منى محب
على الرغم من أن جده لأمه باشا حقيقي، فإن خالو سيد” لا يميز” كثيرًا بين طبقات المجتمع. السائق والبقال ورجل الأمن والفراش يعتبرهم كلهم أصدقاء مقربين، بل وكأن صلة دم تربط بينه وبينهم. يدعوهم في شقته لشرب الشاي والدردشة في السياسة، وحال البلاد وفي تفاصيل بسيطة في الحياة… تزوج في عمر متقدم حتى لا يسبق أخته الصغيرة التي كانت تعيش معه بعد زواج أخيهما الثالث وسفره للعمل في بلد عربية. وكان شقيقا خالو سيد قد قطعا في التعليم شوطا متقدما عنه بكثير، وكان ذلك سببا بقاء أخته دون زواج فترة لا بأس بها من حياتها.
وجهه الطيب كان يتحول إلى وجه طفل إذا ابتسم، وشاربه الطويل المبروم في نهايته، يظلله منخار معقوف مدبب فيبدو كشخصية كاريكاتيرية محببة لدى الصغار. وقد كان بالفعل محبوبا جدا وسط الأطفال. ليسوا أطفاله مع الأسف، فهو لم ينجب من زوجته. لكنهم أولاد شقيقه وشقيقته، وهم كثيرون. اعتادوا، بعد عودة أخوه الأكبر للإقامة في مصر مع زوجته وأولاده، أن يتجمعوا في الأعياد والأجازات، في منزل خالو سيد بالقاهرة: منزل العائلة. ذاك المنزل الكبير القديم ذو السقف العالي حيث تتردد أصداء الأصوات كلما صرخ الأطفال وحيث يمكن أن يخرج الطفل إلى الشرفة من غرفة المعيشة ليدخل من جديد من الجهة الأخرى على الصالون وكأنه سرداب خاص به. سرب من الأطفال العطاشى للشقاوة – بسبب أشهر من الكبت والدراسة في مدن مجاورة للقاهرة بلا ونيس أو زميل للعفرتة- يتقدمهم الطفل الأكثر جرأة، يدخلون مهرولين متسخين هاتفين إلى الصالون، حيث يجلس الكبار يحتسون القهوة. يستقبل الأطفال بعدها كل صراخ وتأنيب بصدر رحب. فهم لا يريدون تعكير صفو الأيام المعدودة للقاءهم الشبه سنوي.
ومن فقراتهم المفضلة أيضا: البحث في الثلاجة عن المياه الباردة والفاكهة والعصير، أو البحث عن مفتاح القفل الذي يغلق الثلاجة ومن يجد المفتاح، لديه الحق في الاختيار بين الأطعمة والمشروبات أولا. (نعم قام خالو سيد بعمل قفل لغلق الثلاجة بعد بضعة سنوات من المعاناة من التدمير الشامل). أو فقرة: الهرولة والتنطيط على الأسرة في كل الغرف، أو: الهرولة والتنطيط والشجار على الكرسي الهزاز الموجود بالشرفة الذي في الطبيعي لا يتسع… بل من الطبيعي ألا يتسع إلا لشخص واحد، ولكن دائما ما ينتهي به الحال بحمل سبعة أطفال متناثرين بين مقعده ومسانده وظهره. وإما فقرة: الهرولة والهجوم ثم التنطيط على حجر خالو سيد خالهم، صاحب البيت، والقريب الشبه لروحهم الطفولية خاصة عند الابتسام.
هذا اللقاء الشبه سنوي هو كل ما تبقى الآن من ذكريات جميلة لدى هذا الجيل. فبعد سنوات من الدراسة والتخرّج والزواج والإنجاب وفقدان واحد أو اثنين منهم في حوادث مؤلمة وسفر بعضهم للعيش في بلاد أوروبية وأخيرا بيع بيت العائلة، تبقت فقط حكاياتهم. ويبقى هذا الكرسي الهزاز الذي أصبح متهالكًا الآن، وحيدا، ينظر إليه الأطفال الكبار اليوم، بنظرة حسرة ممتزجة بالدهشة لحجم الكرسي. فهو الآن بالكاد يتسع لجسد واحد منهم، بينما في الماضي كان يحمل سبعة أولاد مشبعين بفرحتهم. كلما كان الإنسان أسعد كان أكثر رشاقة.
***
“الله يمسيكي بالخير يا عنايات” هكذا تحسّر خالو سيد قبل أن يقرأ الفاتحة على روح زوجته، ويترك من يده فنجان الشاي الذي كانت تحبه، مثبتا نظره على صورتها فوق التلفزيون. في حياتها كانت صداقاته، لسبب ما، تستفزها. ربما لأن مستوى زملائه الاجتماعي كان يلغي أصوله وكونه من أولاد الذوات، أو لأن وجود زائرين دخلاء في منزلها لا يشعرها بالراحة. كانت تبدو عليها مظاهر الامتعاض وعدم الترحيب إذا ظهر واحد من “حثالة المنطقة” أو “ذباب مكان عمله” أو “رفاق القهاوي الشحّاذين”. وخاصة بعد أن توطدت علاقته بزميل في عمله، فبدأت أقدام أصدقائه القدامى والجدد تخف من المنزل شيئا فشيئا لتترسخ قدما الأستاذ كمال: صديق العمل. عامل من قسم الصيانة ويصغر خالو سيد بثلاثين عاما ، ويقول عن نفسه خريج كلية الهندسة جامعة حلوان قسم “تركيبات”. أكثر ما كرهت في حياتها أن ترى وجه هذا الإنسان في منزلها أو تسمع أقدامه أو تشم رائحة فاكهته التي كان يغرق المنزل بثمرها. لا يمكنها التنفس في وجوده. يلازمهما طوال الوقت وخالو سيد يرحب به. بل ويدعوه لكي يقضي المصيف معهما. تعترض. تتشاجر. ” حرام يا عنايات. ما أنت عارفة كمال مقطوع من شجرة هو قاعد على قلبك؟”. نعم كان متربعا على صدرها. كم كانت تمقته. “طلع لنا في البخت سي كمال ده كمان!”. عندما فقدت الأمل في التمتع بحقوق خصوصيتها من زوجها، لجأت لأخوته. اشتكت لهم مرّ حالها واستعطفتهم كي يتكلموا معه ربما يعقلونه: ” الموضوع زاد عن حده الأستاذ زفت ده بقى كورس صبح ظهر ليل حاجة تفلق “. لم يتدخلوا إلا ببعض الكلمات العابرة المتوارية لعدم رغبتهم في التطفل. بعد أشهر من الشكوى المستمرة، توقفت فجأة زوجة خالو سيد عن النواح وطلب النجدة. دام هذا الهدوء فترة طويلة تقترب من السنة، انتهت بنهاية زوجة خالو سيد عندما سكتت عن الكلام المباح، وغير المباح، وتوفت إلى رحمة الله.
بعد أن اضطرت العائلة لبيع البيت وبعد أن أصبح أرملا، انتقل خالو سيد ليعيش في شقة عادية أصغر. أكثر ما كان يؤرقه هو تغيير مسجده. فهو أحب مكان إلى قلبه. يذهب كل بزوغ فجر ليصلي حاضرًا. وكل جمعة يستمع إلى خطبة الشيخ ويقضي أسعد أوقاته في الحديث مع هذا الشيخ والتعمق في الإيمان وأمور الدين. خالو سيد كان رمزا دينيا في العائلة، حتى وإن واظب بعض رجال العائلة على الصلاة أو التراويح، كان هو الأكثر التزاما. لا تفوته ركعة أو صيام حتى في بداية أيام مرضه. كانت لديه إجابة على كل تساؤل ومعرفة بكل بواطن الأمور الدينية. لم يكن قارئا نهما لكن كان مستمعا جيدا للشيوخ والخطب.
حاول أن يعتاد المسجد الجديد حنى نجح أخيرا.. تعرف على الشيوخ وبعض المصلين الورعين مثله، وكان حينما يعود إلى منزله يجد الأستاذ كمال في انتظاره عند باب البيت. يعد الأستاذ كمال الشاي ويجلسان يتسامران في الشرفة. ثم يقوم ويعد لخالو سيد الإفطار ويساعده في تنظيف البيت.
***
دخل أولاد أخوته المنزل بعد أن فتح لهم الممرض المقيم مع خالو سيد. أخذت بنت شقيقته الصغيرة، الباشمهندسة “نوال” ، الأصغر قامة والأشد حزما، في توزيع أدوية خالو سيد في العلب المخصصة لكل يوم في الأسبوع. مرت أربعة سنوات على وفاة زوجته، ولم يهتم أحد بالتواجد معه يوميا لمتابعة حياته، حتى اشتد عليه المرض منذ شهر تقريبا. لم يعد يقوى على الحركة. ليس عاجزا بالمعنى الحرفي لكنه عاجز عن الحياة: عن الحركة بحرية، عن التعبير عن نفسه بطلاقة، عن أخذ قرارات سريعة… وغيرها من الصلاحيات. صاروا يذهبون يوميا ليطمئنوا على حاله، يطبخون له الطعام، ويتفقون مع الممرض على أسلوب حياته الجديد من أكل وشرب ونوم ومواعيد للأدوية ومواعيد الطبيب، وغيرها من الأمور الصحية.
دخل الأستاذ كمال وجلس في الشرفة وحده بعد أن ألقى تحية السلام في ابتسامة مؤدبة تعبر عن الاحترام والإحراج الشديدين. ولما استيقظ خالو سيد وخرج مستندا على الممرض من حجرته، هَمَّ الأستاذ كمال بالقيام، وذهب ليساعده في المشي بل ليحمله من فوق الأرض. انتهره الممرض: “لازم تسيبه يحاول يمشي، اتفضل حضرتك ارتاح وأنا ماسكه كويس “.
كانت هذه أولى الصدامات مع الممرض وبالتأكيد ليست الأخيرة. فكان يتدخل في حمله، وإطعامه في فمه، وحمامه وحتى الإمساك بسماعة التليفون له. يهرع إذا رآه يحاول القيام بأي عمل وحده وهو يهتف بلهفة غير مبررة “بابا!”. مما جعل أفعاله تستفز الجميع، من الممرض إلى أولاد شقيقيه، وحتى شقيقيه العجوزين نفسهما. فتطوعات الأستاذ كمال – بالرغم من مظهرها المحب الحنون – كانت مضرة لصحة خالو سيد تشجع أعضاءه على الكسل وجسمه على عدم الحركة، بل وتعضد شعور خالو سيد بضرورة اعتماده كليا على الآخرين.
إلا الباشمهندسة نوال. فقد كانت ترى المشكلة بحجم آخر، فالصداقة نعمة ومن الجيد والصحي أن يحيط بخالو سيد الأشخاص الأحب إلى قلبه وقت مرضه. فهذا يرفع من معنوياته، والنفسية المرتفعة تعجِّل من الشفاء بالتأكيد. بالفعل كانت ترى المشكلة بحجم آخر، حجم أكثر تضخما بكثير. فكانت تنظر إلى الأستاذ كمال مطولا محاولة لفهم سبب توجسها منه. كثيرا ما تساءلت عن أغراضه. عن حياته. أليس لديه عائلة أو أصدقاء من سنه؟ أليس لديه حياة يعيشها وهو لازال شابا في الأربعين؟ وما هذا القسم الغريب الذي يدَّعي التخرج فيه؟ لم تسمع من قبل عن قسم التركيبات في كلية هندسة! وما الهدف وراء أعماله التي تبدو طيبة، وكأن الهدف هو إقناع خالو بشكل عملي أن لا غنى عن وجوده في حياته. هل هو طامع في جزء من الميراث؟ هل هناك شيئا قيّما في المنزل يريد الحصول عليه؟ هل…؟ تستغفر الله وترجع لتحليلاتها المنطقية.
بالفعل كانت نوال ترى خالها في حالة من الاعتمادية بشكل أعمى. اعتمادية ليست على الآخرين في العموم بل على الأستاذ كمال وحده. اعتمادية تحوَّلت إلى تعلق شديد بل غسيل للمخ يصل إلى حد التنويم المغناطيسي! “ما يحرمنيش منك يا كمال” ” مش عارف من غيرك كنت هاعمل إيه” “أنت بس اللي بتفرحني يا كمال” كانت تشعر بالمرارة عند سماعها لتلك الكلمات وكأن كل هذا الحب الذي تحمله لخالها، وكل هذه التضحيات غير مرئية على الإطلاق. كانت تعقِّل نفسها أنها بالتأكيد لن تصاب بالغيرة من هذا الشخص اللزج. لكن مع ذلك كان هناك شيء يثير غضبها ويرفع من ضغطها كلما رأت خالها يقدر هذا المخلوق الغريب ويفضله عنهم. شيء غير مفهوم. بعد كل صلاة كانت تدعو من قلبها أن يرفع الله عنهم هذه البلية.
***
يأتي الممرض في يده حقيبة ملابسه ويخرج لمقابلة المهندسة نوال. يعتذر لها ويستأذنها الرحيل. “ليه يا محمد؟ حد زعلك في حاجة؟؟” ” أنت مش عارف احنا محتاجينلك إزاي؟؟” ” ويرضيك تسيب خالو سيد من غير ما حد يرعاه؟” ” إيه اللي جرى بس؟؟” ” لو شايف شغلانة أحسن إحنا ممكن نزودك…”. لم يرد محمد ولم تفهم نوال شيئا. حتى تدخل أخاها اللواء حسين عبد الله في تلك اللحظة. وأخذ محمد ليتكلم معه على إنفراد بالداخل. جلس محمد صامتا لا يرد. وكلما كان اللواء حسين يشد عليه في الحديث، يكرر محمد كلمة واحدة ” أنا آسف أنا لازم أمشي “. وعندما وجد سيادة اللواء أن لا أمل في أن يجعل محمد يتكلم، هدده بعدم دفع أجر الشهر الحالي.
صمت محمد مطولا ثم رفع عينه نحو آية الـكرسي المعلقة، وقال” مقدرش أقعد بعد اللي شفته في البيت ده… البيت ده نجس!!” هكذا نطقها. وهكذا نقلها الأخ لزوجته، والزوجة لسلفتها: الباشمهندسة نوال.
كانت صدمة أكبر من قدرة نوال على تحملها. “خالو سيد! خالو!” كانت في المنزل النجس عندما سمعت بالخبر اليقين. وكان خالها نائما. ذكرياتها وصورته البريئة أمامها وقيمة العائلة وتربيتها… واحدة تلو الأخرى… سقطت. أخذ صوتها يعلو في أركان البيت كله. ” خالو سيد! ده التقوى كلها والأخلاق والأبوة…”. كانت تدور في المكان “ده مربيني!”. تفصل التليفون الأرضي وتخبئه وتصادر المحمول في جيبها. “إزاي يجيب لنا العار؟؟ إزاي يتخلي عن آخرته؟؟ مش من حقه يعمل فينا كدة! “.”علشان كدة طنط عنايات كانت بتشتكي لما صوتها اتنبح؟ عشان كدة قطعت الشكوى والكلام مرة واحدة؟” تصرخ منادية على البواب لتعطيه الأوامر الجديدة. “من امتى وهو… كدة؟ عارف إنها من الكبائر؟” تقوم بالإجراءات اللازمة لتغيير الكالون.
“أمال كنت فاكرة إيه؟” هكذا أجابها زوجها ببرود عندما علم بالأمر. لم يهتز له رمش بالرغم من حبه لخالو سيد مثلها تماما. حتى ردة فعل أخيها كان ضعيفا وكأنه كان يعرف.
ـ كنت عارف؟؟؟
ـ كنت متأكد.
ـ وساكت؟
ـ عايزة تقوليلي إنك مفكرتيش في الفكرة دي قبل كدة؟؟
لم ترد. وأخذت المياه تتجمع وتحتبس في عينيها لحظات قبل انهمارها.
يطلب خالها محموله للقيام باتصال أخير. توافق على شرط أن يتم الاتصال في وجودها وتحت رقابتها. يضرب الرقم وبصوت مهتز متحشرج يجيب : ” أيوة يا كمال.. خلاص..”يصمت برهة ثم يستكمل “.. خلاص.. عرفوا..” دون أن يسمع الرد يُبعد السماعة عن أذنه ويغلق الخط.