حذاء فيلليني

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد شوقي علي

في فيلم "8 ½" لفيدريكو فيلليني؛ كيف يبدو "جويدو"، بطل الفيلم الذي يعمل مخرجاً؟ يلتقط العابرين بعينيه كأنهم أبطال محتملين لنصه السينمائي.

لجأ “جويدو” إلى تلك الحيلة، ليقتنع فيلليني بأن بطله يصنع عملاً لا يعرف قصته، ولكن من الذي يملك الكاميرا فعلياً ويأمرها كي تلتقط العابرين؟ فيلليني أم جويدو؟ ومن منهما الذي يختلق جهله بقصة الفيلم… هل في الأمر اختلاق من الأصل؟

النهج نفسه يسير عليه “مطاع” الذي يرتدي حذاء فيلليني في رواية وحيد الطويلة الأخيرة. طبيب نفسي كان مدعواً ليشارك في مؤتمر أقامته دولته الفاشية، وبينما يسكر مع رفاقه عقب انتهاء الفعاليات، اندمج المدعوون رجالاً ونساءً حتى ترافقوا إلى غرف النوم، ليكتشف “مطاع” في النهاية أن طاولته الذي يجلس عليها فارغة إلا منه. وأن الراحلين جميعهم قد نسوا حقائبهم فوقها، وعندما يضطر إلى فتح تلك الحقائب لمعرفة أصحابها يجد أن كل واحد منهم على حدة كان يكتب تقريراً بوليسياً ضد الآخر.

وهكذا يُجر “مطاع” إلى السجن دون تهمة حقيقية، فيمكث فيه شهرا يواجه خلاله شتى أنواع التعذيب على يد بوليس الدولة، ثم يخرج بعد ذلك فيسوقه القدر إلى أن يكون معالجاً نفسياً لجلاده، حينها يقع فريسة للحيرة بين أداء واجبه كطبيب وبين اقتناص الفرصة والاقتصاص ممن عذبه. ولكن إذا بدت القصة بتلك الاستهلاكية، فأين حيلة “جويدو”؟

إن رواية حذاء فيلليني للمصري وحيد الطويلة، عن تعذيب الأنظمة الفاشية لأفراد شعبها، ولكنها ليست رواية عن طرائق التعذيب الجسدي أو فساد الأنظمة السياسية وجبنها، بل عن شعب يحتمل أن يعذب كله في سجون نظامه، فملَّ انتظار دوره في التعذيب، حتى دفعه ملله/خوفه لخلق جلاده وسجنه لنفسه وبنفسه. فلا يستبعد القارئ أن “مطاع” قد اختلق كل تلك الأحداث لأنه فقط أحب جارته التي فضلت عليه الضابط، أو أنه لم تكن هناك جارة من الأساس وأنه اختلق حادثة الحقائب لصياغة قصته الشخصية عن التعذيب فوضع فيها الجارة ضمن ما أضافه من شخصياته، أو أنه وجد حقائب رفاقه وتقاريرهم لكن مر الأمر بسلام، أو أنه عُذب لكنه لم يقابل جلاده أبداً، أو أنه قابله ثم عالجه وتركه لحال سبيله، أو أنه عذبه أو أنه قتله أو أنه نام مع زوجته إلخ.. فعلى العكس من فيلليني وبطله جويدو، أعطي وحيد الطويلة الفرصة لمطاع كي يختلق أكثر من حيلة لصياغة قصته.

ويشترك في قصة مطاع ست شخصيات بخلافه، هم “مطاع، أبوه، جارتهم، فيدريكو فيلليني، الجلاد، وزوجة الجلاد”، فيما اضطلع بلعب أدوار البطولة فيها كل من مطاع والجلاد وزوجته، وقد استخدم الروائي كل من ضمير المتكلم والمخاطب ليعطي الفرصة للشخصيات الثلاث للتعبير عن قصتهم عبر مونولوجات داخلية اشتبك خلالها الضميرين اللغويين معاً وكأنهما في إطارها العام أصوات متعددة لسارد واحد.

وقد اعتنى وحيد الطويلة في إبراز تقاطع الرواية مع عالم فيدريكو فيلليني، لا بلجوئه الى اقتباس عناوين فصولها من السيرة الذاتية للمخرج الإيطالي، أو بظهوره كشخصية روائية فحسب، وإنما كذلك في إلمامه بتفاصيل عالم فيلليني المميزة ولعل أبرزها ما يتضح في الهيئة التي رسم بها وحيد الطويلة نساء روايته.

لكن أهم ما يلفت النظر في “حذاء فيلليني” أن الطويلة قد اختار سوريا لتكون مسرحاً لأحداث روايته، بيد أنه لم يختر “سوريا الثورة”، وإنما اختار “سوريا ما قبل اندلاع ثورتها”، وجعل زمن الأحداث في تيه بين حافظ الأسد وبشار، فكل الإشارات تحيل إلى الأول فيما توحي الإشارة بمقتل معمر القذافي إلى زمن الأخير، ولعل هذا التضارب الزمني يعضد الفرضية باختلاق مطاع لقصته، الأمر ذاته بالنسبة لغياب المكان عن حضوره في عالم الرواية.

لوحيد الطويلة عادة سردية يختم بها كتبه، بأن يذكر عدد المقاهي التي أنجز فيها نصه، حيث لا يشتغل على أعماله إلا في المقهى، وفي “حذاء فيلليني” تبدو هذه الخاتمة بالغة الدلالة، فبينما يعذب مطاع نفسه في خياله أو يقتل جلاده حقيقة على صفحات الرواية، وبينما يغرق الشعب السوري في البحر أو يموت تحت الأنقاض أو يختنق بالغاز السام، هناك من يجلس في المقهى  ينادي الساقي ليطلب تغيير حجر الشيشة أو كوباً آخر من الشاي أو نرداً ليلعب الطاولة أو يلتقط أنفاسه قبل أن يستكمل بحثه عن شقيقه المفقود في سجون النظام.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم