حول منجز”امل دنقل” الشعري

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

صالح احمد *

كانت قراءتي الاولى لشعر امل دنقل، وانا بعدُ في مرحلة البدايات والتشكل الشعري ،وكنت منشغلا بمرحلة الشعر الرومانتيكي: محمود حسن اسماعيل وعلى محمود طه ،اضافة الى الشعر المهجري: جبران وايليا ابو ماضي. واذكر ان مطالعتي الاولى لشعر امل كانت صادمة.فقد استبانت تغيرات جذرية في النهج الشعري لدى امل مقارنة بما استقر في وعيي وقتها.فإذا بالعالم الشعري ينتقل الى شوارع القاهرة والاسكندرية والسويس، والى العالم الواقعي المعطى بالحواس ومفردات الحياة اليومية.

فبدلا من مفردات (الشذى – الصدى- الاحلام – الاماني – الاغاني ...الخ ) في شعر الوجدان ،فإنك واجد لدي امل دنقل (الترام –الكورنيش –الميادين –المقاهي –الحافلات –الرصيف ...الخ ). وإن هذا التحول في المعجم الشعري ليشير الى ان الشعر ليس مرهونا بنوع من المفردات التي تحتكر الايحاء الشعري ويُعرف بها الشعر من الاطلالة الاولى. ولكنه منفتح الى ما لانهاية له من الالفاظ، الرسمي منها والسوقي، المستحدث والموروث، الرقيق والنابي الخشن، طالما الشاعر يري انها في مكانها بالتمام لا يقوم مقامها بديل لفظي آخر.

ولقد تأملت مرات عديدة، كيف -والرومانسية ليست بعيدة-يبدأ امل دنقل قصيدة مكتوبة في مطلع ستينات القرن الفائت بقوله: بعمر من الشوك مخشوشنِ… بعرق من الصيف لم يسكنِ (رسالة من الشمال- ديوان مقتل القمر )

كان ذلك في ديوان (مقتل القمر) ذلك الديوان الذي شهد المراوحة القلقة بين الرومانسية والواقعية من جهة، وبين الشعر البيتي وشعر التفعيلة من جهة اخرى. وسرعان ما استقر شعره في الواقعية بمعناها الرحب وفي الشكل التفعيلي خالصا.

الامر الصادم الثاني هو ان المشغل الشعري المتمثل في وصف ما يعتمل في الوجدان وتمور به نفس الشاعر من جراء الحوادث الخارجية على نحو انعكاسي، انتقل هذا المشغل الشعري لدى امل الى الواقع الخارجي نفسه، واصفا اياه على نحو يخدم المغزى الشعري الذي تدور عليه القصيدة. وهو رصد للتفاصيل لا يخلو من ذات متخفية في حواشيه، في زاوية النظر لهذا الواقع، واختيار اجزاء منه قصدا دون اجزائه الاخرى، والتخفف قليلا من الانشاء البلاغي تاركا مشاهد العالم تعرض نفسها على نحو رمزي وايحائي. ووضع المشاهد المتناقضة متجاورة ً في القصيدة فيشعرنُ احداها الاخرى ،ويشملهما الصراع الذي عليه تدور فعاليات بني الانسان.

لقد كرست طريقة حياة امل دنقل لنمط من الكتاب مغاير لما اعتيد عليه الشاعر. شاعر يحتك بالحدث في موضعه حيث كان ولا ينتحي معتكفا على انطباعاته الذاتية. شاعر يمحص كل الصور الرسمية المعلنة، ويأخذ منها موقفا خاصا وان كان شخصيا، وليس شاعرا يتماهى مع الصور النمطية التي يريد كل نظام فرضها على الجموع فيتغنى شاعرهم بما ادعوا انه مصلحة الشعوب.

والحق ان رواد التفعيلة: السياب ،عبد الصبور ،حجازي تحدر شعرهم من وعي لا يساير المعلن والرسمي قدر ما يختط لنفسه رؤيته الخاصة، وهى ليست رؤية مقدسة انما يجوز عليها التغير مع تطور تجارب الشاعر في العالم.

وكأني بأمل دنقل ينقلب على نموذج شاعر الامير، ربيب الارستقراطية الحاكمة، ساعيا بكل كيانه الى اسلافه من الشعراء الصعاليك: عروة، تأبط شرا، الشنفري الازديّ.. ويذكر لجيل الستينات في الكتابة الشعرية انه اعاد الاعتبار لكلمة “صعلوك” مجنبين معاني الحِطة وقلة الشأن ،ملفتين الى معاني الرفض النبيل والحرية الطلقة وانعتاق الذات من ربقة عقود اجتماعية ،يولد الفرد ولم يكن ابدا طرفا فيها.

لكن بعد مرور سبعة وعشرين عاما على وفاة الشاعر (توفيَ 1983) ماذا يبقى من امل دنقل؟

يلفت أيَّ متتبع لسيرة هذا الشاعر مدى اخلاصه للشعر منذ قرر انه سائر في هذا الطريق. صحيح ان تصور امل للشعر لا يخلو من دور رسولي تحريضي، وهذا ما أنفتْ منه الاجيال التالية، لكنّ الشعر قد مثل الى الشاب الصعيدي النازح الى القاهرة خلاصا ذاتيا، بإلقائه نفسَه وتناقضاتِ واقعه فيه، يصل الى نوع من التصالح مع نفسه وتغشاه الطمأنينة الهاربة “ايها الشعرُ / يا ايها الفرح المختلس. ” لقد مثل الشعرُ نارا إذ تؤلم تطهـّر وتنقــّي ،الى ان يتطابق الشاعر مع رؤيته ويلتقى بسلامه المستحيل (هي النار وهْى اللسان الذي يتكلم بالحق/…./لاتدخلوا معمدانية الماء /بل معمدانية النار ../كونوا لها الحطب المشتهى والقلوبَ :الحجارة َ ،/كونوا الى ان تعود السماواتُ زرقاءَ،/ والصحراءُ بتولا ..)قصيدة اقوال اليمامة.

يذكر د.جابر عصفور ان قصيدة الطيور بقيت مسودتـُها في ذهن امل مدة عامين، لم يدونها الا بعد ان استقر على صيغتها نهائيا. هذا الحرص على الصورة الافضل للقصيدة حل محله عند البعض فيما بعد التعجل والانتهازية في علاقة الكاتب بالشعر عموما!. كانت هذه طريقته: ان تنشأ الجملة في رأسه ثم يظل ينقح ويعدل ،وهى باقية معه اينما ذهب ،وتأخذ ما تأخذ من الزمن حتى يدون صيغتها التي ارتضاها. ولهذه الطريقة اثر بالغ على التجليات الشعرية من مفردة وتركيب نحوي وصورة شعرية. وبهذه الطريقة ايضا ضاعت قصيدتان من مشروع (اقوال جديدة عن حرب البسوس) كان قد اسمعهما امل لبعض اصدقائه ولم يدونهما على الورق.

يبقى من امل هذا الحدبُ والحرص على صورة رائقة للقصيدة، تأتي من الرصانة والعمل الدؤوب على النص الشعري، باعتباره مشروع َ حياة ،وليس ترفا ذهنيا او تزجية للفراغ او لعبا مجانيا مع اللغة (فالكلمة إن تكتب/ لا تكتب من اجل الترفيه.. )

رغم ان الشاعر لم يكن اول من استخدم تفعيلة “المتدارك” فاعلن، اذ ان السياب في قصيدة(في السوق القديمة) كان اول من استخدمها في حدود علمي،الا ان امل اكثرُ من كتب بها وركز عليها طويلا. ولهذه التفعيلة دور ما في الانتقال من التفعيلة الى النثر، لان ايقاعها خافت نسبيا ليس راقصا ولا عاليَ النبرة، وهي مؤهلة للسرد. ولان العرب لم تعرف لها بحرا صافيا، ولكن دخلت (فاعلن) في البحور الممتزجة مثل بحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن) ومن ثم خلتْ فترة الفٍ واربعِ مئةِ سنةٍ من الشعر من هذه التفعيلة ،الامر الذي جعلها بكرا بغير تاريخ، لم ترتبط بها تراكيب نحوية جاهزة او صياغات لغوية اقترنت باستخدامها.ولقد لاحظتُ في دراسة سابقة ان دواوين الشعر التي ينتقل اصحابها من التفعيلة الى قصيدة النثر او يجاورون بينهما في القصيدة الواحدة، هذه الدواوين تبنت تفعيلة (فاعلن) في اغلبها، وكان لامل دور لا يـُنكَر في شيوع هذه التفعيلة بين الشعراء.

حين انظر الى انجازات امل الشعرية اجد انه ادخل الى القصيدة الواقعية تكنيكات اثرتها وامدتها بالخصوبة.فقد تبنى امل قصيدة المقاطع ولم يكن هذا جديدا لكنه انشأ روابط من المعنى بين هذه المقاطع لم تكن معهودة، فتارة تكون المقاطع اجزاءً منزوعة ً من صورة كبيرة، واحيانا تكون تتابعا سرديا لخط حكاية طويلة، واحيانا تمثل لصوتين متجاورين لكن الاول سردي تفصيلي والآخر غنائي انشادي، واحيانا اخرى تمثل لاصوات متصارعة دراميا ويفند احدهما خطاب الآخر. وإن الدراما اميزُ ما تبنته قصيدة امل من حيث تركيزها على الحدث والصراع وعرض المواقف والاصوات المتباينة، لذلك نلاحظ كثرة استخدام الهلالين والاقواس في مجمل نصوص الشاعر ،فهى موضع الصوت المغاير حتى داخل المقطع الواحد، او طريقة لاعتراض مجرى الحديث، او التعليق على ما يتم ذكره لكن بنبرة تخالف النبرة الاساس.

واذا عدنا لبنية المقاطع نجد في عدد كبير من قصائد امل ان المقطع ليس استمرارا خطيا للذي يسبقه. وأن ثمة رابطا ضروريا بينها يتمثل في فجوة.. يتركها الشاعر عن عمدٍ لتأويل القارئ، الذي يتراءى له ان يضع هذه المشاهد في اطار لوحة كبيرة ،يبدع هو نفسه بقية تفاصيلها ويتخيل إطارها الشامل.

جيل التسعينات وهو الجيل الثاني لقصيدة النثر عندما الحّ على السرد بدلا من الصور الشعرية المدهشة،وعلى اليومي والمعيش بدلا من التاريخي و الكوني، وعلى المتعين المحسوس بدلا من المجرد الذهني، كان طبيعيا ان يلتفت بقوة لشاعر مثل امل دنقل عمل طويلا على هذه العناصر لولا ان ثلاثين عاما من التغير الاجتماعي والسياسي كانت كفيلة بتغيير الامور على نحو جذري. لم يستسيغوا دور المحرض الجماهيري او فكرة ان الشاعر يحمل في يده شعلة الهداية من التخبطات السياسية ،ورفضوا قصيدة القناع التي امعن امل في استغلالها شعريا. وقد ساهمت بعض المختارات التي صدرت للشاعر في اخفاء بعض ميزاته الشعرية وإفقار تنوع موضوعاته، وإني ليشملني الأسف عندما تكون قصيدة (لا تصالح )عنوانا على مشروع امل دنقل الشعري ، فهو عنوان قاصر، ومضلل الى اقصى درجة.

اما جيل الفين الذي انتمي اليه فبينه وبين امل هوة كبيرة فهم يفارقون امل في إعلائهم قيمة اللامبالاة تجاه مصير العالم واحواله المتردية. وكذلك يفارقونه في تمجيدهم لفرس الرهان الجديد، وهو السخرية ُ من كل شيء.

الاسكندرية

يناير 2010

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر مصري

[email protected]

مقالات من نفس القسم