حصان القيلولة الأبيض

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إسماعيل غزالي*

لم يكن قد شرع في الصّهيل القرمزيّ بعد على رمل الضّفّة المرصوصة بحجر بركانيّ...

لم يكن قد رفع ذيله المصهّب ، المنسكب كشلال صغير داكن الشّقرة خلفه ...

لم يكن قد رفع قدمه الأماميّة الزّرقاء من فرط رمادها وفيها ثبجُ شيبٍ يلمعُ كفضّة صقيلة ...

تدفع نصف عمرها ثمنا لتعرف ما تكتنزه عينه بتلك اللّحظة ، المرأة السّائحة المولوعة بتصوير البجع ، الواقفة على سفح الشّجرة العزلاء المطلّة على البحيرة .

عاشقة البحيرات هذه ليست مصوّرة فوتوغرافيّة وإنّما باحثة في علم الطيور المهاجرة وهي تضع كاميرتها على مسند من قضبان رفيعة منتصبة بكامل بهائها البضّ تراقب بمنظارها التّفاصيل السّحريّة لنزول الحصان الأبيض إلى ضفّة البحيرة ولم يكن يدور في خلجانِ حسبانها أنّها ستترك مهمّة رصدها للطيور المهاجرة وتنصرف بهذه الإثارة المحتدمة إلى مشهد الحصان البربريّ الأبيض .

لم تكن قد شرعت في الالتفات الغضاريّ بعد على الهضبة المعشوشبة …

لم تكن قد حرّرت شعرها الفواح من عقال شريط انفكّ لوحده أمام زخم ثروته الفاحشة واندلعت شقرته المضمّخة ، جامحا خلفها يتماوج كحقل شاسع من تِبر السّنابل …

لم تكن قد ثنت ركبتها بعد المخدوشة بعسلوج الدّغل بينما ترتخي شفتها السّفلى ، السّادرة في شهقة الافتنان والدهشة ..

يدفع نصف عمره ليعرف ما تكتنزه عينها بتلك اللّحظة ، الرّجل المولوع بالخيول البربريّة . مروّض الخيول هذا الذي يتلصّص بمنظار على صخرة في رأس الجبل المطل على الهضبة الصغيرة والبحيرة معا ، لم يكن يدور في خلده أنه سيترك مهمة رصده للحصان الأبيض وينصرف هكذا في ذهول وافتتان إلى مشهد المرأة السّائحة على التلّة المعشوشبة .

لم يكن قد شرع في الصفير بعد على صخرة الجبل العالي المتواري في معطف داكن من شجر البلّوط الأخضر …

لم يكن قد رفع قبعته الصّيفية المصنوعة من قشّ الموسم ، يحاصر بها شعرا نواسيا ، هائش الخصلات .

لم يكن قد نزل عن صهوة الصّخرة الشّاخصة في شموح بينما كانت شفته تترنّم بهسيس دهشة واعجاب سامقين …

 

 

كان حلم المرأة أن تلتقط صورة لعين الفرس المكتنزة لتفاصيل البحيرة بنيلوفرها وبجعها ويعاسيبها ، بكامل عناصر اللّحظة بذلك الهجير المصطخد .

انعكاس هذه الأشياء جميعا في عين الفرس هو ما كان يحلم به الرجل مروّض الخيول أيضا ، أن يلتقطه في عين المرأة وهي تكتنز تفاصيل الحصان الأبيض على ضفّة البحيرة ، بنيلوفرها وبجعها ويعاسيبها ، بكامل عناصر اللّحظة بذلك الهجير الزّنخ .

 

 

هذا ما سينقلب كمصران أُعمل فيه عودٌ لإفراغه من حشاشته ، إذ يصهل الحصان الأبيض ، بحدّة ، وينتصب ذيله المصهّب إلى أعلى رافعا قدمه الأماميّة الصقيلة وشرع في ركض شرس ، جانح ، منفلت ، أجفل له السّمك في عمق البحيرة السّحيق فحلّقتْ له جمهرة البجع التي أمّت المكان وتطايرت بعيدا فيما وراء الغابة السّوداء .

 منخرطا ما يزال الحصان الأبيض في عدو مضطرم يُسمع لحوافره طقطقة من ذهب في صدى الفجوات وأثلام الجبال المحاذية ، تداعتْ له المرأة السّائحة على الهضبة المعشوشبة وسقطت على ركبتيها وأهملت آلة تصويرها ، مخطوفة ومنهوبة بالجمال الوحشي الصاخب أمامها للفرس وهو يلفّ حول البحيرة وهي تدلق آيات الاعجاب ، غير مصدقة سحر وروعة المشهد الباذخ بينما شعرها يحلق أكثر مثل سرب الطيور المهاجرة وراءها ويكشف عن لوح ظهرها البديعة وعجيزتها المترفة ، فاخرة الامتلاء

جموح اللّحظة المارقة تلك جعل الرّجل يسقط من الصّخرة دون أن ينتبه لذلك وفي الوقت الوجيز الذي استغرقه ليرجع إلى سالف تربّعه على عرش الصّخرة حيث انكسر منظاره سيندلع منه صفير وثير ونظرتُه شاخصةٌ على المرأة السّائحة تعتلي صهوة الحصان الأبيض الّذي يمشي فاختا بوداعة وسط جمهرة هائلة من البجع

عندئذ تناهى إلى سمع المرأة السّائحة صدى انكسار ما ، كان سقوط فنجانها من حافة الطاولة على أرضية الشّرفة هو ما أيقظها من غفوة قيلولتها فطفقت لاهثة تطل من إفريز شرفة الفندق  غير المصنف  لتطمئن على مشهد حصان معدنيّ أبيض يتوسّط صهريج الحديقة للمدينة الصّغيرة وحولها في الشّرفات المحيطة وعلى السّطوح كانت تنبش بنظرتها دائما عن مروض الخيول الذي كان يتلصّص عليها في حلم قيلولتها وهي تمنّي النفس لو تصادفه واقعا ، ذات هجير صاخد على شاطئ بحيرة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قاص من المغرب

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم