حكاية مطولة عن تمساح نائم” .. رأسُ القصيدة المقطوع

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

في "الليالي" ثمة عنوان بلا حكاية، مثل رأسٍ فُصِل عن جسده بضربة سيف. "حكاية التمساح": إنها الحكاية التي لم تُروَ أبدًا، ظلت تلويحةً لمروية غابت، للأبد، كسرٍ لا سبيل لفضحه إلا بإعادة اختراعه. لكن "حكاية مطوّلة عن تمساح نائم"، قصيدة إبراهيم البجلاتي الطويلة، (دار ميريت، القاهرة)، أبت بدورها إلا أن تكون، بالمقابل، حكاية/ قصيدة بلا عنوان، فبمحاكاة العنوان الذي تخلّى عنه متنه، تنازل نص البجلاتي، طوعًا، عن عنوانه، ليتحقق النصُ المفقود أو المستعاد كما ينبغي أن يكون: جسدٌ جديد يستعير رأسًا قائمًا سلفًا لينطق عبره، للمفارقة، لغته هو. إنه فعل يشبه إضفاء الكائن على الاسم، وهو نفسه فعل هذا النص الشعري: إنتاج الشعر عبر فمٍ ينتظر إفشاء الحكاية.

لن تخذل بنية “حكاية مطولة عن تمساح نائم”، وعدَ عنوانها. نحن أمام قصيدة طويلة تنهض على شرف حكاية مطّولة، كأن الشعر فم السرد، كأنه طريقه الوحيد هذه المرة، والذي على الشعر، إن أراد أن يواريه، أن يجيد بعثه أولًا. هنا، يعبر الشعرُ السردَ كحتميةٍ لإعادة تعريف نفسه، تمامًا مثلما يقطع التمساح النهر لكي يعيد بلا هوادة تعريف البر. لعبةٌ أولى، يُحاكي فيها الأفق الدلالي الأشمل للحكاية/ القصيدة طبيعة العالم الشعري المُعلَّق بين وجودين: الماء واليابسة. لم لا، والكائن الذي يراوح بين هذين الوجودين (التمساح) هو نفسه منتج القصيدة المعلقة بين خطابي السرد والشعر؟

قصيدة تستلهم أيضًا مخزون الميثولوجيا العربية (والشرقية) في إنطاق الحيوان بلسانٍ إنساني، وهو المخزون السردي بالأساس، لكنه هنا يخضع لتجريب آخر، بحثًا عن صوت “طبيعي” يُسائل نص الثقافة وهو يقف على تخومها، عوضًا عن أن ينبع مباشرةً منها. ثمة مفارقة أولى لذلك، يمثلها “تقمص” لغة لكائن لا يملك، بداهةً، لغة ولا يتوفر على نظام علاماتي يجسد الأفكار. من هنا يُقدِّم نص البجلاتي بعده الاستعاري، لينتج قصيدة نثر تبتعد عن الأفق المديني مؤسسةً مكانًا أقرب بدوره لـ”الطبيعي” تمثله قرية نهرية بدائية. وإن كان العنوان يمثل سهمًا ذاهبًا لألف ليلة، فإن الخطاب الشعري يتوفر على إحالات عديدة بوسعها أن ترده لأكثر من نص غير أنه يبقى وفيًا لشرطه كنصٍ مُختلق، ولتتحقق “حكاية نائمة عن تمساح نائم”، في الأخير، بوصفها تخمينًا أو تكهنًا بالنص “المرجع” الذي كان يجب أن يوجد لكن يدًا ما أطاحت به ليصبح التأويل هو الطريق الوحيد المتاح.        

ترميمُ حكايةٍ لم تُكتب

هذا نص تكتبه ذات نائمة، بالتالي فنحن أمام عالم الصحو وقد كتبه المنام. اللغة ابنة الصحو، فكيف يقاربها وجدان نائم، وفوق ذلك يكتبها؟ ربما لذلك يقدم العالم الشعري نفسه كأقرب ما يكون لحلم أعيد تشييده دون أن يفقد غرابته الأصلية وعلاقاته الأوتوماتية، عبر لغةٍ تنحو لتحقيق مجازات أشمل من حدود السطر الشعري.

لا تملك الذات الشاعرة حكاية. لقد فقدت حكايتها رغم أنها بطلتها المطلقة: “ليس لي حكاية مثلهم/ كأنني الوحيد الذي عاش دون أن يقصد“. لكنها أيضًا لا تقنع باستعارة حكاية وتبنيِّها: “كل هذا خيالٌ قديم/ لا يليق بتمساحٍ حي“. غياب القصد هو غياب الدلالة، مثلما يعني انعدام الحكاية في الحقيقة نفي الوجود، فلا وجود يخلو من سرديته. كيف ستؤلف الذات الشاعرة حكايتها إذن لتصطاد فريستين معًا: وجودها، ودلالته؟  

من هنا تنطلق الذات الشاعرة، وهي تنوب في أحيان كثيرة عن صوتين متماهيين: التمساح وصياده. التمساح هو الوجود في قمة حضوره ووحشيته وخلوه من الدلالة، والصياد هو تمثيل هذه الدلالة، حيث تستخلص الذات الإنسانية المعنى من الموجودات، أو، بالأحرى، تضفيه عليها. إذابةٌ كاملة لثنائية، محوٌ لصراع، وكأن الصياد والفريسة يتحدان أخيرًا على شرف الاتفاق بأن ما يجعل من كل منهما جلّادًا، هو، بالضبط، ما يجعل من كليهما ضحية.

ومن اللحظة الأولى، تؤسس القصيدة خاصيتها المكانية، لتجسدها بأكثر مما تجردها، فتنهض قرية، كأنها انبعثت من رماد قصة الخلق، لتصبح مكمن العالم الشعري. مكانٌ، هو “قرية الأجراس”، ينبع من مونولوج الذات الشاعرة الطويل المجزأ على مقاطع غير مرقمة، مفصولة بموتيف بصري متكرر، لتخرج من مأزق إجبارية الترقيم على الإحالة للتتالي والتعاقب والاضطراد الخطي.

الذات الشاعرة، نابعة بدورها من وجدان سارد، بالضمير الأول، حيث لا وجود لما يمكن أن ندعوه الوجود خارج الصوت الذي يتعرف على أناه. تُسترد القصيدة من أحشاء حكايةٍ ابتلعتها ذات يوم، القصيدة هنا “استخلاص”، هي بالضبط الجوهرة التي يبحث عنها الصياد في أحشاء سمكةٍ مستحيلة ليكتشف أنه عثر على رصاصته: “بيد راجفة فتحت فمها الموارب/ وشهقت مثلها شهقةً عظيمة/ الجوهرة كانت مرشوقةً في حلقها بالفعل/ الجوهرة/ لم تكن غير واحدة من رصاصاتي الطائشة“. والسؤال الشعري فادح الحضور هنا: كيف يمكن استخلاص “المجرد” من سياق ملتفت بالكامل لتجسده، ووفيّ، بالضرورة، لزمنيته؟ إن الذات الشاعرة تقدم تأسيسها لذوات في إطار مكان محدد تنهض به مثلما يفعل نص سردي، محددةً بعدها المكاني، وخالقة ذواتٍ لا يقل انجذابها للتجسد بوصفها شخوصًا عن تشكلها المجرد باعتبارها ذوات شعرية: الكاهن (تمثيل السلطة المراوحة بدورها بين عالمين: الأرض والسماء)، الصياد (تمثيل الفرد، وبدوره يراوح بين وجوده كفرد وكونه نفرًا في طائفة أو قطيع).

في “حكاية مطولة عن تمساح نائم” لا وجود لأسماء بل لأدوار، ينهض في قلبها مثلث: السلطة/ الفرد/ الطبيعة. وبينما تعمل السلطة بوصفها التمثيل الأعتى للثقافة في تعليبها الإيديولوجي حد ملامسة تخوم المقدس، فإن الطبيعة تواجهها عبر عمائها الشرس الراقد كتهديد نائمٍ تحت الشمس، ليذوب بين سلطتين.

لكن أي “أنا” والصوت الشعري بدوره هو صوت الوجود الغريزي، الحاسة الغفل متلبسةً تمساحًا، لا يمكنه أن يتعرف على “فرديته” خارج إدراكه الغريزي لكونه نسخة متكررة في قطيع؟ إنها الأنا المقموعة تحت السلطة الجاهزة لكونها “صورة” وهي تتناص مع طرفي حياتها وفنائها معًا: ميثولوجيا وجود سابق أداته اللغة وشكله الحكاية، وميثولوجيا ثقافة لاحقة بطلتها الصورة في خفتها المطلقة، كونها موضوعًا للاستهلاك، حد أنها بالتدريج تحيل لنفسها. وهكذا، فبقدر ما يمكن استقراء “حكاية مطوّلة عن تمساح نائم” في ظل نص غائب يردها لتاريخيتها بوصفها “واقعة”، بقدر ما يحيل ذلك الاستقراء لمرجعية أخرى، تذهب فيها اللغة الطبيعية نحو العلامة البصرية، وكأنه نكوص عكسي لما قبل اللغة، رغم أنه، للمفارقة، ذاهبٌ نظريًا للأمام.

من اللغة الطبيعية  للعلامة البصرية

أي رحلة قطعها تمساح الحكاية التي لم تُسرد في “ألف ليلة وليلة” ليتحول إلى علامة تجارية على قميص؟ إنها رحلة المسكوت عنه بالذات: الحكاية التي تركتها الليالي لخيال قارئها مجبرةً إياه على التحوِّل لكاتب، والحكاية التي أصبحت أسطورة ما بعد حداثية عبر استنساخ لا نهائي لسلعة لم تفصح، بدورها، عن المرجع الذي جعل من “العلامة” سببًا لاعتمادها دون أن تحيل إلى مرجعها، لتصل باعتباطيتها إلى خط النهاية. في الحالتين، نحن أمام حضور فادح للدال أو العلامة: التمساح، مقابل غياب لا لبس فيه للمدلول أو المرجع. لا تُخلق الحكاية لكي تفنى، بينما يُصنع القميص، بالذات، ليبدأ فناؤه فور التصاقه بالجسد الإنساني. ليس عبثًا إذن أن تنطلق القصيدة في سطرها الأول من فعل الكتابة: “بالنهار كتبتُ شيئًا ومسحته“، وتنتهي بانتفاء اللغة الطبيعية لمصلحة العلامة البصرية في سطرها الأخير: “حتمًا ستجد مكانًا لائقًا/ كعلامةٍ تجارية على قميص“. بين القوسين، ينهض الصوت الشعري، متكئًا على “الذيل” باعتباره داله الرئيسي والأكثر تكرارًا. ذيل التمساح المقطوع يتقاطع مع رأس الحكاية المقطوع، ومثلما تفكر الذات الإنسانية وتنطق عبر رأسها، فإن الوجود الطبيعي للتمساح يعبر عن ذاته عبر ذيله: مناط قوته وبطشه وحمايته. لكن دال “الذيل” بالذات يحل مقموعًا، مرة تلو أخرى: “كيف أنزع السكين عن ذيلي/ وأنا مثّبت هكذا على الباب” أو “الحجر كان ذا سن مدبب/ رشق ذيلي في حائط/ قوست ظهري وانتفضت/ جريت تاركًا ذيلي/ حتى اختفيت”، “آآآآآآه/ أنا قط مجروح وذيلي شبح“، “صار لي نصف ذيل كامل السخرية”. اتكاءات متكررة على التلويح بفقد الخصيصة الأصلية للكائن موضوع النص الشعري.

بفقدانه لقدرته على التعبير عن وجوده الذي يكثفه دال “الذيل”، ينام التمساح، ليبدأ نصه. وبتعطيل الذيل ينسحب التمساح كذات شاعرة من عالمه نحو النص الإنساني، وكأنه بتهذيبه وبقمع سلاحه، صار قادرًا على الاقتراب من الذات الإنسانية: “لا أكف عن مساءلة الطبيعة”. هكذا تُسائل الطبيعة نفسها من داخلها وليس عبر الوعي الإنساني بها، كأنما تخون نفسها للأبد مفسحةً طريقًا معبّدًا ونهائيًا للثقافة الاصطناعية كي تكتب وحدها العالم. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

نُشرت في موقع ضفّة ثالثة

مقالات من نفس القسم