سعيد نصر
تتوزع رواية عمار علي حسن الأخيرة “خبيئة العارف” إلى ثلاثة أقسام، هى: خطى العارف وأوراق العارف وطريق المعروف، لتعرض بعض طقوس وأشواق وتصورات الطرق الصوفية بوجه عام، والطريقة العزمية بوجه خاص، وتزيح الغبار العالق عليها بفعل خرافات الدروشة، والثقافة السمعية، وتجعل منها عنصرا فاعلا فى المجتمع، وتحكى عن كنز ذهب مطمور تحت “بيت آل العزايم”، يكشف سره شخصان يعملان فى نظارة وقف البلد، كان أحدهما سمع من جده المقرب لمؤسس الطريقة أنه رآه يقينا رؤى العين، ويسمعهما أحد السعاة بالهيئة، فينقل ما سمعه إلى مديرها، فينقل بدوره ما سمعه إلى ناظر وقف البلد، فينقل بدوره الخبر إلى الجالس على الكرسى الكبير المولع بالرؤى والأحلام والبحث عن حلول سهلة وسريعة لحل أزمة دولته الاقتصادية، ويرشح له صديق أستاذا جامعيا متخصصا فى التاريخ يدعى خيري محفوظ” لجمع معلومات عن الشيخ أبو العزايم تساعد في تحديد مكان الكنز بالضبط بالتعاون مع ساحر مغربى.
ويتجول د. محفوظ فى رحلة بحث شاقة إلى الأماكن التى اشتغل بها الشيخ الكبير لجمع كل واردة وشاردة عنه، من أحفاد مريديه فى كل مكان، وتبدأ رحلته بزيارة الضريح فى القاهرة، وتشمل قرية محلة أبو على بكفر الشيخ، ومدينة “البُرلُس”، وحى طه السبع بالمنيا، و جزيرة سواكن بالسودان، ودراو بأسوان، وأرض الحجاز، وتنتهى رحلته بالضريح مرة أخرى وفيه يسمع صوت الشيخ الكبير يقول له: “الكنز الذى تبحث عنه مررت به ولم تدركه”.
ويكتب الدكتور الطامح فى منصب رئيس الجامعة أو وزير التعليم ، تقريرا شاملا عن الشيخ محمد ماضى أبو العزايم، ويرسله إلى ناظر الوقف، فيرسله بدوره إلى جهاز أمن السلطة، ويقوم رئيس الجهاز ومعاونون بكتابة تقرير للجالس على الكرسى الكبير، يتهمون فيه خيرى محفوظ، زورا وبهتانا، بالعديد من الاتهامات الخطيرة، منها التطاول على ذات رأس الدولة، والتآمر عليه، وذلك نكاية فيه بسبب مقالات كان قد كتبها عن “العسس” من قبل، وانتقد فيها الجهاز بلغة ناعمة، ويدبر رئيس الجهاز لمحفوظ مكيدة كبرى يساعده فيها ناظر الوثائق والمحفوظات، مقابل مزيد من الرضا أو نيل منصب أكبر، ويتهمونه بسرقة وثائق بعينها، ويشوهون صورته أمام الرأى العام، فيلجأ لناظر الوقف مستنجدا به، فينصحه بالهرب والتخفى بإيعاز من رئيس الجهاز، فيذهب إلى شيخ الطريقة العزمية، كمريد حقيقى يطلب الحماية، فيسهل له الجهاز عن طريق عملاء له، وبدون علم الشيخ، الهرب إلى رجل صوفى يدعى مرتضى فى المنيا، وبعد نحو 4 أشهر من قرائته بنهم وشغف لكتب ومآثر الشيخ الكبير، يذهب إليه ضابط من أمن السلطة يدعى هانى عبد الوارث ويضغط عليه لكتابة عدة مقالات تجعل حدود الدولة على هوى الجالس على الكرسى الكبير لتمكنه من التنازل عن قطعة منها لدولة أخرى، ولكن الأستاذ الجامعى يرفض تنفيذ ما طلب منه، ويقرر الهرب، وذلك بعد بعد أن فك لغز الكنز المطمور.
ويستخدم الكاتب الواقعية السحرية فى الحكى والسرد بشكل يبدو منطقيا لكونه يتماشى مع المنطلقات والمرتكزات الصوفية، ويتفق مع مخيلة الصوفى وواقع التصوف، وتظهر هذه الواقعية السحرية فى سرديات كثيرة منها، على سبيل المثال لا الحصر، أحلام ورؤى خيرى محفوظ، ورؤية ماهر السعدى للحفرة المتلئلئة بالذهب وظهور شبح له يضع يده على صدره، وظهور شخص مجهول له فجأة أكثر من مرة واختفائه عنه فجأة فى كل مرة، وهو ما يشى بوجود اتصال روحانى بين الصوفى وبين الله، حيث يقول الكاتب:
“لكن صورة الرجل الغريب لم تغب عن ذهنه. لم يكن حلم يقظة، ولا هلاوس بصرية. كان يراه ويحدثه، وهو يتطلع إلى هيئته الغريبة، وملامحه التى يسكنها زمن بعيد، وملابسه التى لا تنتمى لهذا الزمان.”
وتتنوع عناصر الواقعية السحرية فى الرواية ما بين رؤى وأحلام وأشباح وهواتف عجائبية لناس وأشياء وأماكن، وأجمل ما فيها أنها تجعل من الزمن الماضى مرآة تعكس كل سلبيات الزمن الحاضر، وكأنك تعيش الواقع الراهن، وتخطف ذهن المتلقى لمعايشة قلق وحيرة الشخصيات أثناء رحلتها لمعرفة حقيقة الكنز المطمور، وذلك حتى استقرارها فى النهاية على أنه كنز العلم والمعرفة، وكنز الروحانيات، وتلعب كل شخصية الدور المحدد لها فى إيصال الرسالة، وذلك لكونها مختارة بحس أدبى رفيع، سواء ما يتعلق بأسمائها أو لغة كل واحدة منها، وتتمثل الرسالة فى أمرين مهمين: أن الكنز الحقيقى هو كتب الشيخ أبو العزايم ومآثره، وأن الصوفيين ليس كلهم مجرد مجاذيب ودراويش وسذج، وإنما هناك صوفية إيجابية يهتم رجالها بالشأن العام ولرجالها دور وطنى ويشاركون بفعالية فيه، ويؤمنون بالوطنية ويرون أن مصر أمتهم الواحدة ووطنهم الواحد، وهو ما يتمثل فى الطريقة العزمية، فهى شاركت فى الثورة العرابية وثورة 1919، وفى حرب فلسطين 1948، وشارك بعض رجالها فى ثورة 25 يناير 2011 ، وقاوم مؤسسها الاحتلال الإنجليزى ، وتعرض للنفى بسبب ذلك، وكان له رؤية لتجديد الخطاب الدينى فى عصره. وكانت حركة ماضى أبوالعزايم أقوى من حيث العدد والتأثير عن حركة حسن البنا ، ولكن أحزاب الأقلية والإنجليز لم يدعما الطريقة العزمية، لأنها كانت مستقلة ومناهضة للاحتلال، ويصعب عليه استغلالها وتوظيفها مثلما حدث مع جماعة الإخوان أحيانا.
وتتضمن الرواية خمسة ثنائيات توضح السمات والصفات المشتركة بين كل شخصيتين فى قائمة تضم ثمانى شخصيات مؤثرة بها، لا تضم بطلها الأساسى الشيخ الكبير “محمد ماضى أبو العزايم”، وبما يعنى أن كل شخصيتين مشتركتين فى صفات بعينها تتداخل مع الكنز المطمور، فثنائية الشغف بالكنز والميل للتصوف تظهر بوضوح فى شخصيتى ماهر السعدى وخيرى محفوظ، فالأول يبدى اهتماما كبيرا بحديث عليوة عن كنز الذهب، ويجرى هرولا وراء المال والكسب السريع، والثانى يبحث بدأب كبير عن تحديد مكان الكنز لإرضاء الجالس على الكرسى الكبير، وكلاهما تنتابه حالة من التششت الذهنى أو الإنجذاب الروحانى، وكلاهما يرى رجلا أشبه بالشبح يمد يده إلى صدره ويضعها فوقه، ويقول له “احفر هنا”.
وكأن الكاتب بهذا يريد هنا أن يقول لنا أن الكنز روحانى وليس مادى، وأن التغيير يجب أن يكون من داخلنا، وليس من خارجنا، ويستدل على ذلك بقول الدكتور خيرى محفوظ للضابط هانى عبدالوارث:
“هى ملامحى التى تعرفها .. لكن ما بداخلى تغير، وإلى حد عميق لا تدركه، ولا تتصوره. كنت أعمى أجرى وراء المال والكراسى، والآن صار هذا لا يشغلنى.”، وذلك عندما نظر إليه الضابط بدهشة قائلا له:”كأنى أسمع رجلًا لا أعرفه.”
وتظهر ثنائية الهوس بالسحر والرغبة فى الكسب السريع، بوضوح شديد فى شخصيتى ماهر السعدى والجالس على الكرسى الكبير، فالأول كثير السؤال عن السحر والسحرة ومدى علاقة السحر بالكنز المطمور، والثانى يستعين بساحر مغربى لاستخراج الكنز لحل المشاكل الاقتصادية للدولة، وكلاهما لديه رغبة جامحة فى الوصول إليه، حيث يقول ماهر السعدى: “أنا قرأت التقرير، فرغبتى فى الوصول إلى الكنز تفوق رغبة الجالس على الكرسى الكبير”. ويوجد فى أقوال خيرى محفوظ ما يؤكد وجود تلك الثنائية، فعندما أكد له ماهر أن الكنز حقيقة وليس خرافة ضحك بمرارة شديدة، وقال له: “يبدو أن الجنون قد نزل من القصر الكبير، وسرى فى كل البلاد.”
وتتجلى ثنايئة حب المال ورؤية كرامات الولى فى شخصيتى خلف المنياوى ومحمد باشا علمى، فلكل منهما موقفا خاصا به مع الشيخ أبو العزايم، يكتنف فى طياته دروسا صوفية مهمة، ولكنهما متشابهين فى مدلولهما إلى حد كبير، فالأول رأى بعينيه سبائك الذهب تتلألأ فى الحفرة، وسال لعابه إليها، ثم رآها طينا بعد أن وضع الشيخ الكبير أبو العزايم يده عليها، وسمع الشيخ الكبير يقول بصوت جهير: “شبه الشيطان لكم الطين ذهبًا، فاحذروا الغواية، ولا تخوضوا فى هذا مرة ثانية”.، والثانى رأى كرامة االولى الصالح عندما أنزل سرجه المطرز بالذهب ورآه ترابا بعد أن رماه على الأض ، عقب قول أبوالعزايم له : “الذى تمتطيه أنت من ركائب الذهب هو التراب الذى أسير عليه أنا”.
أما ثنائية ارتكاب الفساد وإرضاء الجالس على الكرسى الكبير، فتظهر بوضوح فى شخصيتى ناظر وقف البلد ورئيس جهاز أمن السلطة، فالأول يسرق وينهب أموال نظارته، وكل حوارات موظفيها أمثال ماهر وعليوة تؤكد ذلك، والثانى يفبرك الاتهامات للخصوم السياسيين والمعارضين الوطنيين، بدليل فبركته لجريمة شنعاء لخيرى محفوظ وتزوير تقرير ضده، وكلاهما يعملان على إرضاء الجالس على الكرسى الكبير بأى وسيلة، فالأول ساق له بشارة الكنز المطمور، والثانى ضغط على محفوظ للإدلاء بشهادة مزورة تسهل للجالس على الكرسى الكبير التنازل عن قطعة أرض من الدولة لدولة أخرى.
وتتبدى ثنائية التعرض للظلم والدفاع عن الحق فى شخصيتى شيخ الطريقة العزمية والدكتور خيرى محفوظ، وذلك بحكم الصفات المشتركة بينهما، فكلاهما لديه اهتمام خاص بالكنز وحقيقته، وكلاهما يتسم بشخصية مرنة، فالأول منفتح على العلم، والثانى منفتح على الصوفية، والأول مهتم بالشأن العام وله رأى مستقل،ولم يمنع رجال الطريقة من المشاركة فى ثورة 25 يناير،حيث قال بشأنها لخيرى محفوظ: “لم نكن سوى قطرة فى بحر المصريين المنتفضين ضد الظلم والفساد فى ثورة يناير”، والثانى له مقالات عديدة ومؤثرة ينتقد فيها “العسس”. والأول دفع ثمن مواقفه، بحرمانه من منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية، بتدخلات مباشرة من الجهاز الأمنى، والثانى دفع ثمن مواقفه بفبركة جريمة سرقة له من جانب الجهاز نفسه، حيث يقول شيخ الطريقة لخيرى محفوظ: “هذا الجهاز يعادينى فوق ما تتصور .. وقف ضدى فحرمنى، وأنا الأحق، من أن أصبح شيخ مشايخ الطرق الصوفية، اتصل ضابط كبير فيه بشيوخ الطرق الذين من حقهم قانونًا انتخابى، وضعط عليهم بكل الأساليب، فأجبرهم على التخلى عنى. ولم يكتف بهذا بل راح يروج شائعات تزعم أن الطريقة “العزمية” باب لنشر التشيع فى البلاد.”
وتكمن الرسالة الأشمل للرواية فى أن الصوفية الحقيقية هى التى تهتم بمشاكل الناس وتدافع عن حقوقهم وتدعو رجالها إلى المشاركة العامة، وليس حلقات الذكر فقط، حيث كتب خيرى محفوظ جملة فى نهاية مقاله، الذى تركه لمرتضى، وذلك قبل هروبه الأخيرلفضاء الحرية، حيث قال و كأنه يصرخ: “استعيدوا ما قاله أبو العزائم فى رفض المذهبية، وإصلاح أحوال الناس، ومقاومة الظلم والاستعباد والفساد، والتصدى للغزاة أيًا كان نوعهم ولونهم، ونصرة المستضعفين أينما وجدوا”.
ويكشف الكاتب السر الحقيقى لاتساع حركة جماعة حسن البنا، رغم من أن أتباع الشيخ محمد ماضى أبوالعزايم كانوا فى وقتها هم الأكثر عددا، حيث يقول خيرى محفوظ: “لقد كان أبو العزائم عصيًا على الإستخدام من قبل الإنجليز وأحزاب الأقلية الموالية لهم، لذا ضيقوا عليه الخناق، ووضعوا فى طريقه الأشواك، وتركوا مشروعه يدمى ويذبل ويخبو، بينما صنعوا هم العملاء الذين شقوا لهم مسارات محددة ليمضوا فيها، وكان عليهم أن يمروا طيلة الوقت من باب الخدم”.
ويتحدث الكاتب عن مطمع جماعة الإخوان فى السلطة، ليس لإصلاح البلد، إنما للتمتع بأموالها مثلما كان يفعل من قامت ضدهم الثورة، فالمهم لدي أفراد الجماعة هو تحقيق مصلحتها، التي هي فوق المصلحة العامة، أو هي المصلحة العامة نفسها في نظرهم. فهذا الإخواني حسن الطويل، يسأل زائرا له بصوت جهير: “لماذا لا أكون وزيرًا معكم يا باشا؟!” ، فيندهش الزائر منه ويسأله تهكمًا: “أى وزارة تريد يا شيخ حسن؟ “، فيجيبه على الفور،” وزارة المالية لأستبيح من أموالها ما تستبيحون.”
ويزيح الكاتب الستار عن الفارق الشاسع بين رؤية محمد ماضى أبوالعزايم لمصر وبين رؤية حسن البنا لها، فهى عند الأول أرض ووطن من منطلق أن شعب مصر أمة واحدة، وذلك على عكس البنا ورفاقة الذين لا يرون أي مانع فى ذوبان مصر فى هوية أخرى، وقد تضمنت الرواية ما يؤكد رؤية شيخ الطريقة العزمية للوطن، وذلك خلال حوار ساخن بين خيرى محفوظ والضابط هانى عبد الوارث حاول فيه الأخير تشويه صورة الطريقة العزمية وربطها بالشيعة، حيث قال محفوظ: “لا، الشيخ الكبير لم يكن يفرق بين أرض وأرض، فتراب الوطن عزيز أيا كان مكانه”، وقال له أيضا ، خلال شرحه لرسالة أرسلها أبو العزايم لسعد زغلول:” معنى هذا أن الشيخ “أبو العزائم” كان ينظر إلى مصر على أنها أمة قائمة بذاتها، حتى وإن آمن برابطة روحية ورمزية بين كل المسلمين، فلا تلوى عنق الحقائق لتبرير ما تنوى السلطة الإقدام عليه، وتتخد من الشيخ، الذى أراه الآن غير ما رأيته فى أول رحلتى، طُعمًا لاصطيادى.”
وفي المضمون السياسى يشعرك الكاتب بأنه يتحدث عن المشهد المصرى الحالى، على الرغم من أن زمن الرواية فى الماضى، بواقع 80 سنة، ويظهر ذلك من خلال أحداث ووقائع وحوارات عديدة، منها مشهد يقول فيه الكاتب واصفا حال خليفة “أبوالعزايم” وموقفه من قضية وطنية ، ضرب شيخ الطريقة بيده على المنضدة وصرخ: “أتقصد وثائق تخص ما يدور حاليًا عن رغبة الجالس على الكرسى الكبير فى التنازل عن جزء من أرض البلاد؟”، ومنها أيضا حوار ضابط أمن السلطة هانى عبد الوارث مع الدكتور خيرى محفوظ، بشأن تبرئته من تهمة سرقة الوثائق، مقابل تقديمه خدمة جليلة للجالس على الكرسى الكبير، “حيث يقول له الضابط،” سنقول إنك أخذت الوثائق بعلم موظف دار المحفوظات كى تبحث فى أمر الحدود، وأنه قد استقر فى يقينك، بعد دراسة مستفيضة، أن ما أقدم عليه الجالس على الكرسى الكبير من تنازل عن هذا الجزء كان صائبًا.”
ويتضمن المضمون السياسى انتقادات شديدة لإعلام السلطة، وذلك بالإيحاء والتورية، حيث يتحدث شيخ الطريقة لخيرى محفوظ عن إعلام تشويه المعارضين بالتخوين، وذلك بقوله له: “هذه المرة يلمحون بتخاريف عن العمالة والخيانة، وكل هذه الكلمات البائسة التى شاعت فى أيامنا تلك بلا دليل، لإجبار كل صاحب لسان مختلف على الصمت”، ويقول عليوة لخيرى محفوظ، كاشفا طبيعة الحكم وعلاقته بالإعلام فى زمن الشيخ محمد ماضى أبو العزايم: “لقد نجحوا فى تشويه كل شىء، وكل من يقول للقصر الكبير: لا. أما من يطبلون ويزمرون للجالس على الكرسى الكبير فقد مَلَّ الناس منهم، ويتمنون اختفاءهم اليوم قبل الغد.”، ويقول مرتضى لخيرى محفوظ عن قيمة الصدق فى الفلسفة الإعلامية: “أراها فى وجوه الناس بالشوارع، وليس فى الصحف التى لم يعد فيها إلا الأكاذيب”.
ويكشف الكاتب كيف أن الإعلام صار بوقا واحدا لصوت واحد هو صوت السلطة، من خلال تضيق الخناق على الإعلام غير الرسمى، حيث يقول شيخ الطريقة بشأن مصدر تسريب تقرير خيرى محفوظ: “لا أعتقد أن الأمر كذلك، فكل الصفحات صارت تحت المراقبة، وأغلب الشباب سرى فى نفوسهم الخوف وليس بوسع أحدهم أن يجرؤ على هذه الفعلة، وكثير من المدونين و”أدمن” صفحات “فيس بوك” صاروا فى السجون.”
كما تنطوي الرواية على مضمون اقتصادى اجتماعى، يستخدم الكاتب فيه الماضى كما لو كان عدسة مكبرة تعكس للقارىء أخطاء وخطايا الحاضر، سواء كانت أحداث أو قرارات، كقرار تعويم الجنيه، وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق بسببه، حيث سأل ماهر السعدى زملاءه بعد أن طلبوا منه سماع أخر نكتة مضحكة: “ماذا ستدفعون؟”، وعندما أبدوا دهشتهم، قال لهم: “نعم، فحتى الضحك فى بلدنا صار له سعر بعد تعويم الجنيه”. وزاد ماهر على ذلك بأن زفر فى حرقة، وقال: “عوموا الجنيه فغرقنا نحن.”
ويتحدث عليوة لماهر السعدى، من منظور اجتماعى، عن الفساد الاقتصادى بنظارة وقف البلد، فى زمن الشيخ محمد ماضى أبو العزايم ، بقوله: “لا يوجد هنا مجنون غيرك. كبار الموظفين ينهبون أموال الأوقاف، حتى امتلأت جيوبهم وكروشهم، وأنا وأنت نسير فى الشوارع بحذاءين ممزقين”، ويقول ماهر أيضا فى هذا الشأن: “فى المكاتب لا يكف بعض الزملاء عن الحديث عن مديرى العموم ووكلاء نظارة وقف البلد المتعاقبين الذين يستولون على الكثير من أموال الوقف، فيثيرون غيظه الشديد”، ويقول موظف أخر: “نظارتنا تعوم على كنز فوق أرض البلد كلها، من شرقها إلى غربها، يغرف الناظر وأعوانه منه، كما غرف سابقوهم، لكنه لا يفنى”، وها هو ماهر يهمس فى أذن عيلوة، قائلا له: “منذ متى كانت الحكومة تهتم بالكنوز؟”، فيكتم عيلوة الضحك ويقول له: “أغلب تجار الآثار من رجال الدولة الكبار.”
ويغلب على الرواية المضمون الصوفى المصحوب بلمسة فلسفية، وتوجد أمثلة كثيرة له، منها قول الشيخ الكبير لأتباعه لحظة إنشغالهم برؤية ذهب الكنز: “أردنا ماء للاغتسال والوضوء، حتى نحلق طاهرين فى السماء البعيدة، ولم نسع لمالٍ يجعلنا نزحف على بطوننا فوق التراب”، وقوله بعد رميه قطعة لحم وتكالب القطط عليها: “عرض الدنيا يثير الشحناء بين المتكالبين عليها”، وقوله: “مكتوب علينا غنى لاتدركه”، عندما سأله أحد أتباعه، “هل الفقر مكتوب علينا يا سيدنا؟”، وقوله أيضا:”لافرق بين قطعة لحم وسبيكة ذهب”، وكذلك قول شيخ الطريقة “الغنى فى الاستغناء والغنى غنى النفس”، وقوله لماهر السعدى: “فقر الروح أشد وأنكى”، وقول مرتضى لخيرى محفوظ: “هناك حكمة لشيخنا الكبير تقول: ليس الرجل من جعل الحجر ذهبًا، إنما الرجل من جعل البعيد قريبًا من الله”، وقول رجل فى مشهد عجائبى لماهر السعدنى فى مكتبة دار الكتب الصوفية: “كنت معك ولست معك، أسمعك ولا تسمعنى، وأراك ولا ترانى”، وقول عبد المجيد العشرى لخيرى محفوظ: “لا نرى ما بين أيدينا، لأننا ننظر إلى البعيد”، وقول درويش طاعن فى السن لناظر وقف البلد عن الكنز: “هو لغز على من لا يشغله إلا ما تحت قدميه.”
ويتطرق الكاتب فى الرواية إلى مؤلفات الشيخ محمد ماضى أبو العزايم، والتى تعكس المعنى الحقيقى للكنز، ومنها كتب يرد فيها على داروين وكارل ماركس ومسرحية بعنوان محكمة الصلح الكبرى، ومجموعات قصصية نشر بعضها فى مجلة السعادة الأبدية، بالإضافة إلى إسهاماته فى مجلة المدينة المنورة ومجلة الفتح، وعلم الدكتور خيرى محفوظ أن الشيخ كان يعرف فى أسرار الحروف والأرقام، وأنه أملى قصائد تحمل نبوءات، من خلال إطلاعه الواسع على كتاب الجفر ويلقى الكاتب بصيصا من الضوءعلى نماذج من أناشيد الشيخ، مكتفيا فى كل واحد منها بالمقطع الأول، ومنها قوله:
“ثغر البرلس فيه البحر يتبعه .. بحيرة ماؤها ملح لقصاد
وأرضها الرمل،لا زرع ولا ضرع .. لكنها تجذب الأرواح للهادى”.
وقوله أيضا:
“خذوا بالإشارة فالإشارة للقلب .. وللروح في حال التجرد من ترب
وخل العبارة أو كنهها فإنها .. تستر أسرارًا وتخفي ضيا الغيب”.