عبد الوهاب عبد الرحمن*
فى نصوص الشاعر العراقي حسين رحيم يمتد الزمن فى مختلف الأتجاهات، أحياناً تجده يستوحى زمنا من أعماق الماضى يستل منه حكايا وأقاصيص يحيلها إلى امثولة يجرب فيها قدرة الكلمة الشعرية فى طى المسافات بكل مقترباتها التراثية ومنحنياتها التاريخية – وأحيانا تجده يشير إلى وقائع بعينها تتناص مع الآن مستحضراً “زمناً خرافياً أسطورياً من دون قبل ولا بعد. فلا توجد بداية ولا نهاية فالنص القابل للكتابة حاضر باستمرار” بتعبير رولان بارت وفى نصه “ديوجين” يعود بنا إلى تراث الإغريق يتمثله شعراً فى فلسفة ديوجين متفاعلاً مع روح العصر وهو يبحث فيه عن يوتوبياه فى غير مكان وزمان فلا يوجد غير الشعر لغتة للمجردات لا للمحددات، لغة لا نهائية:
ديوجين ..أيها المصباح السائر في نهارات الأسئلة
يا صاحب الكلبنة
هل مازلت تبحث عن… عن (أونستك)
هل مازال ظل الإسكندر المقدوني يحجب عنك شمس أثينا
هل مازلت تسكن برميل الحكمة
ديوجين يا صديقي المتعالي عن فضيلة سقراط
خذ بيدي وتعال نجوب طرقات بلادي
نبحث معا عن معلم لأولاد الشوارع
عن حاكم يستجير بالفضيلة
عن أم ثكول
وخلفنا قافلة
من شعراء حفاة
وقصاصون حليقو الرؤوس
ورسامون بعيون جاحظة
وموسيقيون بلا أصابع
وروائيون ينظرون ولا يبصرون
ديوجين
ديوجين
ديوجين ذلك المسرج في الشمس.. يلعب الشاعر رحيم دور العراف ليعثر على العمق الجمعي بمزج المادي بالحدس، ويكتب نصا يتصادى مع عصر بعيد بتأمل فلسفي متأثرا بحوارية باختين وهو يجمع زمنيين بأحالة كل منهما إلى الآخر، ليبدع أحدوثة بملامح زمنه وهو يستدعي حكمة فيلسوف قديم يطرح من خلالها أسئلة عصره، التي أورثت ديوجين اليأس بمرارة البحث عن الحقيقة دون جدوى، والشاعر يعيد تكرارها على مبدأ (العود الأبدي) ليعلو نداء الشاعر مستنجدا: ديوجين، أيها المصباح السائر في نهارات الأسئلة يا صاحب الكلبنة/ هل ما زلت تبحث عن، أونستفالحقيقة التي افتقدها عصر ديوجين والتي ما فتأ يبحث عنها بمصباحه السائر في النهارات كالمسرج في الشمس، ولأن الشاعر محكوم بجدب وعقم زمنه كما ديوجين الذي رأى الشاعر تمرده وسخطه، فعل شعري التقطه ليحيله إلى تجربة انعكاسية لزمنه هو… ورحيم تماهى مع فعل ديوجين الذي تنكر للآخر بقوة متجاهلا وجوده لأنه لا ينتمي لعالم ديوجين الكلب… الرافض لكل القيم والتقاليد والأعراق باللجوء إلى التهكم والسخرية والإهمال الحاد للذات، وهو مع مصباحه يعاني عقدة البحث عبثا عن (الإنسان الكامل) أونستك….ذلك الذي أغرى شاعرنا (المصاب بمتلازمة ديوجين) باستدراجه إلى زمننا (خذ بيدي وتعال نجوب طرقات بلادي) وانتشله من برميل الحكمة ليلقي به في برميل زبالة هذا الزمن القاحل وصارا يبحثان كما يفعل جائعو هذا العصر (عن معلم لاولاد الشوارع /عن حاكم يستجير بالفضيلة /عن ام ثكلى)ولا ينسى اشباهه من (قافلة من شعراء حفاة) يتعالون عن فضيلة سقراط رافضين مملكته مثلهم مثل (قصاصون حليقو الرؤوس/ورسامون بعيون جاحظة /وموسيقيون بلا أصابع/وروائيون يتظرون ولا يبصرون ). ويختم بذات النداء العقيم:
“ديوجين
ديوجين”
استطاع الشاعر أن يغطي مآسي وأوجاع العصور بلغة ابيغرامية لم نعدم معها ظلالا دلالية على مستوى من الإيجاز والتكثيف ليستوي أمامنا نصا مركبا من شفرات خاض الشاعر أسرارها حد الغرق، ولكنه لم ينس أن (يرفع كفه المغموسة بحبر الوراقين وحتى كتب الوحي) ليعلن محمولاته الغروتسكية وهي تحتشد بكل صور الرعب والسخرية قبل أن يتوقف عن التنفس بإرادته كما فعل ديوجين.
وفى نص آخر يضعنا فى “أسرار صندوق العائلة”: وبأنعطافة مباغتة يتحول بنا حسين رحيم من :
“نهار دائم كان كل شئ
يلأئم كل شئ”
يحشرنا وإياه فى (زاوية الخوف) وفى غياب (الجد) لألف عام، يأتي حضوره مدويا، ليشق السديم (زيق الليل) ويهبط الى المجهول (السرداب) بكل محمولاته السرية وعماءه الكوني،فهو العمق من كل شي،الجذر، الأسرار، وكل ما يضمره من شر وأمل، يمتح منه الشاعر كل مكبوتاته، لأنه يعيش ذاكرة الفقد الوجودي الذي يدفعه إلى التجرد يلغي معه الزمن ليتراوح بين ماض وحاضر،،، وزمن يمتد تقطعه فراغات تشي بتمرد ميتافيزيقي يقرن الشاعر به وجوده القلق،،وقدر يتمثل في جده (اللاشعور الجمعي)-يونغ- وهكذا يتلاعب بقصد أو بدونه بين ظاهر هلامي وعمق مخبوء (الجد/السرداب) وبالمفهوم السيميولوجي الدال والمدلول، ليكون الصندوق الغامق هو (عامل الربط بينهما) أي الركيزة بتعبير (بيرس)، فالقصيدة لا تصدر عن تجربة انفعالية عاشها الشاعر بذاته،،بقدر ما هي تجربة رؤية وتمثل ،،وما الأم التي تبكي والأب الذي يجلس وحيدا يدخن كلما (تخرج الأسرار من مخابئها وتملأ البيت برائحة الأسرار لتحزن(حتى)عصافير شجرة التوت،،التي تذكر بخطيئة الوجود نفسه والتي تمتد منذ الخلق الاول وما أعقبه من هول الهبوط وقلق الحياة (وبعضكم لبعض عدو) كنت أتمنى على الشاعر ألا يحدد افق قصيدته (بألف عام) ليطلق للقاري افق التأويل ،الا اذا كان يومئ بمن يهدد بفناء الكون ليعيد خلقه كل (ألف عام) فللشاعر تهويماته التي تطير بنا إلى ما وراء الجنون،،فهو برأي اليوت (لا يعبر عن شخصيته، بل يهرب منها) وباشتغاله على فعل الارجاء ينقض اثرا بأثر مغاير بتجلياته وبقوة كشفه ،لتتوهج اشاراته وموحياته بمفارقة خادعة يموه بها متلقي شعره ،،وبأطلاق اسراره (كالفئران/تجوس فيها وتمرح) ليرخي هو خيوط دماه (السندباد، الزير سالم ،علي الزيبق) ليشدنا نحن بدلا منها ،مفاخرا بأنه(جرو مبرقش /بأنواع الضحك) ولكن بحضور الجد بسطوته البطرياركية يفقد (الجرو) عالمه منفصلا عن ذاته منزويا كلما (يعاود حزننا العتيق تجواله بيننا)، فاستحالت العيش بين روحين وجسدين وزمنين وبين (فئران تجوس بها وتمرح) بكل ترميزاتها المروعة يسوغ لها الشاعر ممارسة جنون، يسقطه ظلالا على جدار جده المتصدع الآيل للسقوط يهدد (قدر العائلة) بأبعادها الكونية (بعد أن انفجر صندوق جدي الغامق /وتناثرت أسرار العائلة في كل الدنيا /ونشروا وثائق طفولتي/ وأعلنوا موت أبطالها) صندوق (باندورا) الأسطوري الآن أطلق شروره في فضاء الكون (قمع ووحشيه ودمار ودماء ،،،،،) ولم يبق فيه حتى (الأمل) الذي أودعه (جوبيتر) في قاع الصندوق، والذي لم يستطع رؤيته إلا شاعر أحاله إلى (قصيدة وحيدة) يتوارثها الشعراء:
النص:
صندوق العائلة
كنت أرى الدنيا نهارا دائما
كان كل شئ
يلائم كل شئ
لكن الليل كان ضيقا على قلبي
ويحشرني في زاوية الخوف
وجدي يأتي من مقبرة العائلة
يشق زيق الليل
ينزل إلى السرداب
يضيء سراج جده المنطفئ قبل الف عام
يفتح صندوقه الغامق
يمتليء البيت برائحة ألأسرار
وتحزن عصافير شجرة التوت
وأسرار جدي تخرج من مخابئها
تركض في ارجاء البيت
لم أحب الصناديق الغامقة ابدا
فهي تجعل أمي تبكي
وأبي يجلس وحيدا يدخن
كل مساء حين ينطفيء كل شيء
يعاود حزننا العتيق تجواله بيننا
وأسرار العائلة
كالفئران
تجوس فيها وتمرح
في محمية جدي
كنت كجرو مبرقش
بأنواع الضحك
انط بين اثاث المنزل
صديقي السندباد البحري
والزير سالم
وعلي الزيبق
لم أفهم لماذا…؟؟
لم أفهم كيف للأسرار أن تقفل أبواب الوجوه
لكنني آلآن أعرف جيدا لم أنا هكذا
بعد أن انفجر صندوق جدي الغامق
وتناثرت أسرار العائلة في كل الدنيا
ونشروا وثائق طفولتي
وأعلنو موت
أبطالها
وسمحوا لي بقصيدة وحيدة
وفي نصه “رجل المغياب” يستدرج الشاعر أصداء الآخر فى ذاته ليضاعف إحساسه بالغيرية، يريد الارتقاء إلى وحدته رافضاً “الترحّل نحو الآخر” واذا كان الصوفي يبحث عن (الغائب) رغم إحساسه بحضوره في كل ما حوله فالشاعر ينفي حضوره بغيابه بفعل التوحد الذي يجمع الشئ وعكسه ،،فللشعر “منشأ تكفيريا أو قربانيا” كما تعتقد السوريالية، والشاعر رحيم اختار أن يحمل خلاصه صليبا يرتقي به موضع الجلجثة ليظهر بين لصين وحيدا تتفجر فيه (غيريته) على غير قصديتها القيمية بمعنى (الإيثار) بل بنمط مغاير من الصراع الميتافيزيقي كما فهمها سارتر الذي وجد “أن كل شخص يحاول أن يلغي سواه ويسلبه حريته من خلال تحويله إلى موضوع أو شئ من الأشياء ،،،ومن ثمة فأن علاقات الانسجام والحب والتآلف هي أنماط مستحيلة من العلاقات البشرية ” هذا الإرهاص الذي أدخلنا منه الشاعر الى نصه الشعري الغنائي يعبر فيه عن ذات تعيش اوهاما دونكيشوتية “افكر فيكون الأمر كما أفكر” وهو العائش بين مخالب الواقع وبراثن الآخر المتربص به:
“لو زرت احدكم في حلم مرة
عليه ان يستدير الى الجهة اليمنى
ثم يحمل حلمه بعيدا عني”
ويرى في نفسه الشاهد الغائب الذي اختار فعل التغييب معلنا “أنا الرجل المغياب” وكانه ينوب بنفسه عن الآخر تحت ضغط إحساس يتضاعف بالغيرية لإزاحة أثره ووجوده في تغييب نفسه بنفسه حائرا بين أن يكون “صوفيا يتوق الى الفناء المطلق “في الغياب او شاعرا يتلمس “وجوده الحسي” في (الحضور) “توقفي بين حضور كذوب وغياب مصدق” هذه المعادلة الإبدالية في حالة تجل كاشف لأنواته وهي في تحولات مقلقة تنفي اثرها عبر جحود يتسربل بأوهام ترهص بمجهول يتربص به، يراه في (آخر) يلبس علينا المعنى فللغياب عنده فعل يكتسب مداه العلائقي الثنائي؛ إذ في غياب أحدهما دعوة للاخر:
“يشبهني كثيرون ولكن لا اشبه احدا
أعيش دائما في الفراغات
التي ينسلها الزمن
ما بين عمر وعمر
تسكنني لعنة عمرها ألف عام جوع
ويعتاش دود الكلام على جسدي ”
والشاعر رحيم بدا مهووسا بإقامة طقوس عذاباته يراوغ بها فنائه المحتوم “وأحتفي بسيدي الغياب” ذروة (الهمارتيا) مقترفا خطيئة الشعر والوجود والحلم فهو “الجرح والسكين والضحية والجلاد “كما وصف بودلير نفسه حين شعر بالتصاقه بذاته ،هكذا تتعمق معاناة فردية الشاعر رحيم حين تخلى عن جدله مع الاخر ،وقد داهمه قدره في صراع وجودي مع الضد السلبي متداخلا مع غربة (دعبل الخزاعي):”أفتح عيني حين افتحها على كثير ولكن لا ارى احدا ” تأخذه رياح العزلة بعيدا بعد أن استنشق سمومها التي جبلت وجوده بالاخر ،،ماذا يدور في خواطره وهو محاصر بأشباح تنحل في خوالجه، يجاوز بها ذاته نحو آخر يريد استدراج أصداؤه في ذاته على غير ما يرغب ويريد فهو المسكون في “لعنة عمرها ألف عام جوع ” ومستدركا:
“أغمض عيني
كي لا يراني أحد”
هذا الرهاب المريع يصدر عن متواليات عدمية تصيب الشعراء بالدوار دون غيرهم، ولكن الشاعر يعلن زمن حضوره الذي يراوغ به غيابه “لا أظهر إلا عند الغسق ” يختار من الليل ظلمته مستصرخا حكمة الأساطير “تزين كتفي بومة مينرفا “والعتمة تشي بقوة الشعور لا الرؤية عامدا تجاهل حقيقة ما يرى فهو في زمن أسطوري يحيله إلى غرابة لا تطأها عين؛ يطارد أطيافا في فراغ لا يمكن ملؤه؛ يختزل فيه حضوره في غياب يتمنى تحققه مستعينا بطائر مينرفا: “يا حكمة الأساطير تسللي إلى روحي لحظة” وتأخذه إلى “حكمة البومة الشقية “وبفقدان العدالة يطلب العدم (الغياب) مستهينا بالوجود (الحضور) يجحد نفسه ويؤلب الشر ضده، يقيم حوارا عقيما خائبا مع ذاته عبر الآخر؛ يعاني مشكلة “الوجود للغير” يقف على القفر والقحط يحلم بالقيامة: “متى تستقيم العدالة ” التي يراها في نهر يصعد إلى فوق يتهيأ لإنجاب (المغياب) متى حافظ النهر على نقائه بسلامة العودة إلى أصله؛ إلى نبعه، ولكن حين تتجمع حجب كثيفة تحجب عنه الرؤيا، تعزله ليجد نفسه مثل رامبو القائل: “أعتقد أنني في الجحيم، إذا أنا فيه”.
القصيدة:
المغياب
لو رأيتموني اسير في شارع يوما ما
أو في مقهى أجلس وبين اصبعي سيكارا, واضعا ساقا على ساق
لاتصدقوا ذلك
لو… لوحت لكم من بعيد وابتسمتُ
حاولو تكذيب ألأمر
فهو آمن لكم..
لو زرت احدكم في حلم مرة
عليه أن يستدير الى الجهة اليمنى
ثم يحمل حلمه بعيدا عني
انا الرجل المغياب
يشبهني كثيرون
ولكن لاأشبه احدا
أعيش دائما في الفراغاة
التي ينسلها الزمان
مابين عمر وعمر
تسكنني لعنة عمرها ألف عام جوع
ويعتاش دود الكلام على جسدي
أتشمم رائحة الحرب
أينما تكون
أدخلها
وأشارك الآخرين وليمة دم طازج
ثم أكون في مقدمة الهاربين
أتفيأ بظل قلب واهن
حين يمسني الفرح
وأغمض عيني
كي لا يراني احد
لذلك (أفتح عيني حين افتحهما على كثير ولكن لا أرى أحدا)
وأحتفي بسيدي الغياب
لكنني لا أظهر إلا عند الغسق …تزين كتفي بومة منيرفا
يا حكمة الأساطير
تسللي إلى روحي لحظة
توقفي بين حضور كذوب وغياب مُصدّقْ
منيرفا
ياحكمة البومة الشقية
متى تستقيم العدالة
كبطن نهر صاعد نحو الشمال
هناك حيث تولد الأنهار
هي من يولد رحمها
المغياااااااااااااب
وفى نص “سوناتا الخريف” وهو عنوان فيلم لبرجمان، والسوناتا -بصرف النظر عن بنيتها الشعريه المعقدة -في نص حسين رحيم اقترنت بخريف جردها من سحرها وبريقها، ليلقي بها الى اليبس يجر فيه الشاعر مركبه السكران -بودلير-بمشقة وإذلال في رحلة حتمية الى سيد الفصول (الخريف) مثل كائن من دخان بوصف إليوت: (يتلاشى الدخان المتصاعد من شمعة الزمن ) والشاعر يقف بين الأزلي والعابر يدور به جدل شعري يتحدى به اللانهائية التي يتوق إليها
بعد أن يغادر بستان ربيعه مخلفا وراءه شعره معاتبا له بتعبير ابن عربي (فإنما أنا لك كالمرآة ،وإنما هي نفسك التي تبصرني لا أنا) فهو أبدا يمتح من بئر عذاباته يريد مجاوزة ضعفه وعزلته “لا تقف وحيدا أبدا”هكذا ينصح الخريف الشاعر وهو تحت وطأة العجز، فوحده الشاعر من يشهد نهايته دون غيره ولا يبوح بها لاحد مكابرة حين يشتعل رأس الشعر (بكسر الشين) شيبا، ليقف الشاعر على حافة العدم يتطلع إلى الأبدي الآتي لا محالة وهو يتوارى في خريف مراوغ فاقدا الطريق إلى الحقيقة (الشعر)، هذا التأرجح الممض بين ضدين يدفع به باتجاه الكشف عن (لحظة) يسكن إليها ضد امتداد أبدية الزمن، “قد يهون العمر إلا ساعة،،،،”وتلك مفارقة الرومانسي التائق إلى الأبدية عبر كل الآلام والأحزان التي عصرت شعره لتلقي به صريعا أمام حكمة الخريف بأن “لا تقف وحيدا أبدا “دلالة المقطع صادمة تذكر بالعز لشجرة عجفاء” كمن يستجير من الرمضاء بالنار، هكذا.والفقد، يراوده معها أمل ضعيف “بحث لك عن أي شيء/تستند عليه/ ويستظل بك” ويقترح عليه بفجاجة “جذع فشجرة الشعر تكون فيه “عجفاء” تغيب فيها الأشياء بتداعي جدار المشاعر وقلوب الحب يغمرها الهجران تحت “جدار نصف مهدوم/ قلب امرأة مهاجر”،،،تنتابه بغتة لظة امل في طفرة خاطفة بعينها برى فيها بعض عزاء “ولات حين مناص” فهو امام مرأة خريفه الشائهة يتأمل الآتي من آجاله، يراها صورة لاذعة “شجرة عجفاء” تصيبه برهاب الزوال،،،ولا يزال الشاعر رحيم -في نص آخر له-“لا ينصت إلا لساعة القلب” ليستقبل “من جهات الدنيا الأربع من يحمل له وردة” في خريف قادم”يسرق من الشتاء طلائع البرد القادم /تهرب منه الطيور /تبحث عن ربيع عسير الولادة /قد يأتي وقد لا ” ولكنه يبقى مستجيرا “بالدمع أن يرطب قلبي من يباس غيابك “نص مشبع باللوعة وألم الفراق “عيناك ، اضحك اضحك /وهم يبكون يبكون “ولماذا (وهم) إذا كان يقصد “عيناك” ولكن نقطة الضوء التي يهبها الخريف للشاعر تبدد عتمة شعره ، إذ لم يبق في الوجود إلا “نهر” ولكن سيد الفصول يشترط أن “يعرفك جيدا ” لكي تنزل فيه مرتين (لتبقى) ذات المياه تدور من حولك فالشاعر وحده من يصدق أوهامه في ايقاف الزمن وجريان النهر حتى ولو كان نهر “هيراقليطس” ليتعمد من جديد “مسيحا “جديدا ،،وتبقى الحياة (الشعر) جرح في العدم “بتوصيف الشاعر ريتسوس.
النص:
سوناتا خريف الشاعر
قال الخريف لشاعر ما
لا تقف وحيدا أبدا
ابحث لك عن أي شيء
تستند عليه
ويستظل بك
جذع شجرة عجفاء
جدار نصف مهدوم
قلب امرأة مهاجر
ونهر يعرفك جيدًا
…………………….
* ناقد عراقي