خطاب ثان إلى ليالي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رامي عبد الرازق

أيام طويلة مضت وأنا اقاوم الكتابة إليكِ

اعلم انني كنت قد وعدتك بكتابة شبه دائمة ومستقرة نسبيا،

واعلم ان الله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به او يعد احدهم بالكتابة ولا يكتب..

الوعد بالكتابة هو قسم مطلق

لم احنث به يوما

ولكنني اقسم ان لدي من الأسرار ما لا تطيقه ملائكة الكتابة نفسها

ايام طويلة مضت وانا جالس بمفردي في بستان قاتم كان ذات يوم مقبرة مذدهرة بالشواهد،

وعندما يقرر الموتى ان يحولوا قبورهم الرخامية إلى حديقة فلا شك انهم يعرفون جيدا أنها لن تستقطب سوى عشاق خائبين او على وشك الأنتحار.

وها انا مثل كل العشاق اصحاب السوابق العاطفية الفادحة لا اجد مكانا انسب من هذا كي اجلس للكتابة فيه، بقعة منعزله لا تزورها الموسيقى او يعرفها الشعر.

كم مضى على من الوقت! وكم تلف من الثمار او سقطت اوراق ورد كثيرة مهشمة، لم اعد احسب ولا أذكر، احاول فقط ان اطمئن ان شراييني لم تذبل وان الهواء يجد اماكن خضراء في رئتي كي يجلس اسفلها.

بعد لقائنا الأخير سافرت إلى المغرب، ذهبت لكي التقي بالفتاة التي تسكن بيت الروح، كانت مناسبة عاطفية جميلة تحولت إلى مذبحة شعورية، تهرأت كرامتي، هاجمتني المذكورة بعنف واتهمتني بأنني غير قادر على ان افي بوعودي ولم اكن ادري ماذا يمكن ان افعل! رفضها التام القدوم إلى القاهرة واصرارها على ان نعيش في المغرب وضعني في مأزق مهني وعائلي خارق.

كنت قد وعدتها بتقسيم حياتي ما بين البلدين ولكن يبدو اننا في لحظات الشغف بالأيجاب والرغبة في ارضاء الحبيب ننسى ان ارواحا اخرى معلقة في دمائنا من الصعب ان نتصور غيابها حتى لو ادعينا ذلك.

عدت من هناك حزين ومكروب، وكنت قد التقيت قبلها بفتاة صغيرة قبل شهور ولم اكن ادري ان ثمة ما ينساق مني ورائها، لكأني قابض على دنانير ذهبية خرجت للتو من افران السبك.

أن التورط في علاقات من هذا النوع لاشك له مضارة التي لا ندركها سوى بعد بدء النزيف واغراق المشاهد بالدم حتى الأعياء التام للصورة.

كان الحزن الذي يعبأ صدري من جراء فشل علاقاتي بحبيبتي المغربية هو ما دفعني لتوهم ان ثمة ما يمكن ان يعوض هذا الفشل بانتصار ذكوري باهت على روح لا تزال في طور التشكل، لم احسب حساب شبابها وانطلاقها وحيويتها الدموية، قبضت على دينار ذهبي ملتهب فلم استطع سوى ان افلته مرة اخرى من شدة وهجه وسخونته، وعندما نظرت إلى يدي وجدت النقش الخاص بآلهة سمراء وقد انطبع في كفي من اثر الألتصاق الحارق بين الجلد وبين سطح الدينار الذي لم يكن قد برد بعد.

انتهت علاقاتي مع الفتاة التي تسكن بيت الروح وحمتني خبرة متراكمة من التورط مع الفتاة/الدينار وانفقت بضعة ايام عاكفا على الكتابة في بيت العائلة وبعدها سافرت إلى ابو ظبي.

التقيت هناك بامراة غريبة، كانت عيناها تتحدثان عن طفل مشترك يمكن ان نصنعنه سويا من بقايا اجسادنا، لكنني لم اكن في حال يسمح لي ان امس احدا او ادع احدهم يطأ ساحتي المغلقة، كنت اشبه بالمسلوخ الذي ترتجف بشرته من اثر الالتهابات وبقايا النابالم العاطفي الحارق.

قضيت العيد في منزل الأسرة ولم اعد إلى شقتي، كانت كل الأشباح تنتظرني هناك لكي تشرب ما تبقى من انفاسي، وكنت في حاجه لأن اختبئ بعيدا عنها في مكان تعلمه جيدا لكنها تشفق ان تهاجمني فيه.

سافرت بعد ذلك إلى اليونان وهاجمني المرض مرة أخرى، كانت مناعتي قد تلاشت من اثر الانهاك المعنوي والنفسي والشعوري الذي عانيته طوال الشهر الماضي، استسلمت للسعال والزكام والاحتقان، كنت اتصور أن تصاعد الأبخرة والغازات السامة من قلبي هو سبب هذا الاحتقان العنيف في حلقي، كنت اخشى ان اتحدث مع احدهم كي لا يفقد الوعي من اثر الدخان الذي يفوح من خرائب الذاكرة.

وقبل اسبوع عدت إلى القاهرة، دخلتها ليلا متخفيا لا ارغب في ان يراني احد، كنت اعلم أنني على رأس قائمة المطلوبين للألم وتمنيت ان اتمكن من الاختباء قبل أن اعترف على شركائي في الدم.

 قضيت ليلة واحدة تناولت فيها العشاء مع امي، نظرت لي وفي عينيها كانت اعراض الشفقة والتأسي واضحة، تراني وقد تهدمت وصرت اقرب إلى اطلال قديمة لم تعد تغري الشعراء بزيارتها للبكاء.

في اليوم التالي حملتني الطائرة إلى عمان، كانت تلك زيارتي الأولى، وبينما كنت محلقا هناك استغرقتني غابات السحاب الابيض وامتلئت عيني بتلك الكهوف الساحرة من الغيوم الرمادية، لا شك ان الرب واسع الخيال بدرجة لا تصدق، وإلا كيف تخيل هذا المشهد قبل ان يخلقه !

 من المؤكد أنه كان يعلم أن بشرا سوف يصعدون إلى هنا ومن اجل ذلك اراد ان يتباهى بخياله ويشعرهم ان الفضل في كل الشعر الذي سوف يكتبونه كان من وحي غيوم افكاره.

لكنني لم اكتب شعرا في ذلك النهار، ولم ادون اي من الخواطر التي عبرت امامي، تركت الرؤى تفوح من رأسي دون أن اكلف نفسي عناء التقاطها.

في عمان شاءت آلهة الحرب أن التقي بفتاة اردنية رقيقة، بدا الزمن دائريا إلى درجة خارقة، كلما بعث المحارب من الرماد الذي يبعثره اعدائه وجد نفسه يقف عن حد السيف الذي طعنه عشية ان مات، لاحت سطور تتشكل في الأفق، اتفاقات صامتة، تواطئ وجداني، نظرات، ايماءات كلامية، غزل مبهم كأنه موجه من لا احد إلى لا احد.

قال ماركيز : ان القصص تبدأ كما تريد هي لا كما يريد أحدنا.

ولاشك انه لم يكن يقصد الروايات الادبية فقط..اليس كذلك ؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل من رواية (زي حكايات الأحبة) ـ تحت الطبع

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم