحميمية وجدانية كبيرة لأنها تلك القطة اللعوب التي تجعل الحياة هنيئة سعيدة وفي نفس الوقت نجدها ناضجة تمامًا. ليست بطفلة.

إيفيلين جارفيلد: هل تدرك أنك ناقضت نفسك للتو.

خوليو كورتاثر: لا.

إيفيلن جارفيلد: نعم، فعلاً، أنت وماركوس كلاكما يبحث عن المرأة – الطفل، المرأة التي، مثل الرجل، يمكن أن تحتفظ بذلك العنصر الطفولي الرجولي، ويمكنها أيضًا أن تلعب، مثل ماجا وتيل…

خوليو كورتاثر: بالطبع، النساء القادرات على الاستبسال كالرجل تمامًا. أعتقد أن الرجل بصفة عامة قادر على الالتزام أكثر من المرأة. أتحدث بالتأكيد عن الحدود العامة. لكن تظهر لاحقًا شخصيات مثل “لادميلا وماجا” تفقن الرجال في قدرتهن على الالتزام. ولهذا السبب بالتحديد، يجذبن الرجال. يرفض ماركوس بوضوح النساء السلبيات ولهذا وقع في حب لادميلا. هذا ما تتميز به ماجا، أيضًا، هذه الاحتمالية للتعجب والاندهاش من ورقة شجر يابسة على الأرض، لأنها بالنسبة لها أكثر أهمية من أي شيء آخر.

إيفيلن جارفيلد: هؤلاء النسوة لسن عقلانيات على وجه الإطلاق، لسن راشدات.

خوليو كورتاثر: نعم ليس على وجه الإطلاق.

إيفيلن جارفيلد: لم تنضم لادميلا للجماعة حتى لأسباب سياسية لكن لأنها خطوة لامعقولة ولأنها ببساطة كانت ترغب في هذا.

خوليو كورتاثر: نعم.

إيفيلين جارفيلد: يعني، أنها لا تمتلك حتى قدرة الرجل البالغ على أن تكون ذكية في حين أنها ما تزال محتفظة بالقدرة الطفولية.

خوليو كورتاثر: لا، لكن احترسي الآن لأن المصادفة، حسبما أشعر، هي التي جعلت هاتين الشخصيتين مفتقرتين للعقلانية، لكنني لا أعتقد أن هذا بديهي. عرفت وأيضًا أعجبت بعديد من النساء اللائي كن غاية في الذكاء ورائعات الحماس والمبادرة. واحدة من أفضل صديقاتي في فرنسا هي الروائية “كريستين كروشفرت”. إن عقلانيتها فائقة وفي نفس الوقت مفعمة بالحيوية. إنها النموذج، الكمال، لكنك لا ترينه كثيرًا.

إيفيلين جارفيلد: غالبًا جدًا ما يكون الرجال في رواياتك قادرين على تبني النزعتين، أو هم يبحثون عن الاثنين، بينما النساء لا يفعلن ذلك بالمرة. إنهن إما في أحد الجانبين مثل ميجا ولادميلا، أو النقيض، مثل هيلين.

خوليو كورتاثر: حقًا.

إيفيلين جارفيلد: ذلك ممتع جدًا أنك تسمح بالميلين أو النزعتين لشخصياتك الذكورية ولا تظهره في الشخصيات الأنثوية: الانشغال بالبحث الفكري العميق في الحياة وأيضًا الطريقة الساذجة لواقع المطابقة للطفل.

خوليو كورتاثر: أعتقد أن ذلك مرده لحقيقة كوني رجل وبالإضافة إلى أنني من أمريكا اللاتينية. على هذا المستوى أو وفقًا لهذا المفهوم أنا شديد النقد الذاتي جدًا. أعتقد أن “الطبيعة الذكورية” تؤثر على كل هذا. هذا مسلكي، الشخصيات التي تقوم بالبحث دائمًا هم رجال. غالبًا ما يُحفزون بواسطة نساء غير عاديات لكن أولئك النساء لسن من النوعية التي تجيد البحث. هذا صحيح وحقيقي. نعم.

إيفيلين جارفيلد: دائمًا ما تكون الشخصيات المحفزة لهؤلاء الرجال مجرد حالات مثالية، وفي الحقيقة والواقع، قليل منهن موجودات في هذا العالم.

خوليو كورتاثر: لا أعتقد هذا، على أية حال “ماجا” موجودة، رغم أنها ليست موجودة على النحو الذي عليه بالضبط في الكتاب. لكن كان لها تأثير عميق على حياتي الشخصية أثناء سنواتي الأولى في باريس. ماجا لم تكن نسخة منها، لا، لم تكن هذا الإبداع النموذجي المثالي، على الإطلاق.

إيفيلين جارفيلد: لكن ليس هناك الكثيرات منها.

خوليو كورتاثر: عليك أن تكوني حذرة جدًا بشأن تصريح كهذا. كل ما يمكنني قوله أنني لم أجد أية منهن. هذا لا يعني أنهن غير موجودات. ربما هن موجودات إذا تحركت وانتقلت إلى حلقات وفي دوائر مختلفة، في المسرح أو السينما. لست متأكدًا.

إيفيلين جارفيلد: هل تعتقد أنه من الصعب إبداع شخصية مختلفة عنك سواء من ناحية الجنس الذكوري أو العرق والأصل الثقافي؟ ذلك لأنني، المفروض، قادرة على كتابة كتاب عن رجل بطل أسود، بقدر ما بإمكانك كتابة كتاب عن النساء من غير نساء أميركا اللاتينية؟

خوليو كورتاثر: هاتان مشكلتان، واحدة جينية والأخرى جنسية، مسألة الآخر الثقافي والعنصري. يبدو لي نجاح الكاتب الذي يعرف مهنته جيدًا، ولو كان امرأة، يمكن للأديبة المتمكنة إبداع شخصيات ذكرية رائعة. وهناك شواهد في الأدب. وإذا كان كاتبًا ذكرًا، فيمكنه إبداع شخصيات نسائية لا تنسى. تذكري عبارة فلوبير الشهيرة “مدام بوفاري هي أنا”. إنها تعبر عن قناعة بأن كون المرء مذكرًا أو مؤنثًا لا يعوقه عن إبداع شخصية عظيمة. على المستوى الجنسي، لا أعتقد أن ثمة مشكلة على الإطلاق. أعتقد أنني قادر على خلق الشخصيات النسائية وأن أكون امرأة مادامت الشخصية التي تعيش على الآلة الكاتبة أثناء كتابتي لها مؤنثة. لكنني غير قادر على تخيل شخصية سوداء اللون لأن هناك سياق عرقي وثقافي يلعب دوره، إن كان أفريقيًا أسود، أو واحدًا من الذين يعيشون هناك، فليست لدي أدنى فكرة عن رؤيته للعالم. حتى لو كان أسود من أمريكا الشمالية. لا، إنني أستطيع قراءة “جيمس بدلوين” وأن أفهم العديد من الأمور لكن ليس إلى درجة أن أكون قادرًا على إبداع شخصية سوداء أو شخصية صينية.

إيفيلين جارفيلد: سأسألك عن شيء آخر يتعلق بما قلته للتو. لاحظت أنه في المشاهد الأيروتيكية في رواياتك، غالبًا ما تصف بشكل خاص ردود أفعال النساء الأيروتيكية هل رد الفعل هذا الذي تصفه هو من وجهة نظر الرجل؟

خوليو كورتاثر: حسنًا، هذا قدري.

إيفيلين جارفيلد: لكنك تقريبًا لا تصف الرجل بهذه الطريقة، دائمًا المرأة. وفي قصائدك الآن أراك قلما تعطي اهتمامك إلى الرجل بالفعل. يبدو لي أكثر أهمية وصف رد فعل الرجل من وجهة نظر الرجل.

خوليو كورتاثر: لا أعرف. نحن هكذا ندخل منطقة معقدة جدًا، الأيروتيكية. هناك الأجوبة تكون شخصية جدًا وشديدة الفردية، كل حسب طريقته. يعرف المرء هذا بالتحدث إلى النساء. هناك رجال يكون سلوكهم الأيروتيكي أناني بشكل كبير جدًا. قليلاً ما يهتمون برد فعل المرأة الأيروتيكي، حيث المرأة نوع من الهدف الأيروتيكي الموظف لمتعة الرجل وما هو جدير بالاعتبار هو تحقيق التقدم، ومدى التنوع في متعة الرجل. في حالتي، الأمر أكثر اكتمالاً جدًا. بالطبع، تثير الأيروتيكية الخاصة بي اهتمامي لأنه انطلاقًا منها أصل إلى الفكرة العامة عن الأيروتيكية. لكن الشريك في هذه الممارسة، المرأة، مهم أو أكثر أهمية مني. ردود أفعالها أساسية بالنسبة لي. أضحي بكل أنانيتي، يمكنني حتى أن أقلل من متعتي لتضاعف متعتها. شيء لا يفعله الرجال الآخرون أو حتى يفكرون فيه. أعتقد أن الأمر كذلك بالنسبة للنساء. لابد أن هناك نساء مهتمات فقط باستمتاعهن الشخصي وعليه فإن الرجل عندهن هو الوسيلة الميكانيكية التي يُحدث تلك المتعة. لكن هناك النساء اللاتي متعتهن الحقيقة هي منح الرجل المتعة في نفس الوقت اللائي يجربنها فيه. يبدو لي هذا قمة الأيروتيكية لأن، هناك، إبداع وخيال مزدوج أو متبادل يتولدان. في أدبي الأيروتيكي العنصر السادي موجود بشكل كبير. هذا واضح، وعلى المرء ألا يكون مرائيًا في هذا.

معروف جدًا أنه منذ بودلير، ليست هناك أيروتيكية بدون سادية، سواء كانت حاضرة أو غائبة، مدركة أو غير مدركة. هناك رد فعل غامض جدًا، لم يستطع أحد تفسيره حتى الآن بين المتعة والألم، إذ في أية لحظة بالضبط يتحول الألم إلى استمتاع، أو تحمل المتعة قدرًا من الألم. هذان هما عنصرا السادوماشوستية (السادية – المازوخية) اللذان تناولهما فرويد بالدراسة. واضح جدًا أن المكون السادي للأيروتيكية في أدبي قوي جدًا. يلاحظ المرء هذا في العديد من المشاهد الأيروتيكية في كتبي.

إيفيلين جارفيلد: تصف رد فعل الرجل بقوله “أنا رسمتك، أبدعتك”. “خوان” يخاطب ” تيل” ذات مرة، بقوله “أعتقد أنني جعلت منك شيئًا”، وهناك شخصية أخرى أيضًا مثل خوان لكن أصغر سنًا، أوستين، يقول تقريبًا نفس الكلمات إلى سيليا. هذا حب أناني جدًا، رغبة أنانية جدًا. إذا كنت تقول من ناحية أن رد فعل المرأة مهم فإنك من ناحية أخرى تصادر ذلك عندما، تبدع شخصيات لا تبرهن أو تبرر حقيقة مشاعرك هذه.

خوليو كورتاثر: لا أعرف. قد يكون هذا عيبًا في الكتابة، الحقيقة أنني غير قادر على توصيل كل ما أريده. لا تنسي أنه في “كتاب مانويل” كانت، إحدى التيمات هي مشكلة اللغة الإسبانية عند إيصال أو توصيل الخبرة الأيروتيكية. يظهر على الفور كم كبير من التابوهات، حتى أن كاتبًا متحررًا مثلي يشعر ببعض البذاءة إن هو تحدث عنها، وفي التحدث عن نوع معين من الأشياء، قدر من الفحش لا شك. هل تعرفين، عندما كنت أراجع مسودات “كتاب مانويل”، وقعت تحت إغراء حذف ثلاث أو أربع صفحات أيروتيكية لكن فيما بعد وبَّخت نفسي لأنني جبان وتركت الصفحات دون حذف. لأنني عندما قرأتها، كقارئ عادي، أعطتني شعورًا مضطربًا.

أشير في صدد ذلك بشكل فعلي وقوي إلى المشهد الأخير بين أندريس وفرانسين. وكم كان غريبًا أن المشهد الأخير من فيلم “التانجو الأخير في باريس” للمخرج بيرتولوتشي، المشهد الذي تحدث عنه العالم كله، المشهد الأيروتيكي الأخير هو عينه نفس المشهد الأيروتيكي الأخير في “كتاب مانويل”. لدرجة أن الناس عندما بدؤوا يقرؤون كتاب مانويل في بوينس أيرس، ولأنهم لا يعيرون انتباهًا للتواريخ، اعتقدوا أنني رأيت الفيلم واستخدمت أو قمت بتوظيف نفس المشهد. لكن وكما تعرفين ظهر الفيلم بعد سنة من إنهائي كتابة “كتاب  مانويل”. أنا حتى لا أعرف بيرتولوتشي ولا هو يعرفني. لكن على أية حال، إنه تناظر يثير التعجب ذلك أنه في الفيلم والكتاب نجد اللغة الأيروتيكية سواء المرئية أو المكتوبة قد أفضت إلى نتاجاتها النهائية القصوى نفسها، في النهاية يجب أن يكون هناك مثل هذه الصدفة لحدوث مثل هذا التطابق أو التوافق.

إيفيلين جارفيلد: واحدة من مناوشاتك. إلام تعزو الطبيعة السادية للأيروتيكية في كتبك؟

خوليو كورتاثر: ليس في كتبي، بل في الأيروتيكية نفسها. أؤمن أن الأيروتيكية تمتلك دائمًا عنصرًا ساديًا يمكن التحكم فيه  من قريب أو بعيد.

إيفيلين جارفيلد: لِمَ؟

خوليو كورتاثر: يجب ألا تسألينني. سلي سيجموند فرويد، هو من درس المسألة إلى أبعد حد.

إيفيلين جارفيلد: أنت تؤمن بفرويد كثيرًا. أنا لا.

خوليو كورتاثر: أنا لا أؤمن به، أتحقق فقط في داخلي من صحة تأكيداته. أشعر أن الإنسان، ككل الحيوانات، له قدر معين من العدوانية التي يمارسها ليس فقط في معركته من أجل البقاء، لكن أيضًا في اللقاءات الجنسية. أعتقد أن الأيروتيكية في “العصور المظلمة” كانت منحصرة أو مختزلة في مجرد العدوان الجنسي المباشر، الانتهاك الذي يفسح المجال للتكاثر أو التناسل، لكنها كانت بدون رقة، أو حب، أو مشاعر وعواطف، وهي التي ولدت لاحقًا في تاريخ الإنسانية. هناك كتاب قرئ كثيرًا منذ ثلاثين عامًا مضت تقريبًا، كتبه “دينيس دي رووجمنت”، اسمه “الحب في العالم الغربي”.

إنه تأريخ لكيفية مجيء الحب كعاطفة بشكله الذي نعرفه إلى العالم الغربي. يؤكد الكتاب أنه في عصر الجريكو اللاتيني القديم كان الحب غير معروف، مجهولاً، لكن الجنس كان معروفًا. أعيدي قراءة أي كتاب حول المجتمع اليوناني وستجدين الآتي: يتزوج الشاب اليوناني ليحظى بالأطفال، فيما بعد تبقى زوجته في المنزل، كنوع من عضو التأنيث لحين الحاجة إليه للإنجاب دون مشاركة عملية في الحياة السياسية كيلا تختلط الأنساب. لذلك لم تكن عندهم قاعدة للاتصال أو المحادثة وكان لدى الرجال عواطف معتادة شاذة جنسيًا نحو الذكور. المرء فقط في حاجة لقراءة سجلات سقراط أو السيبياديس. إن كان الشاب أو الرجل قادرًا على الحب، فهذا الحب كان يتم توجيهه نحو غلام أو شاب صغير، وليس نحو فتاة. وبالنسبة لها، كان للرجل عندها جاذبية أيروتيكية فيه ومسئولية يتحملها تجاه الوظيفة التناسلية. أما الحب كشعور فقد وُلِدَ مع الشعراء الجوالين (التروبادور) في العصور الوسطى.

 في ذلك الوقت، بدأت فكرة الرومانسية بمرحلة حب ما قبل الرومانسية، ولاحقًا عندما اكتملت ملامح الحياة الرومانسية، أطلق العناء للحب كعاطفة، وكما هو عليه اليوم لكافة الأغراض العملية. بمعنى أن العاطفة قد صاحبت ممارسة الجنس، وعلينا أن ننتبه إلى أن الشهوة الجنسية ليست هي الحب، إشباع الشهوة الجنسية المحض يختلف عن الحب. هناك أيروتيكية دون حب. ومن الصعب العثور على حب دون أيروتيكية، باستثناء أنواع معينة من الحب الروحاني حيث لا تسمع كلمة “جنس”. لكن الأيروتيكية يمكن وجودها دون حب.

إيفيلين جارفيلد: لكن هل تعتقد أنه ممكن للناس أن يصلوا إلى مستوى معين من الاحترام أو حب أحدهم للآخر، بحيث يتم قمع العنصر السادي في الأيروتيكية على هذا النحو أو ذاك الذي ذكرته نتيجة لأن الأنانية تتوارى في هذه الحالة؟

خوليو كورتاثر: هذا هو نموذج أو مثال الأيروتيكية التي ضمن سياق الحب. أعتقد أن العلاقة الأيروتيكية بين الاثنين المتحابين تحتوي على الحد الأدنى من الأنانية الفردية، وأن كلاهما يفكر في إسعاد أو إمتاع الآخر بقدر متعته الشخصية. لذلك نجد المكون السادي في هذه الحالة ينحى جانبًا بعض الشيء، يتراجع، أو يختصر إلى حده الأدنى.

إيفيلين جارفيلد: لكنه لا يزال موجودًا.

خوليو كورتاثر: دائمًا موجود. دائمًا.

إيفيلين جارفيلد: أعتقد أنك متشائم في تعاملاتك مع العلاقات الأيروتيكية والغرامية عما أنت عليه في معالجتك السياسية.

خوليو كورتاثر: حسنًا، ربما لست متشائمًا، لكننا نعطي مضمونًا سيئًا أو سلبيًا كلية للسادية، في حين أنها ليست سلبية كلية. تجدين السلبية موجودة في قدرة الرجل على العدوان، ولهذه الطبيعة العدوانية جانب إيجابي. إنها تمنح الرجل الوسيلة للمقاومة، وللقوة.

إيفيلين جارفيلد: على حساب الشخص الآخر، رجلاً كان أو امرأة؟

خوليو كورتاثر: عندما تكون سادية بحتة، نعم، تكون على حساب ذلك الطرف الآخر، ولذلك فإنها غير مقبولة بالنسبة لي.

إيفيلين جارفيلد: أريد أن أعرف قليلاً عن “تاريخ حكايات كرونوبيوس”. من الممكن ملاحظة ميل واضح نحو الوصول الجاد إلى الحقيقة بعد كتابك “حكايات كرونوبيوس” وحتى “كتاب مانويل”، رغم كتب الكولاج “حول اليوم في ثمانين عالمًا” و”الجولة الأخيرة”. هل اختفى كورتاثر المبتسم المبتهج الذي في كرونوبيوس إلى الأبد؟

خوليو كورتاثر: لا أعتقد هذا. يجب أن تميزي بين ابتداع المرح والبهجة. أعتقد أنني سأحاول دائمًا الحفاظ على المرح مادمت حيًا لأنه مكون أساسي مهم جدًا في كل الأدب برمته. لكن إن كان ما تعنيه هو أن الموضوعات ذات الطبيعة المرحة قد قلت منذ ذاك الحين، ربما كان الأمر كذلك بالفعل، لكنه فقط بشكل جزئي.

إيفيلين جارفيلد: البهجة المتفقة المجانية في “كرونوبيوس” ليست مثل عنصر اللهو في “كتاب مانويل”، في الأخير، اللعب محصور في نطاق سياسي ولا أدري في أي كتاب آخر قدمت سعادة بمثل هذا الأسلوب المتفرد كما في كرونوبيوس، ربما هو نوع من الكتب التي تكتب لمرة واحدة فقط.

خوليو كورتاثر: إضافة إلى ذلك أقول أنه كتاب لا يجوز أن يكتب ثانية لأسباب أخلاقية. فحالما أنهيت القسم الكامل المتعلق بكرونوبيوس، حوالي عشرين حكاية تقريبًا استمرت الأحداث في التدفق عليَّ. بيد أن هناك طرقًا معينة لسرد الأشياء عن طريق مخزون جمل وعبارات معينة بذاتها، تلك التي تداوم على تكرار نفسها بأسلوب هزلي جدًا. رفضت الاستمرار في الكتابة لأنها غدت سهلة جدًا، روتينية جدًا. لذلك قررت إنهاء سلسلة كرونوبيوس. واصلت استخدام الأفكار وشخصية كرونوبيوس في نصوص أخرى. لكنني عن عمد توقفت عن أن أكتب تلك القصص. نعم، أنهيت هذه الحلقات.

إيفيلين جارفيلد: أخبرتني قبل أيام أن الكتاب منحك متعة عظيمة عندما كنت تكتبه.

خوليو كورتاثر: نعم، كرونوبيوس الكتاب الأكثر إشراقًا الذي كتبته على الإطلاق، إنه حقًا لعبة، لعبة ساحرة، مسلية جدًا، كأنها مباراة في التنس. هل تفهمين ما أقول؟ لم تكن هناك نية جدية. رأى النقاد فيما بعد أن في كرونوبيوس وفاماس وإسبيرانزاس، قسطًا من التقسيم وسخرية مبيتة لتصنيف الإنسانية. نعم، هذا موجود بالفعل، لكنه ليس متعمدًا، على أية حال فقد جاء دون سوء نية أو حقد.

إيفيلين جارفيلد: رغم معرفتي بأنك لن تعجب بهذا التفسير، إلا أن الكتاب بالنسبة لي شديد الجدية لأنه يبين لنا أننا يجب علينا أن نحاول أن نكون أقل شبهًا بكل من فاماس وإسبيرانزاس وأكثر قربًا أو شبهًا بكرونوبيوس الذي يمتلك ببساطة مرح أكثر. نحن منطقيون جدًا.

خوليو كورتاثر: أنا متفق معك، لكن هذه الجدية التي ترينها في الكتاب هي شيء يكتشفه القارئ ويضفيها عليه. لم أتعمد هذا عندما قمت بتأليف الكتاب.

إيفيلين جارفيلد: هل جاءت الأقسام المختلفة للكتاب كلها كدفعة واحدة تشكل كلاً متصلاً أم هي قد كتبت متراوحة وفي أوقات مختلفة؟

خوليو كورتاثر: في أوقات متباينة تمامًا. كتبت كرونوبيوس وفاماس في باريس عام 1952 تقريبًا. اشتريت آلة كاتبة مستعملة تفي بالغرض تقريبًا. وهكذا قضيت وقتًا طيبًا، نظرًا لأنه كان لدي الكثير من وقت الفراغ – بعكس الآن، بكل أسف – فقد كرسته لعمل طبعات خاصة صغيرة من الأشعار والنصوص الأخرى. أنهيت منها طبعة صغيرة من “تاريخ حكايات كرونوبيوس”، ولاحقًا في إيطاليا كتبت “دليل التعليمات” كشيء مختلف مستقل. فيما بعد في بوينس أيرس كتبت “وظائف غير عادية” وأيضًا في إيطاليا، “مادة غير مستقرة”. كلها كانت مستقلة عن بعضها البعض. في أحد الأيام في بوينس أيرس، قرأ “فرانشيسكوا بوروا”، الذي كان مستشار التحرير في دار النشر “سوداميريكانا” وصديقًا حميمًا، مخطوطة “كرونوبيوس وفاماس” في إصدار الشكل الصغير وقال لي: “أود أن أنشر هذا الكتاب لكنه صغير جدًا، ألا توجد لديك أشياء أخرى؟” لذلك نظرت بين أوراقي وفي أجزاء الفصول بحثًا عن شيء. أدركت أنه على الرغم من اختلاف هذه الفصول التي أكملتها، إلا أن شكل أجزاء الكتاب معًا سيؤلف في النهاية وحدة متكاملة. هذه الوحدة الشكلية، في المقام الأول، تتوافر لأنها كلها نصوص قصيرة. لذلك وضعتها لكي تفي بالحجم الطبيعي المفترض لكتاب.

إفيلين جارفيلد: هل لك أن تصف لنا أصول بعض التعبيرات أو الألفاظ الجديدة غير المألوفة وغير الشائعة التي أسبغتها على كلمات بعينها مثل “كاتالا” و”فاما” و”إسبيرا”؟

خوليو كورتاثر: نعم، دعينا نبدأ بكلمة “كرونوبيو”، التي جاءتني في شكل بصري كما رأيتها في أول مرة كنوع من الكرة أو الفقاعة السابحة أو الطافية في الهواء. لاحقًا أراد بعض النقاد تفسير الكلمة تفسيرًا موسوعيًا ضمن فكرة الزمن، لكن الأمر لم يكن له علاقة على الإطلاق بهذا. وقد خطرت لي “إسبيرانزاس” و”فاما” بنفس الكيفية وبقدر ما لرقصتي “التانجو” و”الكتالا” علاقة، كانتا مسألة التأرجح أو التأويل في الجملة، وفي الكلمات. إنها كلمات مخترعة، تمامًا مثل “ثراثر”.

إيفيلين جارفيلد: يرى الكثيرون أن الحجلة هي قمة أعمالك وذلك لأنه بعد الحجلة لا تمكن كتابة أي شيء في مستوى أفضل. الآن، بعدما كتبت العديد من الأعمال وبعد حوالي عشر سنوات، ما الذي تقوله بشأن هذا التعليق.

خوليو كورتاثر: إنه نوع من التعليقات لا أفضله كثيرًا، حيث في حالة التأمل المتعمق، نجد كل شيء رهين بالمنظور أو زاوية النظر، عشر سنوات بالضبط انقضت منذ الوقت الذي كانت الحجلة قد نشرت فيه عام 1963، اليوم أتمت عشر سنوات، إنها بالفعل قد صارت غلامًا يافعًا. إنني أتفق مع النقاد. لو تسألينني: “أي من كتبك تمثل لك قيمة كبيرة؟” سأجيبك، الحجلة. لكن العالم يتحرك باستمرار في سرعة مدوخة وأنا أود أن أعرف ما إن كانت بعد عشرين عامًا من الأدب بدءًا من الآن ستظل كتابًا مقروءًا في هذا الكوكب أم أنها ستستبدل ببعض النظم السمعية البصرية. أنا لا أعرف. أود أن أعرف ما سيكون عليه المشهد بعد عشرين عامًا من الآن. قرأت الكثير من الأدب المقارن منذ سنوات خلت ورأيت إلى أي مدى أخطأ النقاد في تقييمهم لكتب عدد من الكتاب. بعد خمس أو عشر سنوات من نشر الكتاب، رأوا أن كتاب “هـ” كان تحفة وكل كتب هذا المؤلف كانت دون المستوى. لكن بعد خمسة وعشرين عامًا كتاب “هـ” انحدر جلاله ولمع كتاب آخر، للمؤلف نفسه، الكتاب الذي بدا وقتها أقل أهمية، فجأة احتل أهمية جديدة. لذلك هناك نسبية ومنظور متغير. لكن، الآن، بعد عشر سنوات، أعتقد أن الحجلة هي الأفضل. إن كان لابد لي أن آخذ معي أحد كتبي إلى جزيرة معزولة، فسآخذ الحجلة على الفور.

إيفيلين جارفيلد: الحجلة بدلاً من القصص القصيرة؟

خوليو كورتاثر: نعم، نعم. حسنًا، تقصدين إذا أخذت القصص القصيرة في مجموعها كنوع من الدور أو العود على بدء… لا، أنا سآخذ الحجلة!

إيفيلين جارفيلد: تبدو لي كأنك أقل شاعرية مما كنت أتصورك. أرجوك ألاَّ تعقب على ذلك.

خوليو كورتاثر: لا. لن أعقب.

إيفيلين جارفيلد: ما التأثير الذي تركته الحجلة على أدباء أمريكا اللاتينية؟

خوليو كورتاثر: لا أخشى أن أذكر أمورًا سوف يفسرها العديدون من زملائي الأدباء أو يترجمونها على الفور كبرهان على الزهو والخيلاء لأنه في أمريكا اللاتينية واحد من التابوهات التي مازال الواجب التغلب عليها هو التواضع الزائف. مفترض لكي تكون حسن السير والسلوك ومهذبًا، أن تكون متواضعًا، وبالطبع ذلك يعني الإحجام عن قول بعض الأشياء بوضوح. لست متواضعًا ولا مغرورًا. لكن عندي فكرة جيدة عن ذاتي وعمن أنا وعما أنجزت. لذلك أستطيع القول إن الحجلة قد غيَّرت بشكل كبير جزءًا لا بأس به من أدب أمريكا اللاتينية في السنوات العشرة الأخيرة. كان تأثيرها هائلاً على الشباب الذين بدؤوا الكتابة في تلك السنوات. كان هذا التأثير سلبًا وإيجابًا. النتائج السلبية كانت لدى أمثال هؤلاء الذين حاولوا تقليد بورخس. نشرت روايات عديدة مشابهة للحجلة لكن بشكل مبتذل في كل مكان هناك، بوعي أو بدون وعي، مستخدمين الأساليب المستخدمة في الحجلة. معظم هذه المحاولات كانت متوسطة القيمة جدًا.

على الصعيد الآخر، كان هناك نوع آخر إيجابيًا من التأثير، نوع من التحرر من الأحكام والقوالب والآراء المسبقة، ومن التابوهات على مستوى اللغة. “عدن بوينس أيرس” للكاتب “ليوبلدو ماريشال”، كانت بالفعل تحررًا في اللغة الأرجنتينية. شعرت أيضًا أن الحجلة ساهمت كثيرًا في هذا، جعلت الكتاب ينزعون رابطات أعناقهم ليكتبوا.

إفيلين جارفيلد: أذكر أيضًا أن أفضل الأجزاء في الحجلة وجدت في نصوص تتابعية بعينها تبدو تقريبًا كقصص قصيرة. أسميها “أحداث أو مشاهد” في كتابي عنك وعن السريالية. إنها الفصول المشابهة لذلك الذي عن موت “ريكاردو”. هل تعتقد أن تمرسك المهني الطويل ككاتب قصة قصيرة ساعدك بشكل جيد في كتابة هذه المشاهد أم أن هناك سببًا آخر لنجاحها؟

خوليو كورتاثر: ربما كانت مهنتي ككاتب قصة قصيرة مصدر دعم لي بمعنى أنها ساعدتني على سرد الحادثة الطويلة التي كانت ذات وحدة متكاملة. لكن على عكس العديد من القراء الذين شغفوا بهذه الفصول في الحجلة والتي يتذكرونها في معظمها، فأنا أحبها بدرجة أقل، لأن الحجلة تم تصميمها عن عمد لتدمر تلك الفكرة العامة عن القصة التي بمثابة التنويم المغناطيسي. أردت أن يكون القارئ حرًا، حرًا قدر الإمكان. “موريللي” يقول هذا طوال الوقت، أن القارئ يجب أن يكون شريكًا وليس متلقيًا سلبيًا (ليكتور هيمبيرا). في هذه الفصول سمحت لنفسي أن أندفع أو أتحمس قليلاً نحو الدراما، والسرد، خنت نفسي. أدركت لاحقًا أن القراء أصبحوا منومين بقوة وحدة الحوادث تلك. كان الأفضل لو أن هذه الفصول لم توجد بهذه الطريقة. فكرتي كانت إنجاز تقدم في الأحداث، فعلي وأدائي وتأثيري وإيقافه بالضبط في الوقت الذي سيشعر فيه القارئ بأنه قد وقع في الشرك، لإعطائه عندئذ وخزة تجعله يفيق ويعود بموضوعية لرؤية الكتاب من الخارج، من بعد آخر. تلك كانت الخطة. من الواضح أنني لم أنجح فيها بشكل كلي. لكن من وجهة النظر هذه، أحب هذه الفصول بشكل أقل.

إيفيلين جارفيلد: على الرغم من هذا، قلت لي أن الفصل الذي يدور حول توازن “تاليا” فوق الألواح كان الفصل الأول الذي قمت بكتابته.

خوليو كورتاثر: بالطبع، والتفسير بسيط جدًا. كان الفصل الأول لأنه في تلك اللحظة لم يكن لديَّ بعد أدنى فكرة عما سيكون الكتاب عليه لاحقًا ولا حتى عما ستسفر عنه نواياي. “موريلي” لم يكن قد ولد بعد. ظهر لاحقًا. ثم بدأت كتابة الرواية.

إيفيلين جارفيلد: ذكرت الآن “ليكتور هامبرا”، القارئ السلبي أتود تكرار ما ذكرته لي ليلة أمس؟

خوليو كورتاثر: نعم، أطلب منك بصفتك امرأة تمثل كل النساء أن تسامحينني لاستخدامي مثل هذا التعبير النمطي جدًا “ماشيستا” والخاص بأمريكا اللاتينية المتخلفة. وعليك أن تذكري هذا في محادثتك. قلته ببراءة وليس من عذر، لكن عندما بدأت أسمع أراء صديقاتي من النساء القارئات، اللائي أهنني بشكل ودي، أدركت أنني فعلت شيئًا غبيًا. كان ينبغي عليَّ أن أكتب “القارئ السلبي” وليس “المرأة السلبية”،لأن المرأة ليست بالضرورة سلبية بشكل مستمر، إنها في ظروف بعينها، تكون كذلك، لكن ليس في باقي الظروف، تمامًا مثل “ماخو”.

إيفيلين جارفيلد: هل تهتم بالتعليق على نقوش وتصميمات القرون الوسطى التي ظهرت في: “حول اليوم في ثمانين عالمًا؟”

خوليو كورتاثر: لا أعرف إن كان عندك نفس الشعور أم لا. تمتلك العصور الوسطى العديد من الخصائص الساحرة التي تم التعبير عنها بشكل جيد جدًا في النقوش والآراء التنويرية والصور القلمية الموجزة التي وصلتنا. إنها تعكس طريقة الحياة، والمشاعر، مفهوم العالم المليء بالغموض، والممتلئ بالانفتاح على كل الاتجاهات، إضافة إلى قيمتها الإبداعية التكوينية الهائلة. الأعمال الأيقونوجرافية الخاصة بالعصور الوسطى تسحرني، والرسومات الرقَّية، والمخطوطات لذا بدت فكرة تضمينها فكرة جيدة.

إيفيلين جارفيلد: “في خدمتكم” وأعمال أخرى، تتناول الشذوذ الجنسي: Los premios وكتاب مانويل، و62 نموذج تسليح (في كله الأنثوي). هل لك أن تعلق على هذا الاهتمام بالخنوثة؟

خوليو كورتاثر: ينجم هذا عن الشيء الأكثر أهمية، مفهومي عن الإنسان الحديث، إنسان المستقبل، مازلت مؤمنًا بشيء قلته لأصدقائي الكوبيين والأرجنتينيين، أنه في مشروع المجتمع الاشتراكي، يجب أن تحدث الثورة ليس فقط من الخارج لكن أيضًا من الداخل على المستوى الفردي. حتى الآن، الاشتراكية التي حكمت لم تحل مشكلة إحدى سمات تحرر الإنسان، وهي مشكلة غريزته الجنسية (الليبدو)، النشاط الجنسي الخاص به. بل على العكس، صارت المشكلة أكثر تعقيدًا. الاشتراكية، بصفة عامة، لا تزال تعتبر الجنسية المثلية كمرض، كعيب جسدي، ذلك المفهوم الذي تخلى عنه التحليل النفسي والطبي وعلم النفس منذ فترة طويلة. هناك أناس صاروا شواذ جنسيًا من جراء إفسادهم وانحرافهم أو تأثرهم بالآخرين، لكن هناك آخرين ولدوا هكذا، وهذا شيء أصيل وشرعي جدًا تمامًا كالعلاقة الجنسية الطبيعية. إنه ليس مسألة إحصائيات. هذا من حسن حظ القدر الإنساني، لأن تكاثر الجنس البشري دخل في لعبة، يشكل الأشخاص الطبيعيين الغالبية العظمى. لكن لكي نكون أمناء، عليك أن تعرفي النسبة المئوية المهمة جدًا الخاصة بالشواذ جنسيًا الذين وجدوا دائمًا على مدار التاريخ (في كل فترة من فترات التاريخ)، في أي مجتمع. لأنه بسبب الرياء والسرية والخوف في الفترة التي كانوا يحرقون فيها وهم أحياء، كما في إسبانيا، يمكنك أن تتخيلي كم كان هذا الأمر خفيًا وكم كان هؤلاء سيئي الحظ. لم تعد مجتمعاتنا تحرق الشواذ جنسيًا، لكن إلى وقت قريب كانوا يُسجنون. عندما تتأملين القانون البريطاني والقضية المرفوعة ضد “أوسكار وايلد”، ستدركين ما كان الأمر عليه. هذا بدأ يتغير، لكن ما يضايقني أنه يتغير بسرعة أكثر في المجتمعات الرأسمالية عنه في المجتمعات الاشتراكية. أعتقد أنه يجب أن تكون هناك رحابة أفق وانفتاح وتفهم تجاه الشواذ جنسيًا، لأنه يومًا ما عندما لا يشعر الشواذ جنسيًا بأنهم كوحوش محبوسة أو مثل حيوانات مضطهدة أو مُلهبون بسياط نكات كل شخص، سيكونون قادرين على المشاركة في الحياة الطبيعية وسيشعرون بالإشباع على المستوى الأيروتيكي والجنسي بدون مضايقة أي شخص وسيكونون سعداء إلى أقصى درجة سعادة يحققها الفرد الشاذ ذكرًا كان أم أنثى.

إيفيلين جارفيلد: ما الذي تفعله الآن؟

خوليو كورتاثر: أقوم بالرد على أسئلتك.

إيفيلن جارفيلد: صارت لك مدة طويلة تفعل ذلك.

خوليو كورتاثر: وهو عمل دائم!

إيفيلين جارفيلد: الآن لن تتمكن من دعوة أحد إلى بيتك.

خوليو كورتاثر: بالطبع.

إيفيلين جارفيلد: ولتكن الدعوة إلى المكتب، حسنًا، مثل “جويماريز روسا”.

خوليو كورتاثر: تمامًا مثل جويماريز، مع العديد من السكرتيرات وقدح من الشاي.

إيفيلين جارفيلد: العديد من نقاد “الحجرات الصغيرة” الكتاب، بمن فيهم أنت، في تيار أدبي معاصر يدعى “الواقعية السحرية”. لا أحب الحقيقة التي تقول إن الواقعية السحرية قد اتسعت جدًا بشكل أطلق العنان لعديد من الاتجاهات المختلفة والمتنوعة. التي تشكل معًا شيئًا إجماليًا مثل “عامل التحويلة” – أريولا، واحدة من قصصك القصيرة و”مملكة هذا العالم” لكاربنتير، هما تؤلفان مقتطفات أدبية لا معقولة. مار أريك في الواقعية السحرية؟

خوليو كورتاثر: ليست لديَّ فكرة دقيقة عن هذا، لكن عندي فكرة عن نوع معين من النقاد الذين يحبون أن يفبركوا لافتات كحرفيين صنائعيين عوضًا عن نقد أدبي حقيقي كنقاد جادين. يرغبون في جني المزيد من المال ببيعهم اللافتات، ذلك لأنهم يسعدون بإلصاقهم لافتات وشارات للأشياء. الواقعية السحرية وصف عام للإحاطة باتجاهات معينة، لكنه لا يشمل كل نوعيات الكتابة. المفهوم أضيق مما يزعمون “أليخو كاربنتيير” وقع في نفس المحظور مرات عديدة، فقال إن كل أدب أمريكا اللاتينية باروكي. بالتأكيد، بشكل من الأشكال، قد يكون الأمر هكذا عنده أو في حالته، حالة “ليزاماليما” أو على نحو أكثر حداثة مع “سيفيرو ساردي”… لكنها ليست على كل حال حالة “فارجاس يوسا”، ولا حالتي. لذا أنت ترين اللافتات وشأنها…

إيفيلين جارفيلد: اسمح لي أن أعرض ما أعتقده في هذه القضية. إثنان من المؤلفين كتبا أعمال ضمن سياق الواقعية السحرية – لم يكن النقاد هم الذين حاولوا إعطاء تعريف للواقعية السحرية لكن بالأحرى أولئك الذين كتبوا بهذا الأسلوب أو بهذه الطريقة وفي نفس الوقت أطلقوا اسم هذا الاتجاه – إنهما ميجيل أنخيل أستورياس و أليخو كاربنتيير. اللذين صاغا تعريفاتهما الخاصة، التي تشبه: الجانب الأسطوري العجائبي والجماعي الخاص بلا شعور الناس الذي يوجد على مستوى أسطوري في الحياة اليومية العادية. أجد الواقعية السحرية عندما أقرأ (أساطير جواتيمالية) لأنني أعتقد أنه ضروري أن يكون لديهم بعض الأسس في الثقافة السوداء أو في الثقافات الأهلية أو في الأساطير الخرافية. ربما في الأساطير المسيحية كما نجدها لدى رولفو، بين الحين والآخر. كل من هذين – كاربنتيير وأستورياس – كانت له خبرة كبيرة وعلاقة مع السريالية في فرنسا ونظرًا لأن السريالية كان لديها الكثير لتفعله باللاوعي الجمعي، أجد الواقعية السحرية مشابهة لها، لكن من ناحية اللاشعور الأسطوري لشعب من الشعوب، وليس في مستويات عالمية أوسع أو تضم كل البشر.

خوليو كورتاثر: بالطبع.

إيفيلين جارفيلد: لذلك الواقعية السحرية بالنسبة لي هي نوع من الأذرع أو الامتداد الجانبي الإقليمي للسريالية الكيان الكبير، سريالية خاصة أصلية في أمريكا اللاتينية. إنه أسلوب أمريكا اللاتينية في الاتجاهات المذابة أو المنصهرة معًا في الرمزية والشعرية بشكل تركيبي، وقد ساعد مع الروافد الأخرى في صياغة “الحداثة” الخصوصية في أمريكا اللاتينية.

خوليو كورتاثر: بالطبع، هذا واضح لذلك فهي مرتبطة بالسريالية الأوروبية وليست وطنية بحتة، كان أسلوب “روبين داريو” مرتبط قليلاً بالرمزية الأوروبية في شعره. نعم، تبدو لي هذه خلاصة جيدة، تصنيف أو إطار عام.

إفيلين جارفيلد: لا أحد تقريبًا من المؤلفين المصنفة مختاراتهم الأدبية هكذا والعديد من النقاد الذين وضعوا تحت هذا العنوان “الواقعية السحرية” سيلائمون الاندراج تحت تعريفي الخاص. السواد الأعظم من قصصك أيضًا لا تتلاءم والاندراج تحت هذا الاتجاه.

خوليو كورتاثر: لا. يجب على المرء أن يدرس إن كان، على سبيل المثال، “جارسيا ماركيز” مناسبًا لوضعه هنا. أعتقد هذا.

إيفيلين جارفيلد: نعم. أعتقد هذا، أيضًا، بسبب العنصر الأسطوري، وعيه بالتراث الجماعي للشعب والناس الذين يعبِّر عنهم في شكل إطار أسطوري كما في “مائة عام من العزلة”.

خوليو كورتاثر: لكن كاتبًا مثل “أونيتي”، كمثال، لا يناسبه هذا على الإطلاق.

إيفيلين جارفيلد: لا.

خوليو كورتاثر: أنا أيضًا.

إيفيلين جارفيلد: قبل إنهاء هذه المقابلة الطويلة، أود أن أسألك عن شيء بخصوص موسيقا الجاز. متى أصبحت مهتمًا لأول مرة بهذه الموسيقا التي أثرت على حياتك وكتبك؟

خوليو كورتاثر: من الصعب القول بالتحديد لكنني اكتشفت الموسيقا في بوينس أيرس، تقريبًا في سن العاشرة في عام 1924. شهدت مولد الراديو لكنني لم أمتلك أعمالاً مسجلة. قبل أي شيء لأنه لم يكن هناك وقتها تسجيلات للجاز، وأيضًا، وبعد ذلك، لأننا لم نكن نمتلك المال الكافي لشرائها. إضافة إلى أن أمي اشترت لي التسجيلات ولم تكن تعرف شيئًا عن الجاز. كانت هي والجاز عالمان مختلفان. لذلك كان الجاز عالمًا سحريًا بالنسبة لي لأنك في الراديو حينها اعتدت فقط سماع التانجو، والأوبرا، والموسيقا الكلاسيكية والفلكلورية. ربما رقصة الرومبا أو فالس فينيسي. ثم في أحد الأيام، للمرة الأولى صبي في العاشرة من عمره يقوم بسماع شيء يدعى “فوكس تروت – مشية الثعلب”، ذو إيقاع ولحن وكلمات. لم استطع فهم القصائد المغناة لكن الأمر كان أن شخصًا ما باللغة الإنجليزية يغني وكان هذا ساحرًا بالنسبة لي. سأكون في الرابعة عشرة من عمري عندما أسمع “جيللي رول مورتون” وبعد ذلك “ريد نيكولز”. لكن عندما سمعت “لويس أرمسترونج”، لاحظت الاختلاف. كان “أرمسترونج، جيللي رول مورتون، ودووك إلنجتون” المفضلين لديَّ.

إيفيلين جارفيلد: هل تفضل هذه الأيام الاستماع إلى نوع معين من الجاز عما كنت تقبل عليه في الأرجنتين؟

خوليو كورتاثر: على الإطلاق. إذا جعلتينني أختار خمس أسطوانات تسجيلات لأستمع إليها في جزيرة منعزلة، سيكون الاختيار صعبًا – عشرة ستكون أفضل. أود أن آخذ معي واحدة لجيلي رول مورتون، واحدة أو اثنتان أو ثلاثة لأرمسترونج، واحدة لإلنجتون من العشرينات أو الثلاثينات. هذا يثبت أنني لم أتغير كثيرًا. لم أعتد أبدًا موسيقا “سوينج – الجاز الراقص” أو موسيقا “البيج باند – جاز الجماعات الكبيرة”. سيكون الاستثناء هنا هو “دووك إلنجتون” لأنه كان بالنسبة لي عازفًا منفردًا وآلته كانت بمثابة فرقة بأكملها.

إيفيلين جارفيلد: عندما كنت تتحدث أمس عن الألعاب الرياضية، ذكرت أنك تفضل الألعاب الفردية بدلاً من الفرق الرياضية لأنه بهذه الطريقة المسئولية الرياضية لن تضيع. يبدو أن الواحد يمكنه تطبيق نفس الشعور على موسيقا الجاز لأنك تفضل العازفين المنفردين عن الفرق الجماعية.

خوليو كورتاثر: قلت أنني أفضل الفردية في كل الحالات، لم أنس الجماعية أبدًا. أنا، ربما، فردي جدًا.

إيفيلين جارفيلد: أنت أكثر تطابقًا مع تجاربك الشخصية حتى في الموسيقا؟

خوليو كورتاثر: أعتقد أنه يتوجب على الفرقة أن تضحي بجودة موسيقاها. كل شخص يعزف داخل حدود وضمن قيود، ليحدث نتيجة معينة على أساس بعض الاتفاقات والترتيبات المبدئية المسبقة، لكن عندما يعزف الموسيقي بمفرده يمكنه إخراج كل ما عنده دون شروط، يرتجل عندما يريد، يتابع، بالطبع، تغير نغمات وترية معينة، إحساس معين بالعمل الجماعي، لكن في إطار فردي.

إيفيلين جارفيلد: أعتقد أنك اقترحت الكلمة المفتاحية، “حرية الشخص الفردية” في التعبير ضمن مجموعة صغيرة.

خوليو كورتاثر: في السالف مع بواكير الجاز، المقطوعة لم تكن تدوم أكثر من ثلاث دقائق لأن سعة أسطوانة التسجيلات كانت لمدة ثلاث دقائق فقط. أسطوانات الـ “إل بي”[3] كانت مناسبة للجاز من ناحية، لكن من ناحية أخرى كانت لها أضرارها. بسببها يمكن أن يكون العازفون نرجسيين جدًا، كأي شخص آخر، لذلك يطيلون ارتجالهم لنصف ساعة بينما يكونوا قد بلغوا بالفعل حد الكمال أصلاً… . كانت التسجيلات القديمة كشكل معين من الشعر، كموسيقا سونيتات عاجلة. كان على الواحد أن يعطي أفضل ما عنده في ثلاث دقائق.

إيفيلين جارفيلد: هل هذا أيضًا هو الفرق بين القصة القصيرة والرواية؟

خوليو كورتاثر: نعم، هذا قياس جيد.

إيفيلن جارفيلد: قمت بهذه المقارنة في أحد أعمالك عندما كتبت أنك تحب كتابة القصة القصيرة كما لو أنك كنت تعزف مقطوعة جاز.

خوليو كورتاثر: أكرر الكثير. عندي مخزون من الأفكار التي أواظب على تكرارها طوال حياتي. إيفي، هللا رحمتني، هللا رأفت بي!

إيفيلين جارفيلد: السؤال الأخير، فعلاً الأخير!

خوليو كورتاثر: التانجو الأخير!


[1] يقصد كورتاثر مسرحية الكاتب الإنجليزي الشهير “جون أوزبورن”، (أنظر وراءك في غضب)، التي صنعت شهرته، وكان لها في ذاك الوقت صداها المدوي – المترجم.

[2] نسبة إلى قصر دوينو على البحر الأدرياتيكي في إيطاليا، كان هذا القصر الإيطالي من أملاك أميرة نمساوية مثقفة تعطف على ريلكه وتحب شعره، وكثيرًا ما دعته وغيره من الكتاب والفنانين الأوروبيين، منهم على سبيل المثال جيمس جويس، وذلك ليحضروا ما كانت تقيمه من حفلات في هذا القصر الذي بدأ ريلكه كتابة هذه القصائد فيه – المترجم.

[3] “إل.بي Long Play” المطوَّلة: أسطوانة فونوغرافية يتراوح قطرها بين 10 أو 12 إنشًا وتدور 33 دورة وثلث في الدقيقة – المترجم.

مقالات من نفس القسم