ترجمة : سعيد بوخليط
إن حدث إجماع، على نعت جيل دولوز بالفيلسوف، فالتصنيف لايشكل عائقا أمام الاهتمام بنتاجه الأدبي، الذي كرس له مجموعة دراسات تميزت بأصالة حقيقية.هذا،ما يتوخى العمل الحالي مقاربته مع التذكير ثانية، بأن دولوز لا يعتبر فقط التقسيم المألوف بين الفلسفة والأدب متهافتا،بل ومجحفا أيضا بخصوص هذين النموذجين من الكتابة والتأمل، اللذين ينفتحان حول معرفة متكاملة تنصب على الانسان والعالم.بناء عليه، سيظل مفهوم الأدب لدى دولوز، موسوما بفلسفة أساسها التنوع حيث يشكل الصدق في علاقات الإنسان بالآخر والعالم، نواة إنتاجه المتعدد.
الأدب إذن، بالنسبة لدولوز ليس مجرد تكملة لنشاط فلسفي، لكنه يعتبر وجها ثانيا لصيغة من صيغ مقاربة الوضع الإنساني، ذاتية وكونية في الآن نفسه.يتعلق الأمر على هذا المستوى أيضا،بإدراك وظيفة نشاط لغوي نوعي يحمل سلفا خطأ تسمية الأدب وكذا قصدياته الأساسية.
وإن تأكدت جِدَّة مفهوم دولوز للغة سابقا منذ كتابيه ”الاختلاف والتكرار” و”منطق المعنى”،فالأمر يتعلق هنا بإظهار الشروط التي تمكننا من الوصول إلى الأدبية وكيف ستحدد وضعا متميزا في إطار تعددية اللغات الأخرى.لذلك ،تستند كل واحدة من تأملاته للنشاط الأدبي،بطريقة أو أخرى،على وظيفة اللغة الطارئة دائما. يعتبر الأدب عند دولوز، في طوره الكتابي، مفهوما خاصا لإنتاج علامات ووقائع.أمر يبرز بوضوح ضمن هذا الإقرار الذي يبين مقاربة دولوز للنشاط الأدبي :”جل ما كتبته كان حيويا،على الأقل مثلما توخيت، وأسس نظرية للعلامات والواقعة .ولا أعتقد بأن القضية تطرح بطريقة مختلفة في الأدب وكذا الفنون الأخرى، غير أنه لم تتح لي الفرصة كي أمنح الأدب الحياة التي أردتُها له”(1) .
هكذا ينتمي الأدب حسب دولوز، إلى كل استعمال متعمَّد للغة بهدف إنتاج مجموعة علامات ووقائع يحكمها ترابط جوهري يعطي المعنى حيزا.يتعلق الأمر هنا،كما نلاحظ، بمفهوم واسع جدا عن توظيف لغة، تبدو ظاهريا دون إبداع.لكن، حينما نعاينها عن قرب أكثر، فلن نتأخر أبدا كي نفهم بأنها تفترض بداية،أكثر مما تقوله.
فعلا،يبدو سؤالا جوهريا بالنسبة لدولوز، تمكين اللغة المتداولة من الوصول إلى الوضع المزدوج للدلالة والواقعة المنسجمين.هذا ما يعنيه بالحيوية والتي انطلاقا منها لاتخلق اللغة فقط معنى يتجلى عبر انسجام متعدد،لكن أيضا الحياة المرتبة لمختلف الإشارات المستعملة أو المبتكرة.لذلك يظل الأدب، اللغة التي ينشأ من خلال إنتاجها عالم خاص ويكتسب حيوية، مرتكزا بالدرجة الأولى على الخاصية الذاتية الحية لعلاماته.يستعيد دولوز ذلك، مقرا بأن الكتابة تشتغل ضمن سياق رافدها الأدبي : “باعتبارها دائما مقياسا لشيء ثان”(2).
تُكتسب أدبية الأدب عبر هذا النزوع المستمر للغة بسيطة نحو اللاموضوعي. بحيث ترتكز في انطلاقها على اكتشافها لنوع من عدم الاشباع يجبرها على الرحيل صوب مجهول آفاق أخرى.يحدث كل شيء في إطار هذه القضية، كما لو أن الكتابة تبحث عبر الابتذال الفوري للغة، عن مقارنة نفسها بالمجهول قصد تحويله إلى علامات ووقائع تحكمها دلالة متماسكة. إذن، سيكون أدبا، كل لغة تسندها كتابة تتوخى تقريب مالم يتحقق بعد. يتجلى النشاط الأدبي عند دولوز، من خلال توظيف اللغة بغية الوصول إلى شيء آخر، لازال يمثل مجرد وعد دالٍّ أو إمكانية. توجد دائما لغة كهذه، في طور التجلي ولا يمكنها أن تشكل سوى تحديا دائما للذات، وكذا حيال ما تتبارى ضده.هكذا تشتغل،وحسب ذلك، تمثل أدبا،عندما تمنح حضورا لمعنى وعالم لم يتحققا بعد.
ينكشف انتماء اللغة للأدب عند جيل دولوز،حسب هذه الرغبة اللانهائية نحو الترحال التي تحركها باستمرار.يجدر التذكير هنا سريعا،تبقى مفاهيم الترحال والأفق، معلمين أساسيين قياسا إلى مجمل عمله.بالتالي، لايبعث على الانذهال،إن صادفناها ثانية ضمن تأملاته المرتبطة بمقاربة وتقويم العمل الأدبي، حسب رؤيته. ويرتكز هذا حقا على مفهومه الخاص لما هو مكتوب، مادام يذكر قائلا :”أن تكتب لا علاقة له بأن تدل على شيء، بل الترحال،ورسم خرائط لفضاءات مستقبلية”(3). يجدر إثارة الانتباه، أنه ينتقل سريعا جدا، من ضرورة خلق اللغة للتآلف بين العلامات والوقائع، إلى لغة تبدع متواليات جديدة.
لايعتبر الأدب في نظر دولوز، مجرد نشاط ينطوي على معنى مبتذل، لكنه يشكل مسارات غير مسبوقة، بين طيات جوهر اللغة المرن. حينئذ يتجلى انتماء هذه اللغة إلى الأدب، مع الطفرة الحيوية، التي تجعلها حقا ضمن سياق اكتشاف أراضي مجهولة وفضاءات غير متوقعة.
يرتكز الشرط الأول لتحقيق أدبية اللغة، على جعلها تتعالى عن مستواها الأداتي الفوري كي تحدس حقائق جديدة.لذلك، يقتضي منها سياق على هذا النحو، أن تتجاوز سلطتها الأولية المرتبطة بالتعيين وتصير قادرة على الوصول إلى مناطق غائبة لم تُدرج بعد. تعكس قدرتها الإبداعية لأراضي مجهولة،لكنها ممكنة، الوثوب الأول للغة صوب تأسيس أدبيتها الخاصة وكذا الإنتاج الشامل لكل الأدب.
استمر دولوز منتبها لهذا الشرط الإبداعي الذي يجعل اللغة قوة تعيين تنبؤية .هكذا، يبقى الأدب اندفاعا يصبح معه حاضرا ذلك الغياب المميز لواقع مفترض.في هذا الاطار، يتأكد بامتياز مفهوم دولوز من خلال وصله بداية ماهية العمل الأدبي بالطبيعة التنبؤية خاصة للغة. أيضا، في هذا السياق وردت إشارة بين طيات كتابه : منطق المعنى،قد تظهر بلا قيمة لكنها توجه النقاش بكيفية أساسية : “إن اللغة هي نفسها النسخة النهائية التي تجسد كل النسخ،أسمى سيمولاكر” (4) .
إذا كانت لغة من هذا النوع يتأسس عليها جل النشاط الأدبي، فهناك مجال للاعتقاد،بأن اللغة في أفضل الحالات، لن تكون إلا سيمولاكر السيمولاكر. سيمولاكر،يتجاوز بحكم الإصرار الإبداعي والاستشرافي، منطلقه الأصلي كثنائية مستشرفا شكلا من الانفتاح الممكن.هكذا،يشتغل الأدب بحسن نية داخل سياق يتجاوز جوهره اللغوي الخاص،الذي يعتبر أيضا نسخة وسيمولاكر.
إن إلحاحا من هذا القبيل حول الطبيعة الوهمية والمتخيلة حقا للحبكة الأدبية،والتي تستحضرها حمولته التي لاغنى عنها من السيمولاكر اللغوي، تدفع نحو الجزم بمدى تهافت مفهوم مضمون الرسالة حسب دولوز.فماذا سيبقى منها عندما يحدث تقويض قاعدي لمقتضياتها المعتادة من الأخلاق والتعليمات في نطاق عجز اللغة التي تحركها عن التخلص من خاصيتها السيمولاكرية ؟هكذا يصير الأدب اشتغالا على اللغة كسيمولاكر أخير بهدف إبراز وكذا اجتياح فضاءات تعتبر ببساطة ممكنة.
ينصب عمل الأدب على إبداع احتمالات جديدة، انطلاقا من تمدد قصدي للغة لكونها ثنائية وسيمولاكر .اذن، كيف لمفهوم ”الرسالة” التداول في الأدب مع تبلور شروط كهذه؟ بحيث صار بطلانها بديهيا جدا. يقول دولوز : ” اللغة حقيقة للممكن مثلما هو.والذات بمثابة تطوير،وتفسير للممكنات ثم سياقات تحققها في الراهن” (5).
بمعاني أخرى، ينبني الأدب فقط على الممكن الذي يجسد حقيقته الجوهرية. فلا يتأتى أدب سوى انطلاقا من هذا الممكن ويستمد جلّ ماهيته منه. لايتم هذا كي يضعف أهميته لأنه باعتباره تركيبا للممكن، أو بوسعنا القول، يخلق الأدب واقعه الذاتي ويطبعه بكل الروابط الداخلية التي تمنحه حرياته في الاشتغال.وسيكون خطأ الاعتقاد بأن الحقيقة الأدبية مماثلة للتي كرسها الواقعي. فالحقيقة الأدبية، القائمة كليا على اللغة، غير قابلة للانحدار فقط سوى من الممكن.
هكذا يرتبط دولوز بتصور للنشاط الأدبي، دافع عنه سلفا كافكا وبلانشو، ويمثل جانبا من مشروع رولان بارت توضيحا مدهشا له.تنطوي مقاربة دولوز للنشاط الأدبي،على قيمة مضافة مهمة تؤثت عناصرها مجموع عمله، انطلاقا من قناعة مفادها أن الأدب مزيج أصيل للعلامات ومسح لأراضي ممكنة، نتيجة القوة المُرائية للغة،بحيث لا يتردد كي يرى فيها آلة لإنتاجات نوعية.لذلك، يعتبر:” الأدب مثل إنتاج،وتفعيل لآلات تحدث آثارا “(6)
مع توضيح كهذا، يوجه دولوز النقاش بشكل مفيد صوب مقاربة لنشاط أدبي يمثل في الواقع آلة ضخمة لخلق سيمولاكرات، وممكنات وآثار.بالتالي،نجد أنفسنا بعيدين عن مفهوم يكون الأدب بمقتضاه مجالا لرسائل واضحة وكذا تعليمات أخلاقية.صار منذئذ أشبه بآلة،واتضح دوره نسبيا أكثر ضمن إطار يكون مدعوا من خلاله لإنتاج ليس رسائل يسهل تفكيكها وتطبيقها،لكن خاصة آثارا،أي سيمولاكرات بالمعنى الدقيق.بالتالي،ولأن الأدب أضحى وفق هذا السياق لغة أصيلة، فلا ينبغي النظر إليه كجسم منظم ينتج محتويات قابلة للتوقع ،بناء على حتمية صارمة ومقررة سلفا،لكن مثل آلة خالقة لآثار .
حين مقارنة دولوز الأدب بآلة،انتقل فورا للاشتغال على تبيان ألغازه ويعيد له ماهيته الجوهرية باعتباره تقنية ترسم فضاءات تعتبر ببساطة ممكنة.أيضا، بتركيزه على قدرة الأدب المبدعة للآثار، فقد اهتم أساسا بالخيال المبدع الذي يحفزه ويجعله مفتوحا على تناول متحرِّر من جانب المتلقين المفترضين. بمعنى آخر كذلك، بقدر انشغال الفلسفة بملاقاة الحقيقة والتعبير عنها بكيفية جلية، بقدر ما يهتم النشاط الأدبي بكيفية إبداع خريطة ممكنة لواقع يعتبر ببساطة ممكنا .
الأدب بالنسبة لدولوز، قضية إبداع عالم مأمول، ومنفلت كأفق، بحيث لاننشغل معه بالواقع. إنه مسألة إنتاج لغوي مُبتكَرٍ بالمطلق، منشغل كليا بسؤال ”كيف نفعل”؟.
بناء عليه، سيكون من المفيد التركيز، بخصوص مادة الأدب، على الخطوط الموجِّهة لصلة دولوز بالتأويل النفسي الكلاسيكي.بالنسبة إليه، فقد أخطأ الأخير دائما، نتيجة رهانه على حتمية ميكانيكية اختزالية تبحث أولا على استعادة ماتدعيه كونه الحقيقة المضمرة التي تؤسس النشاط الأدبي.
كان دولوز مقتنعا بأن الأدب يتطلع نحو إنتاج آثار وكذا إبداع ممكنات غير مسبوقة، في حين استبسل التحليل النفسي بغاية إعادة صياغة حقائق شخصية مكبوتة لدى الكاتب،بين طيات سرده. لقد تمسك برفضه لهذا التأويل القائم كليا على السعي لإعادة اكتشاف حقائق سيكولوجية مُعَلِّلَة.
يبحث التحليل النفسي، وفق مسار ارتدادي عن استخلاص حقائق مكبوتة اعتُبرت مصدرا للإنتاج الأدبي، بينما يتصور دولوز الأدب نزوعا دائما نحو خلق آثار بين ثنايا الفضاء المنفتح على الممكن الوحيد.إضافة إلى هذا، وبهدف تحديده حقا لقطيعة إبستمولوجية مع الخضوع السيكولوجي، يذكِّر دولوز بالتالي:” ليس الكاتب إنسانا كاتبا،بل إنسان سياسي،وإنسان آلة،وإنسان تجريبي” (7) .
بتأكيد دولوز على الطبيعة الثلاثية لشخصية الكاتب، فإنه يوحي بوضع خاتمة للتوجه المزعج الذي يقضي بحتمية وصل إنتاج هذا الكاتب أو ذاك بجذور بيوغرافية مزعومة أفرط النموذج الفرويدي في توضيح ملامحها.تنتعش مع الإنتاج الأدبي،رغبات فعل حرّ تماما قياسا لكل مقدمات سيكو- وجدانية خاصة بحيث يجسد أولا موضوع خيال واستشراف وكذا محاولة اختبار نماذج لتحقيق ممكنات لم تطرح سلفا ودون مقتضيات قبلية.
مع نماذج كهذه لإنتاج يصبو كليا نحو انفتاح لا ينضب للأفق والممكن، سيظل الكاتب واعيا بأن إبداعاته مجرد آثار لغة تشكل بدورها ثنائية بلا نهاية. ولأن اللغة التي يوظفها، تمثل دون منتهى السيمولاكر الأخير،يسقط كل ادعاء يسعى إلى جعل هذه اللغة تتكلم حقائق أو وقائع بعيدة تماما عن نطاقها.
منذ الوهلة الأولى ضمَّ دولوز شخص الكاتب لتلك الصورة الثلاثية المتعلقة بالسياسي والآلة ثم المجرِّب، ساعيا بذلك إلى تخليصه من كل رأي قبلي مختزِل،وجوهري، وتذكيره كم هو مبدع حققي؟ بدل بقائه مقتصرا على المصير المسطح لإعادة إنتاج ثانية دون قيمة.
القطيعة مع وصايا التحليل النفسي، تقرأ بجلاء عبر التذكيرالتالي: “تشخيصات من هذا الصنف فائدتها طفيفة، ونعلم جيدا بأنه لا يمكن للتحليل النفسي وكذا العمل الفني (أو العمل الأدبي – النظري) تدبير أواصر لقائهما.ليس حتما من خلال معالجته الكاتب عبر العمل،مثل مريض محتمل أو فعليا، حتى لو أضفينا عليه مزية التسامي.ليس بالضرورة إخضاع العمل ل”التحليل النفسي” “(8).
لقد التجأ التأويل السيكولوجي عبثا إلى مفهوم التسامي قصد تخفيفه من الحتمية الصارمة والتي أخضع في إطارها النشاط الأدبي لصراعات نفسية/وجدانية مكبوتة لدى الكاتب، تصور يبقى غير ملائم في نظر دولوز.فبالنسبة إليه، النزوع المستمر نحو تصنيف الأمراض ثم محاولة إسقاط ذلك على مقاربتنا للأدب والفن عامة، لايمنحنا إمكانية تمثلهما مادام يضع الصراعات السيكولوجية القديمة لدى المبدع عند الجذور المفترضة لإبداعه.خطاطة كهذه، ميكانيكية جدا ثم في غاية الاختزال.
بلا شك، الأكثر أصالة لدى دولوز، الانقلاب شبه الكوبيرنيكي الذي كشفت عنه هذه الرؤية،حين تأكيده:”بأن الكُتَّاب، لاسيما الكبار منهم، أكثر اقترابا لحظتها من وضعية طبيب وأبعد عن سمات المرض.أود القول يشخصون بشكل مدهش الأعراض ويبرزونها بطريقة تثير الذهول”(9).
لا يقوم مجال للنظر إلى الكاتب باعتباره عُصابيا وفق هذا المستوى أو ذاك، مادام يشتغل بطريقته، على تشخيص أعراض اختلالات الوظيفة كما تتجلى عند أفراد آخرين أو لدى المجتمع برمته.فحينما يكتب، يشتغل كمحلل نفسي، لكن دون اكتفائه بالامتثال لنموذج تأويلي يحافظ على المعنى ذاته، وإلى حد ما،مختزل جدا تحت سطوة ملاحظة تدور في نطاق الحشو اللغوي.
الكاتب بناء على وجهة نظر جيل دولوز، يعتبر أولا وقبل كل شيء، مكتشفا لاختلالات وظيفية عدة، هنا تكمن عظمته.بالتالي،فالانقلاب الذي أتى به دولوز، حيال المقاربة السيكولوجية واعدة بالأحرى أكثر ومضيئة بحيث تقتضي عموما التفكير ثانية بثقابة ذهنية في جانب أساسي من العمل التأويلي.لذا،يضع إصبعه على قناعة وجب تأملها :”الأطباء النفسانيون الذين يدركون سبيلا نحو تجديد لائحة تصنف الأعراض، يصنعون بذلك لوحة فنية؛ وعلى العكس يعتبر الفنانون أطباء نفسانيين، ليس من خلال حالتهم الخاصة ولا حتى العامة، بل هم أطباء للحضارة” (10).
هكذا، بتقويضه للنظم المُرسَّخة بكسل، أقام دولوز طريقا نحو مفهوم للتطبيق التأويلي، يتصف في الآن ذاته بكونه جامعا وواعدا.أيضا هل يتبادل الطبيب النفساني والفنان منهجيتهما في المقاربة وكذا موضوع بحثهما.بذلك،يشتغلان على إبراز تقنية توضح الحالات الفردية مع رسمهما طريقا تقيم منهجيات عامة.دون أن تستغرقه السجالات المحتملة التي بوسع اقتراح كهذا إثارتها،يبقي دولوز فقط على خط قوة منهجية تحرر في الوقت ذاته المبدع/المؤوِّل وكذا موضوع تأويله.السياق الذي أتاح له إمكانية اقتراح مقاربة للنشاط الأدبي،تخلصت جليا من عوائق تأويلية مختزلة كثيرة.يؤكد دولوز :”إننا لانكتب بذاتنا وذاكرتنا وأمراضنا. يتجلى حسب فعل الكتابة،سعي يود أن يجعل من الحياة شيئا يتجاوز الشخصي، ثم تحرير هذه الحياة من صيغ اعتقالها” (11).
يمر إذن النشاط الأدبي،عبر الحرية المزدوجة للكاتب قياسا لمصيره البيولوجي والنفسي، ولما سينتجه باعتباره إثارة لحيوية دون عوائق(12).من ثمة، يشتغل النشاط الأدبي باستمرار تحت الإشارة المزدوجة للحرية التي يكتسبها الكاتب ثم ،إذا صح القول،انعتاق لما ينبغي التعبير عنه وفق لغة متجنِّدة.
يتعلق الأمر هنا بمقاربة النشاط الأدبي حسب إرادة ثنائية، ترنو إلى تحريره من خلفيات فردية عديدة تثقله عبثا ومحاولة تمثُّله باعتباره نتاجا يتأتى من تحرر كهذا.فالمفهوم الدولوزي للنشاط الأدبي، ضمن نطاق ما، كما سنرى ذلك في موقع آخر، تحرريا تقريبا بحيث يستكشف نفسه أولا كإنتاج وتنظيم لغوي،انعتق من ادعاءات قائمة، ثم يستمر منشغلا كليا بإبداع الحاضر وكذا جانب من المستقبل.
سنقف هنا ثانية، على التأثير الواضح للمجاز النيتشوي المتعلق بالنقد اللاذع، حيث التذكير بالخاصية الجوهرية للرغبة الإبداعية عند الإنسان.لا ينبغي، إذن الاندهاش أن دولوز اقترح بهذا الخصوص وبلا تردد تعريفا تقنيا، تقريبا فنيا، مهووسا بالتحقق المستقبلي.مادام يقول: “الأدب تنسيق ولاعلاقة له بالإيديولوجيا “(13).
حينما نحيط بالقطيعة المزدوجة الحاذقة مع مسار التحليل النفسي وكذا المنظور الإيديولوجي عموما، يكشف سلفا مفهوم دولوز للأدب عن أصالته ويبحث على أن يظهر قيمته.
تكمن إذن غاية الدراسة الحالية في تحديد خطوط قوة هذه الأصالة.لذلك، ستتمحور على الممارسة الأدبية،التي سعى دولوز إلى مقاربتها كنشاط إجرائي نوعي انطلاقا من اللغة المشتركة.
أيضا يستحضر فيلسوفنا السؤال المرعب بخصوص ماعُرف منذئذ بموت المؤلف قبل أن يظهر إلى حد يدافع عن ما يسميه بالأدب القاصر.أدب يمثل كافكا وجهه الرمزي،وقد اشتغل دولوز في هذا الإطار على عمل وأفصح عبر محطات مشروعه عن ملاحظات مقاربا الإشكال النوعي لإنتاج من هذا القبيل.
حتما،لن تغيب عن ذهننا ملاحظة أن العروض التي خصصها دولوز للأدب، ترصِّعها أحيانا تناقضات ظاهرة أو بنيوية.لكن هذا لايبعث على القلق،مادام الأدب بالنسبة إليه كالفلسفة تماما، يجتهد بطريقته للوقوف على تناقضات الوجود واستيعابها.
يرتبك الأدب بشكل أقل، حين تبنيه المنطق وكذا التماس الحقيقة التي تجتهد الفلسفة من أجل احترامها مع الحيرة والإخفاقات التي نعرف.يشتغل الأدب كالحياة تماما،على ملاقاة التناقضات و التعارضات الأنطولوجية، لكن وفق هدوء يستاء منه النزوع الفلسفي.لذلك بالتأكيد،وارتباطا بوجهة نظره لمقاربة فرادة تعدد النشاط الأدبي، استلهم دولوز هذه العبارة الجميلة لرولان بارت عندما قال :”أنا لست متناقضا،أنا فقط متبعثر”.
…..
هوامش :
*مرجع المقالة :
Mohamed Boughali :la littérature selon Gilles Deleuze ;Université Cadi Ayyad ;1997.pp :5- 21.
1-Magazine Littéraire numéro 257 ,1988,page20.
2-Mille Plateaux ; Page11.
3-Mille Plateaux ;Page11.
4-Logique du sens ; page329.
5- Logique du sens ; page357.
6-Proust et les Signes ,page, 200.
7-Kafka page15.
8-Logique du sens, page276.
9- Logique du sens, page276.
10- Logique du sens ,page 276.277 .
11-Magazine Littéraire ,numéro 257 .page 20 .
12-يضيف للتوضيح أكثر :”ليس اللاوعي بمسرح،بل يعتبر مصنعا، وآلة منتجة”.نفس المرجع السابق ص 21 .
13-Mille Plateaux,page10.