ماجد وهيب
كان نهارًا ممطرًا، حوّل شوارع القرية إلى دروبٍ من الطين، ومع أول الليل اشتدَّت البرودة، فانغلقت البيوت على من فيها. استجاروا بنار الحطب والخشب وعظم الذرة، لكن هيهات أن يحصّنهم هذا من لدغة البرد في عظامهم المجهدة، أو يُسكت صرير أسنانهم التي عشش السوس فيها، أو رعشة أياديهم المعروقة. وهيهات أيضًا أن تحميهم الأغطية التي ذوبها طول الزمن، والتي سرعان ما انزلقوا تحتها متلاحمين، ثلاثة أو أكثر على السرير الواحد، إناثًا وذكورًا، كبارًا وصغارًا، آباءً وأبناءً، بغير فارقٍ كبيرٍ في التوقيت بين أسرةٍ وأخرى، فربما لم يستغرق الأمر أكثر من ساعتين أو ثلاث تناولوا فيها طعامهم، والتفوا حول مواقدٍ من الفخار تلامست فوقها الأيادي، ثم قاموا إلى الأَسِرَّة، فعمَّ السكون أرجاء القرية كلها، وفي أماكن أخرى، ليست بعيدة كثيرًا، كانت حياة أخرى تتأهب للبدء.
***
لكن هذا السكون الذي لم يكن يقطعه غير نباح الكلاب، لم يدم طويلًا. قطعته صفارة شهيرة، انطلقت في كل شارعٍ وركنٍ برنين قاسي. صفارة كئيبة كانت أمنية الجميع أن تنساهم الليلة لينعموا بالنوم وشبيه الدفء، لكنها جاءت بصوتها القادم كصوت الموت. اقتحمت الحوائط والنوافذ ورشقت في الآذان مثل الرماح. وفي كل بيت هناك واحد، وغالبًا ما يكون الأب، يوقظ سائر أهل بيته، الذين منهم بلا شك من سمع الصوت وتكاسل عن القيام دافنًا رأسه تحت الغطاء لينعم بدقيقة نومٍ إضافيةٍ، لكن في النهاية لا مفر من النهوض.
***
سكتت أصوات الصفارات، وجاء وقت الطرق على الأبواب. جيش من الخفر يجوب القرية كلها، كل خفير في المنطقة المقررة له، يبدأ بالصفارة ثم يطرق الباب، مناديًا باسم ربّ البيت، ولن يكفّ حتى يُفتح له الباب، ليخبره ربّ البيت بأنهم استيقظوا جميعهم حتى الرضيع. يتركه الخفير ويمضي إلى البيت المجاور. عندما يصل إلى آخر بيت في المنطقة المسئول عنها يظلّ واقفًا، ليس إلى أن يفتح له ربّ هذا البيت الباب ليقول له إنهم استيقظوا، إنما ليخرج بكل أهل بيته ليكونوا في عهدته، ويمضي بهم الخفير راجعًا من نفس الطريق، ليجد كل أسرة مرَّ بها قد جهَّزت نفسها وتنتظره أمام الباب. يتمم على الأفراد، ثم يمضي من بيتٍ إلى آخر حتى تكتمل عهدته. نفس الأمر يفعله كل خفيرٍ في الوقت نفسه، فتمضي كل جماعةٍ وراء الخفير المسئول عنها. يصلون أخيرًا إلى الساحة الواسعة أمام بيت العمدة، كل خفير أمام جماعته، ينظمها ويحافظ على هدوئها، كأنه طابور عسكري وكل سريةٍ خلف قائدها. غير مصرحٍ لأحدٍ بالجلوس إلا بإذنٍ من الخفير، وما إن يظهر العمدة، الذي يبدو كقائد الكتيبة، حتى يشير الخفير، بسرعةٍ وخوفٍ، إلى من أذن له بالجلوس ليقف في وضع انتباه كبقية زملائه، ثم يعطي كل خفيرٍ تمامه. في ذلك الوقت تخلو البيوت من الجميع، لا يُستثنى إلا المعاقين، والأم التي لم تتم أربعين يومًا على الولادة، والحامل في شهرها الأخير، ومن تجاوزوا السبعين، فقط من تجاوزوا السبعين، رغم أنه نادرًا ما تجد أحدًا في قريتنا قد تجاوز تلك السن. أما المرضى فلا يُستثني منهم إلا من تصل حالته إلى حد الاحتضار. ربما لو استثنى كل من يعاني من مرضٍ ما، لاستثنى أكثر من نصف القرية على الأقل.
***
يخرج العمدة إليهم. يحييهم، ويردون بلهجةٍ خائفةٍ:
ـ مساء النور يا حضرة العمدة.
لو سُمح لهم بالردّ الذي يبين شعورهم، الذي يهمسون به في داخلهم، لردّوا قائلين:
ـ مساء الزفت على دماغك، ربّنا يقصف عمرك يا مفتري عشان نستريح منك ومن ظلمك.
يتمشى بينهم. يشير بإصبعه ليختار من سيبقى معه ومن سيمضي إلى بيته ليستكمل نومه. حسب مزاجه يختار العدد الذي يريده، خمسةً، عشرةً، عشرين، ليقضون الليلة معه يحكون له حكاياتٍ مسليةٍ، لأنه يعاني منذ سنواتٍ أرقًا يحرمه النوم في أغلب لياليه، ولم يجد لدائه طبًّا غير أن يُبقي معه عددًا من أهل القرية يسامرونه بحكاياتٍ ونكاتٍ. في الليلة التي ينعس هو فيها ينعسون هم أيضًا، لكنه للأسف قليلًا ما ينعس، ويستكثر عليهم أن ينعموا بالنوم، ويبقى هو ساهرًا، وهو العمدة، فيُرسل الخفر لإيقاظهم.
***
علَّمهم تكرار الأمر كثيرًا أن يكونوا حكَّائين جيدين. تقول في نفسك إنه من المنطقي لكل من يختاره ألا يحكي جيدًا حتى يفقد العمدة الأمل فيه، فيختار غيره في الليلة التالية، لكن هذه الحيلة أخيب من أن تدخل على العمدة وهو رجل عقر، لهذا فمن لا يجيد الحكي يجد من ألوان الظلم الأخرى ما لا يحتملها، فمن الأفضل له أن يحكي جيدًا حتى يقتصر تعذيبه على الصحو من عز النوم ليحكي حكايةً ثم يعود إلى بيته سالمًا غانمًا الحفاظ على الكرامة ولقمة العيش.
***
سيئو الحظ الذين اختارهم ليشاركونه الليلة، والذين عليهم أن يبقوا معه حتى يأذن هو لهم بالرحيل، مضوا معه إلى الحجرة المخصصة لذلك وهم يحسدون الآخرين الذين نجوا من إشارة إصبعه، فعادت زوجة بغير زوجها، وزوج بغير زوجته، وأب بغير ابنه، وأم بغير بنتها، وليس بإمكان أحد أن يضع نفسه مكان غيره. أيقتصر الأمر على الحكي فقط أم أنَّ هناك شيئًا آخر؟ هذا سؤال كفيل بطرد النوم من عين الزوج الذي ترك زوجته، حتى لو كانت قد بقيت مع نساء أخريات وقع عليهن الاختيار مثلها. في الصباح عندما تعود سيسألها عما قالته وعما جرى، لكنه لن يجرؤ على طرح سؤاله الذي أبقاه مستيقظًا حتى عادت، لأن الحوائط لها آذان تنقل الكبيرة والصغيرة، حتى لو طرح سؤاله في حجرة النوم، حين يكون الباب مغلقًا عليهما ولا ثالث بينهما. ستشم هي في كلامه رائحة قلقٍ ما، فتهمس في أذنيه قائلةً له أن يطمئن، لكن هيهات أن تطمئنه وسوسة مختصرة. والويل كله إذا أُعيد اختيارها في الليلة القادمة، حينئذ يهمس في داخله قائلًا إن الأمر لم يكن مجرد حكايةٍ قيلت وأعجبت العمدة، لكنه سيكتم في داخله ولن يبين شيئًا. حدث قبل ذلك أن زوجًا ما اختيرت زوجته ست ليالٍ متتالية وتملّكه الشكّ، فقتلها، وكان جزاؤه الجلد حتى الموت، وآخر اختيرت زوجته مرتين متتاليتين، وتملكه الشكّ هو أيضًا، وتجرأ وسألها صراحةً إن كانت قد نامت مع العمدة أو لا، فأقسمت على المصحف أنه لم يلمسها. لم يصدّقها، فضربها حتى يأخذ منها الحقيقة، ووصل هذا إلى العمدة قبل أن يغيب أثر أصابعه على خديها، فأدبه بخمسين جلدةٍ.
***
في اليوم التالي لم يغمض للعمدة جفن، فأيقظهم. خرج إليهم وألقى عليهم التحية، فردّوا بالجملة نفسها التي ردّوا بها الأمس والتي يردّون بها كلّ ليلةٍ. تمشّى بينهم ليختار، فوقع بصره على وجهٍ غريبٍ. شاب في حوالي الثلاثين من عمره دخل القرية قبل أذان العشاء بقليلٍ. كان آتيًا من المدينة قاصدًا قرية مجاورة، وفوق الطريق الواصلة بين القريتين تعطلت سيارته، فنزل منها، وترجَّل حتى وصل إلى قريتنا. وعلى مشارفها صادف أحد شيوخها، فسأله الأخير عن قبلته، وبعد حوارٍ لم يدم أكثر من خمس دقائق رفع المؤذن أذان العشاء، فتمتم كلاهما:
ـ الله أكبر.
ومضيا معًا إلى الجامع. وبعد الصلاة دعاه الشيخ ليبيت معه ليلته قائلًا:
ـ الصباح رباح، الوقت اتأخر ومقصدك بعيد، وقطاع الطرق ماليين عيدان القصب.
مضى معه إلى البيت، وأحسن الشيخ ضيافته، وعندما انطلقت الصفارات في الشوارع، استيقظ الشيخ، ثم أيقظ أهل بيته، واستيقظ الضيف من نفسه. سأل عن السبب الذي يجعلهم يخرجون من البيت في مثل هذا الوقت، فأخبره الشيخ بالأمر كاملًا، فأصرَّ أن يخرج معهم.
ـ مفيش داعي؛ العمدة بيستثني الضيوف.
ـ عندي ليه حكاية هتعجبه أوي.
***
ـ وكتاب الله هو اللي أصرَّ يا حضرة العمدة إنه يجي معانا.
ـ أيوا يا عمدة، أنا اللي طلبت من الشيخ إني أجي معاه.
ـ غريبة!
ـ قال إن عنده حكاية هتعجبك.
ـ بس أنا مابسمعش حكايات من الأغراب؛ حكاياتكم غير حكاياتنا.
ـ أنا كدبت على الشيخ، معنديش أي حاجة أحكيها.
ـ اومال إيه اللي جابك معاه؟
ـ جيت عشان أسمع. أنا بلف البلاد كلها بدور على حكاية أولها كدب وآخرها كدب، يمكن أسمعها هنا. اللي يحكي لي حكاية أولها كدب وآخرها كدب، ليه مني هدية معتبرة.
ارتفعت الأيادي والأصوات في آن واحد قائلة:
ـ أنا، أنا…
ـ اسكتوا يا بقر، قال العمدة، ثم توجه بالكلام إلى الضيف سائلًا:
ـ وإيه اللي يضمن إنك هتوفي بوعدك؟
ـ الغريب ما بيكدبش، وإن كنت بدور على حكاية أولها كدب وآخرها كدب. أنا بينكوا لا حول لي ولا قوة، يبقى هاكدب إزاي وإنتَ تقدر تقتلني لو كدبت؟
ـ كلام معقول.
ـ بس لو معرفتش تحكي حكاية أولها كدب وآخرها كدب إنتَ اللي هتديني هدية.
ضحك العمدة، وقال:
ـ موافق، بس برضو إيه اللي يضمنلك إني هاوفي بوعدي؟
ـ إذا كان الغريب مش هيكدب، هيكدب صاحب المكان!
ـ عرّفني هديتك الأول.
ـ من شروطي إنك ماتعرفش هديتي، وأنا كمان مش عاوز أعرف هتديني إنتَ إيه لو خسرت.
ـ إنتَ مجنون، بس أنا قبلت اللعبة، خلينا نتسلى.
وتوجه بكلامه إلى أهل القرية قائلًا:
ـ روّحوا، براءة الليلة.
انصرفوا، وبقي هو مع الضيف، فحكي أول ما حكي:
ـ اسمع يا سيدي، أول حكايتنا نصلي على رسول الله..
قاطعه الضيف قائلًا:
ـ خسرت يا عمدة.
ـ أنا لسه ماحكيتش حاجة.
ـ أول حكايتك الصلاة على رسول الله، والله ورسوله حقيقة، بس أنا هاديك فرصة تانية.
بدا على وجه العمدة استيائه؛ كيف يجرؤ على مقاطعته؟ وكيف تبدأ الحكاية دون الصلاة على النبي؟ أيسخر مني، أم يلعب بي؟
على أية حال تغاضى العمدة، وقال:
ـ حكت لي أمي…
قاطعه الضيف قائلًا:
ـ خسرت يا عمدة.
ـ إنتَ بتلعب بيا يا ابن الملاعين! أنا أقدر أدفنك مكانك، أنا لسه ماحكتش حاجة عشان تقاطعني.
ـ بالراحة يا عمدة ومن غير نرفزة وغلط في الوالدين، إنتَ قلت: حكت لي أمي، وأمك حقيقة، وعشان كدا قاطعتك، بس أنا برضو هاديك فرصة كمان.
وشغل الأمر أهل القرية، فلم يغمض لأحدٍ منهم جفن، وقضوا ليلتهم يفكّرون في الحكاية التي أولها كذب وآخرها كذب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري، والقصة من مجموعة “العالم في حفلة تنكرية” المرشحة في القائمة الطويلة لجائزة ساويرس لهذا العام 2021