حصاة ودولارات في جيب شاعرة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
تشارلوت جراهام ترجمة: أحمد شافعي حينما التقت "آلي كوبي إيكرمان" بأمها البيولوجية للمرة الأولى، رأت ـ كما قالت ـ أن حياتها بلغت ذروة اتساعها. وبعد أربع سنوات، أي في عام 2001، التأم شمل كوبي إيكرمان بابنها ـ البالغ من العمر آنذاك ثماني عشرة سنة ـ بعدما فصل عنها بمجرد ميلاده. على مدار عقود ظلت تترقرق في روحها مويجات صدمة الإبعاد عن أمها التي أنجبتها والفصل بينها وبين ابنها الذي أنجبته ضمن ما عرف بـ الجيل المسروق في استراليا. قادتها تلك الصدمة إلى العزلة، وإلى الكحول والمخدرات، وإلى إحساس أصيل بالحزن.

وقادتها أيضا إلى الشعر. بعد خروجها من مركز التأهيل وتعافيها من أدنى ما وصلت إليها في حياتها، بدأت كوبي إيكرمان ـ البالغة من العمر أربعة وخمسين عاما الآن ـ الكتابة بقصد التعافي، وحكي حكاية أسرتها. وعما قريب ستكون في جامعة ييل لتلقي جائزة ويندهام كامبيل للكتابة، واحدة من ثمانية فائزين تم اختيارهم هذا العام من شتى أرجاء العالم. تبلغ قيمة هذه الجائزة مئة وخمسة وستين ألف دولار، وهي جائزة تعتمد على ترشيحات سرية ولا تشعر الكتاب المرشَّحين بترشيحهم.

تقول كوبي إيكرمان “إن أسرتي، وهي من مارالينجا بجنوب أستراليا، كانت تعلم دائما أن قصتها قصة مهمة”. ولكن الاعتراف الذي تسبَّبت فيه الجائزة كان طاغيا حسبما قالت في حوار معها، إذ أمكنها للمرة الأولى، في الأسابيع القليلة الأخيرة، أن تقول دونما بكاء إنها أول أسترالية من نسل السكان الأصليين تحصل على هذه الجائزة.

نشأت كوبي إيكرمان مع الأسرة التي تبنتها في سهول هارت الزراعية، على حافة وادي كلير في جنوب أستراليا. كانت قد فصلت عند ميلادها عن أمها المنتمية إلى السكان الأصليين، والتي سبق لها هي الأخرى أن فصلت عن أمها. ولم تقابل كوبي إيكرمان أحدا من الأستراليين الأصليين إلا في المدرسة الثانوية، ولم تعرف إلا بعد عقود أنها بعثت لتعيش مع أسرة بيضاء برغم أن أقاربها من السكان الأصليين كانوا يريدون استبقاءها معهم.

في الثامنة عشرة، وبعدما انتهت للتو من علاقة تعرضت فيها للانتهاك والاستغلال، وبينما كانت تصارع مشكلة مع الشراب، اكتشفت كوبي إيكرمان أنها حبلى. شاعرة بالضياع، وقسوة الحكم عليها في البلدة الصغيرة التي كانت تعيش فيها، وافقت على تسليم وليدها للتبني. فرأت جوني مرة واحدة بعد ميلاده، ثم لم يسمح لها برعايته إلى أن بلغ الثامنة عشرة.

تنتمي الأسرة إلى جيل الأستراليين الأصليين المسروق، وقوامه مئة ألف شخص أرغموا على البعد عن آبائهم بقوة السياسات الحكومية المتبعة في الفترة من 1910 وحتى 1970. لكنها قالت إن القصة الرسمية خاطئة: فالكابوس الذي عاشه الأستراليون الأصليون لستين عاما لم ينته عند ذلك الحد.

قالت كوبي إيكرمان إن وجيعة الجيل المسروق لم تزل تتكرر في مجتمعات الأصليين، بعد مضي فترة طويلة على اعتذار الحكومة وعدولها ـ افتراضا ـ عن سياساتها. فواقع الأمر كما قالت هو أن عدد أبناء الأستراليين الأصليين الذين يعيشون الآن في ظل التبني أكبر منه في أي وقت مضى. كما أن عدد من يعيشون منهم في رعاية أسر الأصليين تراجع هو الآخر.

قالت “لا بد من معالجة للعنصرية المقيتة في هذا البلد. نحن بحاجة إلى المزيد من التصالح، إلى ما هو أكثر من مجرد شراء لوحة من لوحات السكان الأصليين وتعليقها على جدار في مكتب. أستراليا بحاجة إلى أن تشب عن الطوق، وتنظر إلى نفسها”.

يقع الحزن الجيلي الثقافي الخاص بالجيل المسروق في القلب من شعر كوبي إيكرمان. وهي تكتب عن أمها الراحلة نجينجاليا أودري في مجموعتها “داخل أمي” قائلة:

أمي صخرة جرانيت

لم يعد بوسعي أن أتسلقها

أو أطوف حولها

ثقيلة

وثقلها تذكرة دائما

بنفسي

أجلس في ظلها

مثلما تبني النوارس أعشاشها

في أعينها

كاسية بظلالها قبر أمي،

أمي التي أحمل منها في جيبي

مجرد حصاة.

حاليا، تعيش كوبي إيكرمان على مقربة من أديلايد بأستراليا، مع أمها بالتبني، معتنية بها، منادية إياها بـ ماما فريدا. قالت إنهما اقامتا في ما بينهما صداقة، وحققتا سلاما، بعد عقود من هرب كوبي إيكرمان من البيت في مراهقتها.

قالت، في المدرسة كان يبدو أن كل الأطفال الأصليين يواجهون مشكلات ومصاعب. وتقول “لم أكن أملك السيطرة على سلوكي، وكنت أكره أن أرى الألم في أعين أبويّ بالتبني، كانا شخصين رائعين”

كانا في ذلك الوقت لا يعرفان أن كوبي إيكرمان تعرضت في طفوتها للانتهاك الجنسي. وتحكي هي في سيرتها “الخوف من البكاء” أنه بات يصعب عليها أن تركز بعد التعرض للاعتداء وقد تجمّدت بفعل “ريح ثلجية”.

كتبت أنه “لم يبد قادرا على تذويب عقلي المتجمد إلا الأفكار الغاضبة”.

وتحقق الشفاء بوقت قضته في مركز علاج الإدمان الذي صارعته منذ سنوات مراهقتها ومن خلال الطرق التراثية التي اتبعتها “الكبيرات” من النساء الأستراليات قاطنات الصحراء.

وببطء ـ مثلما قالت ـ بدأت كوبي إيكرمان تفهم من هي.

قالت إن “الوجيعة بقيت مقيمة في جسدي لردح طويل من الزمن”.

قالت “لم أكن أستطيع بعد أن أتكلم باللغة التراثية، فأغنتني عيناي، كانت لي عينان جيدتان، لعلي ورثتهما من سنين كثيرة قضيتها أتلفت بحثا عن أسرتي”.

قبل سفرها في رحلتها إلى ييل، سافرت كوبي إيكرمان إلى الصحراء الأسترالية لتخبر أسرتها التراثية من شعب يانكونايتجارا/كوكاثا بأمر جائزة ويندهام كامبل وما تعنيه. أرادت أن تقول لهم ـ بعون من المترجمين ـ أن هذه الجائزة لهم جميعا.

سوف يرافقها في رحلتها إلى الولايات المتحدة كل من جوني وابنتها أودري التي أعطيت لها ـ عند التئام شملها بأسرتها ـ تماشيا مع الممارسات الثقافية المتبعة. قالت إنها سوف تستغل مبلغ الجائزة في شراء مكان يمكن أن تعيش فيه عائلتها كلها بعد عقود من الفرقة.

 قالت إن منظمي مهرجان ويندهام كامبيل أبدوا احتراما ورقة تجاه شعرها. لكنها راغبة أيضا في تسليط الضوء على معاناة الأمريكيين الأصليين بزيارة بعض منهم خلال إقامتها.

قالت “ربما يكون الأمريكيون قد كرَّموا قصتي، لكنهم يتجاهلون قصة أخرى على من بابهم الخلفي”.

منذ صدور مجموعتها الشعرية الأولى سنة 2010، حققت الكتابة لكوبي إيكرمان الكثير من المنح، وحضور المهرجانات الأدبية، ونشر سبعة كتب. لكن أهم ما حققته لها كان القدرة على التداوي، فالكتابة هي التي حررتها من ذنب استولى عليها بسبب سماحها بتبني ابنها.

كتبت في سيرتها تقول إن “طوفانا من الإبداع اندلع بداخلي منذ لقائي بأمي ومعرفتي بقصتي. فلا أكمل عملا فنيا، إلا وأشعر بحفل يقام في قلبي، وأشعر أن قطعا ميتة قد تساقطت عن روحي المعتمة”.

لكن أغلب الأستراليين الأصليين ـ كما قالت ـ لم يسعدوا بمثل هذه الفرصة للتعبير عن أنفسهم، فالأسر الأصلية تخشى أن تتكلم في بيوتها خوفا من استدعاء الهيئات الاجتماعية وسحبها الأطفال. “وهذه هي المهانات التي نعيش معها من يوم ليوم”.

لقد تحقق الكثير بمجرد الإعلان عن الجائزة، لمجرد أن تكون من بين الفائزين شاعرة أسترالية مجهولة تقريبا وبلا عمل وتعيش في مقطورة. لكن كوبي إيكرمان قالت إن الطرق غير المعهودة التي آثرت المضي فيها مجتنبة ضغوط التواؤم مع المجتمع الذي استشعرت أنه قسا عليها كثيرا كانت ضرورة لا غنى عنها لتداويها وشفائها.

قالت “لقد نلت نصيبي من الحزن في هذه الحياة. ولكنني الآن فقدت براعتي في احتمال المزيد”.

………….

*نقلاً عن صحيفة عمان

 

مقالات من نفس القسم