حُلْمُ العَوْدَةِ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي

أتذكر ..
أتذكر ونحن نعبر زقاقاً بالكاد يستطيع أن يمر منه شخصٌ واحد في المرة الواحدة، كنتَ تسير وأنا خلفك، تكلمني، تلتفت إلي من حين لآخر لتتأكد أني ما زلت خلفك وأصغي لحديثك..
كان حديثك، وأنت تتقدمني في السير، عن يوم حملتَ شهادَتكَ وحملتَ معها أحلامَكَ الكبيرة وغادرتَ بيت أهلك بحثاً عن أفق آخر للسعادة كما كنت تتصورها. كانت السعادة بالنسبة إليك.. دعنا من ذلك الآن فلكل تصوره الخاص عن السعادة..
أتذكر أنك لمَّا ضغطتَ على جرس باب الشقة رَنَّ الجرس وانتظرتَ.. انتظرتَ مهلة وأعدتَ الضغط على الجرس من جديد، طال انتظارك، نظرت إلى ساعتك اليدوية أحسستَ أن الزمن توقف.. كنتَ مصراً أن أصاحبك وأنت تعود إلى داركم بعد غياب طال أمده.. سألتك لماذا عليَّ أن أصاحبك.. انشغلتَ عن سؤالي وبدأت تقرع الباب برجلك، أطلَّتْ بعض الجارات من نوافذ شبه مفتوحة، وأخريات من سطوح منازلهن، نظرن إليك وتجاهلنك. نزت دموع من مقلتي عينيك، قرصتني رؤيتك وأنت تبكي أسبلت رأسك حتى تخفي دموعك عني.. مسحتها بباطن كفيك وأخفيت توترك خلف ابتسامة مصطنعة. التفتَّ صوبي، قرأتُ في وجهك آهة مكتومة كظيمة، وجه جامد الملامح ونظرة تحمل عتاباً، لم أدرك من كنت تعاتب، أكنتَ تعاتب أهلك أم تعاتبني أنا أم الزمن الذي جار عليك كما كنت تردد دائماً.. صَمَتُّ وسكنتُ للحظة. سألتك من جديد لم تسمع سؤالي أو ربما سمعته وتجاهلته وتجاهلني أنا أيضاً..
أتذكر..
أتذكر ونحن نغادر تحت نظرات الجارات أنك قلت لي إن شمس اليوم غير ضاجَّةٍ ولا قوية، تحسَّستَ جبينك الذي عادة ما يتفصَّدُ عرقاً في مثل هذا الوقت فألفيته جافاً، تأكَّدتَ أن شمس اليوم واهنة، تساءلتَ مع ذاتك ما علاقة الحال النفسية بالشمس الضاجة أو الواهنة لم تجد جواباً مقنعاً بل لم تجد جواباً أصلاً.. كنتَ تسير ولا تهتم بمن ينظر إليك أو يكلمك، شبابٌ يستندون إلى الجدار يتطلعون إليك وقد طفحت على وجوههم ملامح الشفقة بوضوح، فضلات هنا وهناك تنفض بخرها. أجَلْتَ حدقتي عينيك في المكان وهمستَ لنفسك:” أقام الفراغُ عُشّاً في القلب.. رَكَنَ هناك واستوطن..”.
وددتَ لو تحكي لأصدقائك عن سبب أو أسباب غيابك، أتذكر أنك قلت لي، يوماً، وكنتَ غاضباً وَجِماً أن أسباباً عديدة تدعوك لتغادر. لم تحدد يومها تلك الأسباب.. وددت لو تحكي لكل من تلقاه بالتفاصيل الدقيقة، استبدلت رغبتك بالتحديق في الوجوه المارة أمامك..
أتذكر..
أتذكر أننا مشينا تحت سماء مثقلة بالسحب، بعد المنعطف تَطَلَّعْتُ إلى وجهك أبحث بين قسماته عن الصورة التي اختزنتُها عنك في فترة صبانا.. بدا لي وجهُكَ وجهَ شخص آخر؛ شخصٌ لا علاقة لي به من قبلُ؛ لا أثر للفرح الذي كان يطفو عليه، ولا أثر للابتسامات التي كانت ترسم ظلالها على ثغرك.. قلت لي إنك تحسُّ بقدميك خفيفتين وأن الهواء يرفعك عن الأرض وتشعر وكأنك ستطير.. سمعكَ من كانوا يعبرون قربنا، انفلتت أصواتٌ وعلتْ ضحكات. حِدْتَ بنظرك بعيداً مُتَحَرِّجاَ خَجِلاَ وأسبلتَ رأسك.. الرجل ذو البذلة العسكرية المثقلة بالأنواط والأوسمة القاعد عند رصيف المقهى ينظر إليك ويبتسم، يرفع الكأس الذي بيده عالياً وكأنه يشرب نخبَ طيرانك.. نظراتُ الناس يُؤَجِّجُ الشَّجى؛ يحدقون فيك ويلعنون هذه الريح التي استطاعت أن ترفعك عالياً وتحملك إلى الأعالي وتركتهم مشدودين إلى أرض حبلت بالتناقضات..
ارتفعت عالياً.. ارتفعت عالياً..
ارتفعت.. رَحَلْتَ وتلاشيتَ..

مقالات من نفس القسم