عاطف محمد عبد المجيد
الكتابة، قبل كل شيء، فعل إنساني جميل وممتع إلى أبعد حد، يُمارَسُ بُغية البوح بما في الأعماق، إن كان مؤلمًا أو مبهجًا، ووضْعه على الأوراق، في انتظار آخر يلتقيه فيقرأه ويتفاعل معه. وفي ظني أن الكتابة ما هي إلا نوع من الفضفضة الحرة المتحررة التي يلجأ إليها الكاتب، أيًّا مَن كان، كي لا يقاطعه أحد أثناء فضفضته. ولأن البعض أدرك مؤخرًا هذه الحقيقة، فقد بدأت تتلاشى، أو كادت، الحدود الفاصلة بين الأجناس الإبداعية / الكتابية، درجة أن بعض الكتابات يبدو صعبًا تجنيسها أو تصنيفها إلى شعر أو نثر، إلى قصة أو خاطرة. ورغم وجود هذا المناخ الذي يسمح للكاتب أن يكتب ما يشاء، طالما أنه لم يُجنّس ما يكتب، نجد من يُسمي كتابته شِعرًا وهي غير ذلك، ونجد من يطلق على كتابته أنها قصة وهي أبعد ما تكون عن فن القص، ولو أن هذا وذاك كانا قد تركا مسألة التصنيف، وتركا كتابتهما دون أن يحشراها تحت مظلة جنس أدبي بعيْنه لكان أفضل لهما. وقد صدرت أعمال كثيرة في السنوات الأخيرة تحمل اسم الشعر، وهي إلى القصة أقرب، وأعمال تحمل اسم القصة، وهي قصيدة نثر بامتياز.
(1)
ربما يكون عمار على حسن قد أدرك هذا التماهي بين الأجناس الأدبية المختلفة، فلم يصنّف كتابه “ حكايات الحب الأول” الذي صدرت منه طبعتان عن الدار المصرية اللبنانية في خمسة أشهر، ولم يضع على غلافه كلمة تفيد بانتمائه إلى جنس أدبي معين، تاركًا للقاريء، قبل الناقد، القيام بهذه المهمة، (إلا إذا كان يعتبر كلمة حكايات بديلًا عن كلمة قصص). عمار يضم في كتابه هذا مائة مقطع نثري، يصلح بعضها – بعد قليل من المعالجة – لأن يُدْرج تحت مسمّى قصيدة نثر، وبعضها يمكن اعتباره قصة قصيرة، أو قصيرة جدًّا. المقاطع يتفاوت طولها ما بين بضعة أسطر وبين أكثر من صفحتين بقليل، وفيها يستخدم عمار لغة رقيقة رومانسية حالمة، تناسب الحالة الشعورية والنفسية التي تنتابه وقت الكتابة، تضع قارئها في حالة الحب التي يعيشها الكاتب مع محبوبته، إن غابت وإن حضرت، ويسرد تفاصيلها هنا. “ زارني طيفها في المنام، فقلت لها معاتبًا: تآكلت روحي من عذاب الانتظار. ابتسمت وقالت بصوت مخنوق حزين: أما أنا فأموت كل لحظة من ترويض النسيان”.
عمار يكتب هنا ببساطة، دون افتعال أو تَصنّع، حارصًا على بساطة لغته وسهولة صياغاته، دون أن ينسى أن يستفيد من تقنية المجاز والصور الإبداعية التي تُقرّب الكتابة من فن الشعر، مما يضفي عليها جمالًا إبداعيًّا محمّلًا بمتعة واندهاش معًا. في المائة مقطع لا يبرح عمار الحديث عن محبوبته وعن ذكرياته معها وبين أيديها: “ هزني الشوق إلى اليوم الذي رأيتها فيه للمرة الأولى، فدفعني إلى الحديقة التي شهدت اللقاء. سافر الزمن وليس بوسع أحد أن يعيده، وتبدلت معالم المكان ولا حيلة في إرجاعه إلى عهده القديم. لكن التراب، الذي كان حذاؤها يترك فيه أثرًا فيحتضنه حذائي وأنا أسير وراءها حتى تغيب، ظل على حاله”.
(2)
غير أن عمار في خضم حبه الجارف، لم ينسَ أن يتحدث عن الثورة، إذ ذكّره أحد الثوار، وكان صديقه، بحبيبته في الميدان، بعد أن التقى صديقه حبيبته بعد سبعة وثلاثين عامًا من الفراق والغياب، وكان قد فقد الأمل في أن يلتقيها، وقد أحيت الثورة هذا الأمل بعد أن جمعت بينهما في الميدان، وهذا ما يعتبره من كرامات الثورة: “ في اليوم التالي ذهبت إلى الميدان بمفردي، ولديّ شعور جارف بأنني يمكنني أن أتحقق من انتصار الثورة على الطريقة التي أخبرني بها صديقي في عتمة الأمس”. هذا ويبدو عمار في بعض مقاطعه العذبة هذه محبًّا مكسورًا يحمل جراح ابتعاد محبوبته عنه: “… وكان هذا أقل ما يمكن أن يفعله عاشق مكسور جلس وحيدًا قبل ربع قرن ليكتب ما تخيله من حوار مع فتاة يقف أمامها ليعترف لها بحبه الجارف، لكنه مضى دون كلمة، وبقيت هذه الورقة التي تُغالب الزمن شاهدة على جرحه الذي لا يندمل أبدًا ”.
يبدو أن الكاتب يعيش هنا حالة من الحب العذري، إذ يتألم دون أن يُفصح أو يكشف عن ألمه.
(3)
هذه الكتابة البسيطة الحالمة والرومانسية لا تخلو من الشجن، كما لا تخلو مفرداتها من الوجع والألم المكبوت الذي يريد أن ينطلق كثور هائج من ضيق صدره به: “ حين بكت تساقطت دموعها على روحي فثقبتها، ثم ظهر طائر الحزن وريشه مبتل، ومآقيه يسكنها الظمأ والغضب.تقدم نحوي ومد منقاره وأخذ يملأ كل الحفر التي تراصت أمامه جمرًا، وندمًا، ووجعًا، وحنينًا”.
“ سأل الأستاذ تلميذه:
– ما هو الصمت؟
فابتسم، وشرد قليلًا ثم أجاب:
– هو ملايين الكلمات التي حبستها في أحشائي، فكادت تمزق كل جوارحي، وجعلتني أرتجف وأتوجع دون أن تتحرك شفتاي أبدًا، بينما عيناي تتابعان محبوبتي في غدوها ورواحها، وموسيقى صوتها تملأ أذني”.
(4)
كذلك لا تخلو كتابة عمار هذه من الحكمة والحس الفلسفي، وإن اقتربت قليلًا من المسحة الصوفية:
“ قال لي شيخي:
– يخلد الحب حين يسكنه الألم.
فنسيت كل أوجاعي فجأة، وغمرتني سعادة، وطرت إلى آخر السماء، وأنا قابض على ألمي، حتى لا يتساقط مني في وجه الريح ”.
وبعد..يمكن اعتبار حكايات الحب الأول هذه نوعًا من الكتابة / البوح التي لا تحتاج إلى تصنيف قدر احتياجها إلى قاريء يمتلك ذائقة سليمة، وهي بلا شك كتابة نحتاجها الآن لتعيدنا إلى الرومانسيات الحالمة في عصر تحجرت فيه المشاعر، وباتت حيازة الأحاسيس البريئة جريمة يُعاقِب عليه القانون العصري الحديث.