خبر مزعج

عرفة بلقات
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عرفة بلقات

جاءني اليوم خبر أزعجني.. أزعجني كثيرا.. كنت قد آليت على نفسي ألا أنزعج أبدا.. ولهذا اكتفيت، لفترة طويلة، برتابة الحياة.. من البيت إلى العمل، ومن العمل إلى البيت، كآلة بلا خيار. في أقصى الحالات، عندما تمل زوجتي من وجودي بالبيت وأشعر أنها ستبدأ الهجوم أستجمع قواي وأخرج لأتمشى على الرصيف إنما بمحاذاة الجدار لأن طريق السيارات يصيبني بالرهاب. أطأطئ رأسي وأغض بصري عن كل شيء. لا يمكن أن يراني المارة دون أن يعتقدوا أنني مهموم وحزين.. مع أنني لست مهموما ولا حزينا.. يمرون بمحاذاة مني فأشعر أنهم يرمقونني بأبصارهم.. وربما دعا لي أحدهم بالصبر والسلوان.. وعندما يتعبني المشي أجلس على أقرب كرسي حديدي لا أرفع بصري عن الأرض.. لزوم الحشمة ومراعاة حق الطريق.. لكن اليوم مختلف. انتهت رتابة الممشى من البيت إلى العمل.. أحسست بنشاط غريب في جسدي وأنا أجوب ممر المصلحة التي أعمل بها ذهابا وجيئة.. أخيرا جاءني صوت من الخلف:
– عمي أحمد.. تفضل معي
– إلى أين..
– مجرد توقيع أوراق نهاية الخدمة
بدا لي المكتب غريبا كأن قدمي لم تطأه قط.. من الجهة الأخرى للمكتب ناولتني بعض الأوراق وهي تقول:
– من الآن ستأخذ راتب التقاعد من صندوق الضمان الاجتماعي
خرجت وأنا أجر ورائي خمسة وثلاثين سنة من العمل. بواب.. نعم.. بواب.. لكنني متعلم وأتقن العربية والفرنسية والإسبانية.. شعرت كأن فراغا يكتسح داخلي.. ثم شعرت كأن وزني خف كثيرا.. لكن رأسي كان مثقلا بألف سؤال.. ماذا أفعل الآن براتب لا يجاوز دورة الأسبوع؟ وهذا الجسد الآيل إلى السقوط من سيقبل به عبدا من جديد؟ ليس من السهل أن تكون عبدا.. بعض الناس يدفعون لقاء أن يكونوا عبيدا.. التبس علي الأمر.. اتكأت على عمود نور أضرب كفا بكف.. هل أفرح لأنني لم أعد عبدا أم أحزن لأنني سأدخل دهليز فاقة مستدامة؟ هل أعود إلى البيت؟ يا لطيف.. أشك أن زوجتي ستسمح لي بقضاء فراغ وقتي كله بالبيت.. تقول لي دائما: “الرجل في الدار كالدمل في الظهر”.. امرأة قوية.. أعول عليها كثيرا لكنها سليطة اللسان.. قادني ممشاي إلى “باب العقلة”، استصعبت صعود الدرج فدلفت جهة “العوينة”.. هناك ألقيت بجسدي على كرسي من حجر.. وكعادتي، أرخيت كتفي إلى الأمام قليلا وأتبعتهما برأسي، ثم تنفست الصعداء وأرخيت يدي على فخذي كأنني في حالة دعاء.. كنت قد قرأت أن ذلك شكل من أشكال رياضة اليوغا.. مرت امرأة فوضعت في يدي درهما.. ثم مضت.. شيء عجيب. تأملت الدرهم طويلا ومنعني الحياء أن أرد على المرأة درهمها.. لم يكن حياء فقط.. فسمنتي تمنعني من الهرولة خلفها. وجسدي لم يعد يقوى على سرعة النهوض.. “ماذا تفعل بالدرهم.. ترميه مثلا.. فساد غير مبرر”.. دسست الدرهم في جيبي وتابعت استمتاعي بجلستي، وأنا أراقب أوراق الشجر الصفراء محمولة بالغبار تحوم حول رجلي.. تعكر صفو مزاجي وأنا أقارن بين الأوراق الصفراء وأحوالي التي تغيرت.. شيء مهين إشعار الإنسان بأنه لم يعد صالحا للعمل..” لو كان راتب التقاعد مزجيا لفرحت.. حدد موقفك الآن .. قيمة العمل أو قيمة راتب التقاعد؟” أسندت ظهري إلى متكأ الكرسي الحجري.. ملت برأسي على حافته وأغمضت عيني اللتين غلبتهما دمعتان.. ليس من عادتي أن أبكي .. مجرد رذاذ غبار .. من بعيد رمقت امرأة في مقتبل العمر.. ممشوقة القد وهي تخرج من ضريح سيدي عبد القادر التابي.. توقفت ثم دست في يدي درهما، كما لو أنها تكمل هداياها رجاء تحقيق المطلوب “يا إلهي، هل أبدو متسولا؟” اعتدلت في جلستي.. بالكاد أدركت يد المرأة وأمسكت به لأعيد لها درهمها
– أطلق يدي أيها الوقح..
– سيدتي أنا لست متسولا.. هاك.. خذي درهمك ..
– قلت لك أطلق يدي.. متسول وقح. أهذا جزاء الصدقة والإحسان
وما هي إلا لحظات حتى ألقت بحقيبتها فوق رأسي حتى شعرت بدوار. ثم انهالت علي بركلات من رجليها وسباب لم أعرف له مثيلا.. لا أدري كيف قفزت إلى ذهني صورة زوجتي التي بدت لي كملاك فوق الأرض.. وتمنيت أن أكون في حضنها رغم لسانها السليط.. تجمع خلق كثير.. وأسمعتني ملء الحاضرين أشنع الأوصاف ..قليل الأدب.. متحرش.. سارق.. وأنا مشدوه مندهش لا أقوى على رد تهم أنا منها بريء.. لم يفلتني من يدها ولسانها سوى حضور الشرطة..
– سيدي أنا لست متسولا.. دست هذه المرأة درهما في يدي وأردت أن أرجعه لها..
– ما عملك؟
– أنا.. أنا لا أعمل
– يعني متسول
– لا سيدي أنا متقاعد..
– هل لديك ما يثبت ذلك
– لا. تقاعدت اليوم فقط..
– إذن أنت متسول منذ اليوم الأول للتقاعد.
– افهمني أرجوك سيدي….
– ……………
– ……………..

 

 

……………..

*شاعر وقاص من المغرب

مقالات من نفس القسم