حكاية الحمار المخطط” لرانية خلاف ..سرد رهيف من نافذة السيرة الذاتية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد العشري *

في مئة وثلاث عشرة فاصلة سردية قصيرة، تأتي رواية "حكاية الحمار المخطط" للكاتبة رانية خلاف، الصادرة حديثاً في القاهرة، لدى دار "الدار" للنشر. هي روايتها الأولى بعد مجموعة قصصية بعنوان "جسد آخر وحيد"، صدرت في طبعة خاصة عام 1998، وحازت القصة التي تحمل عنوان المجموعة جائزة جريدة "أخبار اليوم" للقصة القصيرة في العام نفسه. هذا التوقف الزمني الطويل نسبياً "أكثر من عشر سنين" لا يخلو من دلالة، ويعطي القارئ نوعاً من الشغف للمضي في القراءة، ربما بدافع من الرغبة في اكتشاف عوالم الكاتبة القصصية، وربما بدافع خفي يتمحور حول سبب التوقف والإنقطاع عن الكتابة، أو النشر بمعنى أدق، وهي دوافع تُحسّن تلقي النص الروائي، وتجعله قابلاً للتفاعل والمحاورة.

فواصل رانية خلاف السردية تنهل من ذاتيتها، ودواخلها الكامنة، وتعكس رؤية مجردة لقراءة العالم من حولها، ما انغمست فيه بإرادتها، بعدما أصبح لديها مساحة للتوقف عن بُعد، ورؤية تلك المسارات والطرق بتأنٍّ، والنظر في آليته بموضوعية، مدفوعة بسؤال خفي: كيف تم ذلك؟، كيف تركت نفسها لغواية طريق تُدرك أنه ملغم ومحفوف بالأخطار؟ تدفعها رغبة حقيقية في لمس العوالم الغريبة عنها، والصاخبة، وتخطي حدودها الهادئة. يستطيع القارئ أن يحس وهج التجربة، وصدقها، من خلال ظهور الكاتبة في السرد بذاتها، وإسمها الحقيقي رانية، وابنتها آريا، وعملها الصحافي في جريدة “الأهرام”، والزوج إسماعيل، مع تورية طفيفة في الإسم تتعمدها، لكنها صريحة الدلالة، لمن يعرف الكاتبة. وهي تدخل إلى عالمها الخاص جداً، وتضفره بالواقع الخارجي، في سرد هادئ، يبعث على التأمل، من خلال رحلاتها الصحافية المتعددة إلى أماكن كثيرة، وبلدان مختلفة، تشتبك وتتفاعل مع أجوائها وأحداثها، وتقدمها الى القارئ من وجهة نظرها، أو بما يمسها في تلك الرحلات، بأحداثها العامة والسياسية، مثل: أحداث الحادي عشر من أيلول في أميركا، وإغتيال رفيق الحريري في لبنان، وتصويرها في برنامج تلفزيوني لقناة “العالم” بتوجهها الديني. وهي أحداث تأتي في سياقها الطبيعي، وتغلف بها الكاتبة سردها الداخلي، وتفاعلها خارج نطاق الجسد، مما يشكل نافذة إنطلاق تخرج بالسرد من إطار السيرة الذاتية، ليتشكل كوعاء روائي رهيف البناء.

يحسب لرانية خلاف، أنها تخوض في سيرتها الذاتية، وحكايتها السردية بدرجة عالية من المكاشفة، في مناطق حميمية دافئة، ترتبط بالحسي، في درجته الأولى، حين يبدأ الوعي الأنثوي في التشكل، واكتشاف ذاته، ومناطقه الحساسة، مروراً بالوقوف على محطات وعلامات تركت هواجسها الخيالية، وآثارها المحسوسة، وأوجدت منطقها، وصورها. تعلو درجة البحث والتحليل ولمس الذات، للوصول إلى نوع من الرؤية الفلسفية، في تفسير الأحداث، معتمدة على ذهنية عالية واعية، محددة الأطر في مناطق، هلامية ومتروكة على حريتها في مناطق آخرى؟ تنطلق بالواقع في فضاء ومتسع خيالي غير محدود، في محاولة جادة لإذابة الفوارق بين طريقين، أو عالمين، أو طبقتين اجتماعيتين مختلفتين في الإهتمام والتوجه. ربما يؤوّل ذلك السعي بإيجاد منطق كل طبقة في التعامل، على أنه نوع من التعالي من الطبقة الأعلى على الطبقة الدنيا. يجد القارئ أن الكاتبة تسعى للخروج من ذلك المأزق بالتحلي بالدعابة، وإطلاق المرح في مناطق عديدة في السرد.

“حكاية الحمار المخطط” غني، جدير بأن نتوغل فيه، مع إتسامه بالبساطة، ومصادقة القارئ. ينبغي الإشارة إلى أن الكاتبة رانية خلاف سعت إلى تعريف علمي لحمارها المخطط، وحاولت أن تقف على نقاط التشابه بين سلوك بطلتها رانية، وبطلها إسماعيل، وسلوك الحمار الوحشي في الغابة، في صياغة ذكية، مبتكرة، لإيجاد الفارق بين الحيواني والإنساني في حدود العلاقة بين طرفين، وذلك يخرجها من موقع الصدام بالآخر. أيضاً، أرادت أن تدمغ الطريق الذي سلكته في سردها، بمنطقها الخاص في رؤية الأشياء وتحليلها من خلال المراقبة، والإنصات، والترقب، والتلصص على طرق ومسارات تدفعها الى الخارج، لكنها تمكّنها من رؤية ذاتها بدرجة أكبر من الوعي والتأمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*روائي وناقد مصري

مقالات من نفس القسم