الحياة لا تعطي إشاراتها إلا بعد أن يمشي الزمن بخيلائه وثقل عباءته علي أرواحنا, بعد أن تستقر حبيبات القهوة في القاع, بعد أن يهدأ الغضب, وتسكن الحيرة وتصبح التساؤلات عبثية بلا جدوى!
يرحل شهيد خلف آخر, لكن بعض الراحلين يتركون أثراً عالقاً، خدشاً لا ينمحي, ندباً غائراًـ وجهاً يطفو فوق غيم النسيان يصارع موج الغفلة, حين رأيت الصور الاولي لمصرع “شيماء الصّباغ, كنت أعرف أنها سترقد في قلبي بعد حين، وأنها ستشرخ روحي, أن عينيها ستبقيان معلقتين أمام ناظريّ, لم أرثها, لم أغير صورة حسابي الشخصي لصورتها, لم أكتب عنها, كأن ريحاً تمر سأنحني أمامها، أحاول الهرب والإنكار والاختباء، لكن أعرف جيداً أني حتما سأسقط في براثن هذا الحزن الثقيل متأخراً، بعد أن ترقد حبيبات الحزن واللوم والتساؤلات.
طلقة اخترقت الرأس, أو الظهر، الرئتان أو العنق لا يهم, طلقة صنعها آخر ودفع ثمنها آخرون، وأطلقها آخرون لترقد في بدن الضحيةـ قتلها من قتلها، ودفع بها من دفع، تحوم الأسئلة كغربان، ويبدأ التحقيق الذي لن يفضي إلى شيء, انتهي الأمر, ثم يطرح السؤال “حق شيماء فين؟” لا حق للموتى, لم تخرج شيماء لتموت, خرجت لحياة أضل ولو كان طريقا وعرا خاطئا, حق الموتي هو حياة افضل, فهل هناك من يستطيع إعادة الحياة للموتى!
قتلتها الشرطة أو قتلها الإخوان أو قتلها التزامها الحزبي، لا يهم. هناك حقيقة واحدة، قال القدر كلمته، ستبقي أنه بعد ان ترقد حبيبات الغضب وتذهب الأسئلة العبثية بلا رجعة سيبقي “بيبو” ابنها الصغير يتيماً, مفتقداً لحضنها, ستمر أيام يقولون له “ماما راحت مشوار وزمانها جايه” ثم سيقولون “ماما بطنها بتوجعها ها تعمل عملية وتيجي” وبعد أن يتم تهيئة روحه للصدمة، سيقال له “ماما راحت عند ربنا” ويرفعون سبابتهم نحو السقف، سيكون السقف هو المعادل للمكان الذي تسكن إن فيه أمه, سينظر له لليال طوال حيث هناك “ربنا” الهائل المهول الذي قرر أن يستبقيها عنده سعيدة أمام أنهار من العسل واللبن والشوكولاته والبالونات الملونة، كما سيقال له، لكن بعيدا عنه!
سوف يسال “بيبو” أبيه “إحنا ها نروح إمتي لربنا” فتحبس الجدة دموعها وتقول له: “بعد الشر عليك يا ضنايا”.. فيتيقن ان الذهاب ليس شيئا جميلاً.
سيكف بعد أسابيع من يحاول أن يحصل علي إجابات من “حسابها الشخصي علي الفيسبوك, كيف كانت، كيف فكرت، هل كانت مع هذا الفصيل أو ذاك, هل فكرت، هل حسبت خطاها، لمن كانت تحمل الورد، وما جدوى الورد، سنغضب منها وعليها سننهش كلماتها لنحملها أفكارها ورؤانا، سنغسل أيدينا منها لنلقيها علي زملائها او الشرطة او التنظيم, ستبقي ضحية للاخرين وليس لنا، للواقع الذي نتشارك جميعا في صناعة بؤسه وقسوته , لكن الأكيد ان حاملة الورد حملته في المكان والزمان اللذين لا يحتملان جمال الورد!