أحمد عبد الرحيم
ريدلى سكوت مخرج بريطانى يحب بناء عوالم مختلفة، مع اهتمام فائق بالتفاصيل، ومناقشة قضايا مصيرية. ستشهد ذلك بقوة فى فيلمه Alien أو الكائن الغريب (1979) حيث سفينة فضائية، وكوكب غامض، وصراع مع المجهول. وفيلمه Blade Runner أو الجارى على النصل (1982) حيث المدينة المستقبلية، وصراع بين الإنسانى واللاإنسانى. هذه المرة، فى Legend أو أسطورة (1985)، كان عالم القصص الخرافية، وصراع الخير والشر. لكن على خلاف أفلامه السابقة، لن تشهد قوة، بقدر ما ستشهد ضعفًا!
القصة عبارة عن كوكتيل قصص خرافية متنوعة؛ حيث أميرة جميلة يختطفها عفريت شرير يريد نشر الظلام فى العالم، وفتى فقير يحب الأميرة ويحاول إنقاذها، وأقزام طيبون يساعدونه، ورحلة مليئة بالعقبات يصل فيها الفتى إلى الشرير كى يهزمه فى النهاية، لهذا تمت عنونة الفيلم بـ”أسطورة”؛ هكذا على نحو تنكيرى مجرد، لا يربطه بقصة معينة. لا أظن أن هناك عيبًا فى أى من ذلك. التراث هناك فى كتبه، وعلى الفنان أن ينقله، أو يستلهم منه، أو حتى يحطمه، طالما يقدم الجديد أو الممتع. العيب هنا أيها السادة أن الفنان قدم جديدًا غير ممتع!
سأحاول أن ألعب دور قارئ الأفكار، وأعرف ما كانت دوافع سكوت بالضبط؟ حسنًا، إنه أراد إخراج فيلم بقيم عقد السبعينيات؛ حيث الغلبة للمخرج وليست للاستديو، والهدف فنى أكثر من كونه تجاريًا، وهناك معالجة لقصة قديمة لكن بشكل ثورى يكسر المألوف؛ ككثير من أفلام العقد مثل Harold and Maude أو هارولد ومود (1971) عن علاقة عاطفية لكن بين شاب فى العشرين وعجوز فى الثمانين، وBuffalo Bill and the Indians أو بافلو بيل والهنود (1976) حيث بطل قومى فى التاريخ الأمريكى لكن بقراءة جريئة لاذعة، و Bugsy Malone أو باجزى مالون (1976) حيث عالم الجريمة فى أمريكا العشرينيات لكن فى إطار موسيقى من بطولة أطفال! ثم أراد سكوت مزاوجة هذه النوعية بأفلام الفانتازيا التى راجت فى سينما الثمانينيات؛ عبر مغامرات تكتظ بالسحرة والسيوف، مثل Excaliburأو السيف السحرى للملك آرثر (1981)، وThe Dark Crystal أو الجوهرة السوداء (1982)، و The NeverEnding Story أو القصة التى لا تنتهى (1984). وبالتالى كان أسطورة (1985) هو نتاج هذا التزاوج، كقصة خرافية للأطفال، لكن بعناصر سوداوية ورعب وعنف. وهو ما بدا – فى هذا الفيلم – كتزاوج زهرة ناضرة بحصن حربى!
كان غرض سكوت قصة خرافية، لكن ليست أليفة كما عودتنا أفلام سابقة عديدة أشهرها أفلام شركة ديزنى (التى – بالمناسبة – رفضت تمويل هذا الفيلم)، وإنما قصة خرافية عنيفة تميل أكثر لأصول القصص الخرافية فى الأدب الشعبى الأوروبى. لا شك أن هذا مشجِّع كتجربة إبداعية متفردة. ويزداد حماسك مع اتجاه سكوت لتنفيذ المشروع فى موطنه، إنجلترا، داخل استديوهات 007، الشهيرة بتصوير أفلام چيمس بوند، وفوزه بميزانية هائلة – بمقاييس زمنها – قاربت 25 مليون دولار. لكن بينما ينجح الفيلم فى إبداع مذاق مختلف، يفشل فى جعل هذا المختلف مستساغًا أو متسقًا. إن لـ”أسطورة” شخصية مشوشة حقًا؛ فإذا كان مغامرة موجهة للصغار فهو صادم ومخيف ومقزز، وإذا كان دراما موجهة للكبار فهو شاذ، ولا يملك عمقًا يناسب وعيهم، أو يخبرهم بجديد (النور أفضل من الظلام؟!)، مما يجعله كأنه مصنوع لذاته. وعلى الرغم من عناصر فنيّة مبهرة كالغابة التى تم بناؤها بالكامل داخل الاستديو، والإخراج الفنى، وتصميم الماكياچ، والموسيقى الأوركسترالية؛ لا يوجد سحر أو متعة. كل الموجود حس سوداوى جاثم، وقبح عمدى صاخب. ومهما دافع عشاق الفيلم بأنه يحوى خلفيات مذهلة، وصورة ناعمة، ونصف دستة أغانى رومانسية، وأنه تجربة هدفها كسر الإطار التقليدى، وتربية مشاهد طفل غير مُنمَّط؛ أقل تدليلًا واعتيادًا على المذاق المسكَّر، وأكثر شجاعة ووعيًا بغلاظة العالم—سأجيبهم: أعلم ذلك، لكن عذرًا، الفيلم يخلو من أى روح.
هذه إحدى البطولات الأولى للنجم الأمريكى توم كروز، والذى كان يبلغ من العمر وقتها 23 سنة. الاختيار لوجه جديد كان إجباريًا لحاجة الفيلم إلى أبطال غير مكلِّفين، لاسيما بعد إنفاق أغلب الميزانية على الديكور. ويبدو كروز، فى دور فتى الغابة، كأنه ابتسامة فى إعلان معجون أسنان. والحق أنه لا يزال هكذا إلى الآن، بفارق شىء من النضج، وتقويم الأسنان! سألعب دور قارئ الأفكار مجددًا، وأجزم أنه لم يُعجَب بهذا الفيلم، والدليل عدم عودته للتمثيل فى فيلم فانتازى بعدها، طيلة 32 سنة حتى يومنا هذا*. وربما أجزم أيضًا أنه يكره أداءه فيه (هذا إن كان جيّد الذوق!).
لكن كروز لا شىء مقارنة بأيقونة بشاعة الفيلم؛ الممثل السويسرى ديڤيد بينيت. كان سكوت قد أراد الممثل الأمريكى المخضرم ميكى رونى فى دور القزم حارس الغابة، لكنه اكتشف أنه لن يكون مقنعًا كقزم بجوار كروز، لكونه أقصر منه بـ13 سنتيمترًا فحسب. لذلك أعطى الدور لبينت؛ والذى جنى شهرته من ظهوره كطفل مشوّه فى الفيلم الألمانى The Tin Drum أو الطبلة الصفيح (1979)، وكان يعانى ظروفًا صحية معينة، خاصة بتأخر النمو، جعلته يبدو دائمًا فى العاشرة من عمره، رغم مقاربته لسن العشرين وقت تصوير “أسطورة”. لكن المشكلة لم تكن فى بينيت. المشكلة أن فكرة تفتقت فى ذهن سكوت خلاصتها أن يجعل حارس الغابة نغمة فى موسيقى التشويه التى اعتمد عزفها منذ البداية. وعليه، بدلًا من أن يؤدى بينيت الدور كقزم طيب، أداه كأحد شياطين الجحيم. وبين عيون مفزعة دائمة التبريق، وصوت شديد الحدة يجرح الأذن، تحوّلت شخصيته إلى شىء يعتصر القلب رعبًا؛ مع ملاحظة أنى شاهدت الفيلم لأول مرة وأنا فى الثامنة والعشرين من عمرى، وليس فى الثامنة مثلًا!
تيم كيورى فى دور سيد الظلام نال مدحًا من قبل كثيرين لا يتصادف أنى واحد منهم، فالمسرحية الزاعقة غلبت على أدائه، أو غلبته، ناهيك عن أنه كان يؤدى دوره وراء قناع ضخم بدا مُبالَغًا فيه إلى درجة مراهقة أكثر من كونه مخيفًا. رغم أن سكوت حذف ساعة كاملة من فيلمه، مُحوِّلًا إياه إلى ساعة ونصف فقط، فإن الإيقاع لا يزال كسولًا، ومُعذِّب البطء أحيانًا. عدد من الأقنعة المستخدمة كانت بليدة، ومفضوحة كشىء مصنوع. فى واحد من المشاهد الحوارية، يصمِّم سكوت ألا يتركه دون إضفاء الاختلاف على جوِّه، فماذا فعل الماكر؟! أطلق عددًا من فقاقيع الصابون فى الخلفية! ستسأل نفسك، وما صلة الصابون بالمكان أو الحدث؟؟ لكن لا تسأل كثيرًا، إنه سكوت مُحاولًا تقديم “المختلف”! لكن تظل طامة الفيلم الكبرى، وأخبث أمراضه، فى خياله؛ ذلك الذى افتقد إلى الطفولة، وكأنه مُصمَّمًا لعقاب الصغار، والكبار أيضًا. والحق أنه مع فشل الفيلم تجاريًا، حاصدًا 15 مليون دولار من أصل ميزانية 24 مليون دولار، لازلت أتعجب.. كيف حصد هذه الملايين الـ15 أصلًا؟!!
طمح سكوت فى صياغة عالم خيالى ملعون بضياع نهاره، فحقّق عالمًا خياليًا ملعونًا بالجدية الشديدة، والتفاصيل الثقيلة، ليصبح الأمر نموذجًا لأسلوب حديث يعرض قصة قديمة، ويدمرها فى الوقت نفسه. إن أسطورة (1985) هو أسطورة فعلًا، لكن فى التحذلق، والإفراط، وعدم التناغم. إنه ما ستراه سندريلا من هلوسة بعد تعاطى المخدرات، أو ما عاشته ذات الرداء الأحمر لكن محكِى من وجهة نظر الذئب، أو هو فيلم يحمل قصة خرافية لطيفة للأطفال، لكن من إخراج الجنى الشرير!
……………………………….
*نشرت فى موقع Film Reader / الخامس من مايو 2017.
* فى 9 يونيو 2017، ظهر كروز أخيرًا فى فيلمه الفانتازى الثانى The Mummy أو المومياء، إخراج ألكس كيرتزمان، والذى لاقى هجومًا نقديًا كبيرًا – هو وأداء كروز فيه – إلى جانب خسارة مالية، وهو ما أدى إلى إلغاء الشركة المنتجة، يونيفرسال، مشروع الأجزاء التالية له!