حلم أريج جمال

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد عيد إبراهيم  

(في سردي أنا، كنتُ ابنةَ سبعة، تحتاج إلى ضمة حقيقية، وكنتُ في المنام أصرخ فلا يَبينُ صوتي، أفزع فلا أجد من يضمني، أخاف فيسجنونني خارج النصّ، وهو الصلة الوحيدة بك)، هكذا تترى اللغة ساخنة، قاهرة ومقهورة، في توترها اللامتناهي بكتاب (كنائس لا تسقط في الحرب)، للكاتبة المصرية أريج جمال، دار مصر العربية، 95 صفحة، وهي مجموعة قصص قصيرة تتراوح في الطول بين نصف صفحة وأربع أو خمس صفحات، لكنها عموماً في لغة لا تهدأ، ما إن تبدأ حتى تنتهي، ولا تنتهي حتى تبدأ من جديد، بين أمكنة مختلفة، في الشرق والغرب، وأزمنة مختلفة، بعضها نفسيّ وبعضها واقعيّ، بعضها مبتورٌ وبعضها خياليّ يسعى إلى الكمال، تقول (لا أترك شيئاً من الكتابة للكتابة، فاللحظة لا تعطيني غير اللحظة، وهي تخونها بعد لحظة، لكنك أنت من سيعيدني إلى الكتابة، ويأخذني إلى الحبّ)

تتمثّل أريج، في أكثر من نصّ، روحَ فرجينيا وولف (1882/ 1941)، وهي الكاتبة الإنجليزية التي انتحرت من عجزها عن التواؤم مع الحياة، على رغم أنها ساهمت في إيقاظ الوعي الإنسانيّ مع الحياة، ضمن جيلها الذي يعد معها منبع الحداثة في عالم الأدب: ت. س. إليوت، بيكيت، جيمس جويس، مارسيل بروست، وغيرهم ممن وسموا عصرنا بتجارب أليمة، في أشكال لغوية فذة، لا نزال نسعى إلى تخطيها، مع مرور كلّ هذه السنين علينا.

نرى فرجينيا في أريج، مرة ومرات، وبالعكس أيضاً، حيث تبكي أريج من أن كلّ شيء انتهى، وتستسلم للعزلة، كما فعلت وولف وهي تُسلِم نفسها للموت، كي تعود للكتابة، مع أنها تنام وأمنية الكتابة بعيدة، تنام مقفلة على روحها، تقول أريج (لماذا تأتي الهاوية قبل أن تأتي الكتابة؟)، وهكذا نبحث عمّن يملأ هشاشتنا، بأي شعور غامض، ولو كان واهماً، إننا نعيش، كما قال إليوت في “الأرض الخراب”: (أعصابي متوفزةٌ الليلة/ كلّمني، لمَ لا تتكلم؟/ ما تلك الضجة الآن؟/ أأنتَ حيٌّ أم في رأسك شيء؟)، ولا تبدو الكتابة هنا إلا مثل غيمة، تنتقل من سماء إلى أخرى، بروائح مختلطة على الجدران، وبقايا بشرية تتحرك في صمت، وتعلَق أرواحها في المكان ليلاً، تعتقد أن نصف الدائرة التي تتحرك فيها لن تكتمل، وحين تسافر لا ترى المكان الجديد صالحاً للشّعر، ولا يقدّر الشعراء، بل تخنقه الدائرة حتى لو حدث واكتملت، وهي لن تكتمل أبداً.

تظلّ أريج تنشُد الكمال هنا وهناك، حتى تصل إلى الغرب، فرانكفورت، في ألمانيا، وهناك يتراءى لها أنها تكتمل، في تجربة للتعايش مع الآخر، تؤكد فجأة (لا أقمع جسدي، أطاوعه، أترك النافذة مفتوحةً، وكما لمستَني أبرد، وكما نغادر، جسدان التحما، وانتهيا كلٌ إلى حياةٍ، كلٌ في وطن)، هي ترضى بدخول الجنة، ولو من النافذة، وترى الله في عطية الجسد، الجسد المقاوم للموت، المقاوم للفقد، المقاوم للاكتمال، فهو فانٍ في النهاية، لا عزيز به أو عليه، وإن استبان موقع الألم، فلن تستطيع أن تنسى، لكن ليس الآن، فالآن للخيط الأحمر من الحياة.

الحبّ قاهر الألم، الحبّ قاهر الموت، الحبّ لا يعي غير بهجة النهار وألفة الليل، الحبّ يريد المزيد، ويساعد على التعري، يساعد في أن تقدّم روحك، وتنفتح للحُرقة الأولى، وأخيراً يأتي النبض المتزايد وهو يتبعثر، تقول (لا ألحظ رعشة يدي، ولا رعبي من الألم، كنتُ أرى السقف بوضوح، أبتسم وأغمض عينَيّ وأفكّر، أصعد وأهبط بالألم في عظامي، وأظمأ باستمرار، ستخرج صرخة واحدة، تجمعنا بلا لغة، تحرّرني، فأفتقدك بعنف، ولا أضيع إلى الأبد).

…………

*نقلاَ عن مجلة “تراث”

مقالات من نفس القسم