كنت أسير دون أن تتحرك قدماي، فقط كانت نهاية الممر تقترب رويداً رويداً وتتحرك الأرض أمام عيني وأنا أتقدم وأسير، لا. لم أكن أسير، فقط كنت اُجْذَب من جسدي عبر الممر الغريب. كنت سعيداً، كنت أنظر بين الفينة والأخرى إلى قدمي الثابتتين واضحك ثم أنظر ناحية الضوء الخافت القادم من نهاية الممر، أشعر بالحبور، السعادة تهز قلبي، الموقف يذكرني بنفس الشعور عندما كنت أقف مواجهاً لشاطئ البحر بعد غياب دام عام وترتسم على الشفاه ابتسامة عذبة عندما تأتى موجة صغيرة تصل للشاطئ وتغطى بعذوبة قدمي فأسترجع أحداث الأعوام المنصرمة، كنت أسير في الممر. دون سبب.
أثناء سيري و اقترابي من نهاية الممر , فجأة اختفى الممر و اختفى الضوء الخافت , ثم نظرت حولي فوجدت نفسي وسط صالة فيها نوافذ طويلة من طراز قديم ,أخشابها بنّية وزجاجها من كريستال نقي , لم أرى ذلك النقاء يوماً , تستطيع أن ترى ما في الخارج عبد تلك النوافذ , لكن العجيب أنك لا ترى شيئا مما في الخارج , النقاء زائف أحيانا , ليس كما تراه , الجدران تشكّلُ محيطاً دائرياً , السقف به نقوش ذهبية على محيطه و تتدلى منه بعض الثريا التي يتغير عددها عندما تقلب نظرك بينهما , في أحد أركان الدائرة يوجد باب لم اللاحظة وانا انظر في محيط الغرفة , ربما كان موجوداً أو ربما هبط من السماء فجأة , يدخل من الباب ضوء صباح صيفي مع رائحة زكية , اقرب لرائحة البحر , اطَلْتُ النظر إلى الباب .. دون سبب
فجأة سمعت بعض الأصوات تتحدث من حولي، اتجهت بنظري المُنصبّ على الباب إلى محيط المكان، فرأيت الموقف أشبه بحفلة لتكريم أحدهم، الجميع واقفون، حلقات متفرقة، ثم رأيت “جون ناش” يقف بمفرده في ركن ما من المكان، توجهت إليه لألقي التحية، تحدثنا قليلاً ثم عرفت أن تلك الحفلة المفاجأة هي لتكريمه ولكنه لا يحب أن يختلط كثيراً بمن حوله، فوقف في الركن ليكتب على زجاج أحد النوافذ مسألة رياضية محيرة، ثم سألته: ــ ما زلت ترى ثلاثتهم؟
رد وهو يكتب على زجاج النافذة: الجميع يسأل دائماً. فأرد دائماً بأنّي لا أراهم. لكن هل تعلم؟ هم موجودون هناك في ذلك الركن.
ثم أشار بإصبعه إلى ركن معين، حيث رأيت ثلاثتهم، رأيت تشارلز لا يزال شاباً، ثم ألقيت التحية.
قلت له: نعم أنا أراهم. أحب تشارلز كثيراً، مازالت ابنته طفلة؟
توقف عن الكتابة فجأة ثم استدار ونظر إلى مباشرة وربت على كتفي وقال: أتعلم … أنت لا تراهم!
وفي أثناء حديثي مع جون، إذا بيد تجذبني من يدي وصوت يقول: لنتوجه إلى الشرفة إنها ساحرة هذا الصباح، لم انتبه للوجه، فقط كنت أود أن اودّع “جون ناش”، لكنه اختفى مع اختفاء الحفلة الصباحية. فجأة.
نظرت إلى الجسد الذي تنتمى له اليد التي جذبتني , نظرت للوجه فرأيتها و لم أندهش , شكلها لم يتغير , هي كما تركتها في نفس المرحلة التي لا أتذكرها الأن , لكنها جميلة في صباح اليوم , الشمس تغازل وجهها المرمري , لم أندهش عندما رأيتها لأني أراها دائماً لكن في أماكن أخرى , توجهنا إلى باب الشرفة المضيء , و دخلنا فوجدت أن الشرفة تطل على البحر , شعرت بهواء بارد اسفل قدمي فنظرت و رأيت أن ارض الشرفة ليست أرضاً بل شباك متداخلة تضيق و تتسع المسافة بين تداخلاتها , و عندما اتسعت التداخلات رأيت البحر اسفل قدمي , على عمق قدمين أو يزيد , أرى الأمواج من كل اتجاه , ثم نظرت لها و ابتسمتُ فابتسَمتْ , لم نتحدث , فقط كانت تنظر العيون , تمددنا على الشباك أعلى مياه البحر , فتحولت الشرفة إلى أرجوحة تسبح فوق البحر يميناً و يساراً ضحكنا , الهواء البارد اسفل جسدينا يدغدغنا برقة ,الموج يبعث رذاذا ليلقى التحية على وجوهنا .
قمنا ووقفنا. ثم نظرت إلى الصالة الدائرية لم أجدها، فقط الشرفة المستطيلة ذات الشباك هي الموجودة، سألتها عن المكان هل تعرفه سلفاً، فلم ترد، كانت تبتسم فقط وهواء البحر يداعب خصلات شعرها برقة والشرفة تتأرجح وأنا انظر ولا أريد لهذه اللحظة أن تنتهي.
نظرت للسماء، كانت صافية، رأيت نجوماً تلمع بجانب الشمس ثم انطفأ نور السماء واكتست بظلام لم يتخلله إلا ضوء قمر خافت ظهر فجأة ككل شيء. بدون سبب، ثم رأيت نفسي من بعيد أسير في الممر الضيق الواسع تحيط بي الجدران التي لا أتبين مقدار بعدها عن كتفيّ … لماذا تظهر الأشياء بذلك القرب في الظلام ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص من مصر
خاص الكتابة