أقدم في هذه المقالة قراءة حرة للمجموعة، وهي قراءة بعين قاريء لا ناقد… قراءة من كاتب يبحث عن تقنيات وأساليب السرد لكاتب آخر عله يشارك في عالم أكثر رحابة من الإبداع والخلق.
أول ما لفت انتباهي بقوة في هذه المجموعة لغة خالد. لا يمكن وصفها بالكلاسيكية، ولا يمكن وصفها بلغة حديثة.. إنها لغة مميزة ستعرف منها الكاتب باستمرار بعد ذلك.. الأمر يشبه سماع أول نغم موسيقية لأحد كبار الموسيقيين فتتعرف منها عليه فورًا. لغة خالد جمعت بين الكلاسيكية الرصينة وبين الحداثة والتي تظهر فجأة في بعض الكلمات والعبارات التي تقترب من العامية دون أن تشعر على الإطلاق. الملمح الثاني هو نعومة اللغة الشديدة دون تكلف، فأنت لا تقرأ لغة مفبركة أو متكلفة، بل لغة انسيابية وفي نفس الوقت لا تبتعد عن الحس الواقعي اليومي. أعتقد أن تطوير تلكاللغة ليس بالأمر السهل وهو ينم عن قراءة واسعة تشمل مجالات متنوعة ليست أدبية فقط..
قسم خالد مجموعته إلى أجزاء مختلفة على غرار الأديب الرائع محمد المخزنجي في بعض مجموعاته، وظهرت المجموعة في أربعة أجزاء: هي – طفولة –حيوان – غرائبيات.
في الجزء الأول: “هي” تعرض خالد لبعض قضايا المرأة وكانت القصة الأولى شديدة الصدمة يبدأ فيها الكاتب بلغة ناعمة وواقعية في آن واحد ليصدمك بحجر ثقيل في نهاية القصة بمشهد انتحاري مكتوب أيضًا بنعومة ورومانسية! إن جمع هذه التناقضات ليس سهلا وينبيء عن مشروع أدبي جديد يفصح عن رؤية متميزة للعالم… إنه عالم القبح دون مواراة من عين لا تستطيع التخلي عن الجمال.
في الجزء الثاني: طفولة يختار خالد أن يضع نفسه في مأزق. والمأزق من وجهة نظري هو الكتابة عن الأطفال. رغمًا عني تذكرت على الفور كتابات دستاييفسكي عن الأطفال، والكتابة عن الأطفال بشكل عام ليست منتشرة في الأدب العربي. فالنماذج التي تعرض القصة من وجهة نظر طفل ليست كثيرة، ويواجه الكاتب في تلك الحالت صعوبات جمة. الصعوبة الأولى تكمن في البحث عن لغة مناسبة. لا يمكن للكاتب بالطبع أن يغير لغته تمامًا، فاللغة للكاتب روح متحدة بجسد.. لا يمكن أن ينفصل عنها، وفي نفس الوقت لا يمكنه أن يكتب بنفس اللغة ، فالتعبير عن أراء الطفل بالتأكيد يجب أن يكون مختلفًا عن أراء البالغ ورؤيته للعالم.
في القصتين الأولتين في مجموعة الأطفال اختار خالد أن يزيد المهمة صعوبة وقرر الرواية بضمير المتكلم.. وأعتقد أنه قد حالفه التوفيق تمامًا في القصة الأولى: بوسي، ووقع في بعض المشكلات في القصة الثانية: وغابت تلك التي كانت. ففي القصة الأولى وجدت نفسي أمام طفل حقيقي يحكي الحكاية… لغة طبيعية وأفكار تناسب الطفل دون تسطيح، أما في القصة الأخرى فللوهلة الأولى اعتقدت أن الراوي ليس طفلا. إنها مهمة شاقة يبحث فيها خالد عن أسلوبه ومنهجية جديدة للسرد، وأعتقد أن الكتابة عن الأطفال ستصبح ملمحًا مهمًا في كتابات خالد في الفترة القادمة.
القصة الثالثة في تلك المجموعة وهي عنوان المجموعة: الطفل الذي طار على جناح فراشة.. قصة أخرى بديعة تحدث فيها الراوي الغائب عن حكاية الطفل، وحكايات خالد دائمًا بسيطة.. غير معقدة.. غير متكلفة، ونجح فيها بامتياز في الحكي عن الأطفال، ثم فاجأنا في النهاية بنزوع إلى الغرائبية بعض الشيء… أعتقد أن دخول الفانتازيا أو ما يشبه الواقعية السحرية بعض الشيء في القصة كان يحتاج إلى تمهيد، وكان من الممكن أن يقوم خالد بذلك طوال بنية القصة بحيث لا تصبح النهاية دخيلة على بناء القصة الأساسي.
المجموعة الثالث: حيوان، هي في اعتقادي من أجمل المجموعات، وفيها يروي خالد حكايات تتقطاع بين الحيوانات والأطفال مرة أخرى، ويعلو المستوي السردي والفكري حتى يصل إلى ذروته في قصة الأبلة. تجسد هذه القصة مأساة طفل ولد محدود القدرات العقلية، ويتوغل خالد بنعومة وسهولة منقطعة النظير في توصيف أحاسيسه وعلاقته بتلك القطة التي تقتحم حياته وتنتهي القصة بمأساة غير متوقعة.. كان من الممكن أن يتوقع القاريء أن تكون المأساة على يد الأب الشرير الذي يكره ابنه ويهمله كاملا، ولكن النهاية أتت قدرية بعض الشيء، فيموت الحيوان بين يدي الأبلة دون أن يقصد… يلقي خالد هنا الضوء على تراجيديا أخرى لا تجد لها مبررًا وسط المحسوسات… إن مرض الأبلة نفسه هو سبب تعاسته، وهو ما يجر عليه كل تلك الويلات. نحن هنا نخطو خطوة جديدة نحو أسئلة وجودية دون أن ينبس الكاتب بكلمة واحدة خارج الإيقاع الطفولي.
المجموعة الرابعة واجهت فيها مشكلة حقيقية وهي بعنوان غرائبيات. حاول خالد فيها تجريب أسلوب جديد في سرد أنواع جديدة من الحكايات الغريبة وتختلط فيها الفانتازيا بالواقع بالكابوس، ولكني شعرت بعجزي عن تذوق هذه المجموعة.. شعرت بنوع من التجريب لم يأخذ حقه في النمو بعد، أو ربما كانت المشكلة في قراءتي القاصرة على تذوق بعض الأجواء دون غيرها.
المجموعة في مجملها تبشر بقوة بميلاد كاتب قصة قصيرة شديد التميز، ووسط كل هذا العدد المهول من المنشورات والكتابات الجديدة سيمكن للقاريء على التعرف بسهولة على خالد عبد العزيز من قراءة قصة واحدة، وهذه البصمة في نظري هي المكسب الأهم للكاتب.. إنه كاتب يبحث عن مشروعه اللغوي المتميز، والفكري، ويحاول توغل مناطق شديدة الوعورة في الكتابة سواء كانت مناطق الطفولة أو الغرابية. خالد عبد العزيز يبدأ مشروعه طائرًا دون أن يحاول أن يسير أولا…