جنتلمان في موسكو…أو صراعات التأقلم!

جنتلمان-في-موسكو
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسر وهابي

شيء لا يمكن أن يغفره لنفسه أي قارئ ولوع بالكتب، هو التأخر في قراءة عمل أدبي كان أو فكري، اشتراه عن حب ورغبة، ورتبه بعناية وشغف في رفوف مكتبته. وهذا أمر تكرر معي عدة مرات، لكن ما العمل فالحياة قصيرة، والأعمال الرائعة النابضة بالحياة كثيرة. “جنتلمان في موسكو” أحد تلك الأعمال اقنيتها منذ عام مضى ولم تصحب خلوتي إلا في الأيام القليلة الماضية.

رواية أثارت الجدل بمجرد صدورها، تصدرت قوائم المبيعات، رشحها أكثر من مؤثر “influencer” أبرزهم بيل جيتس، وترجمت لمعظم اللغات.

“آمور تاولز” كاتب أمريكي المولد، أمريكي التربية والثقافة، لكن من خلال عمله الأدبي هذا يكاد القارئ يقسم على أنه تربى وترعرع داخل روسيا. ربما ذلك راجع لعمق معرفته بالتاريخ والأدب والفن والسياسة فيها.

الفترة الزمنية للرواية ممتدة من السنوات الأخيرة للعصر القيصري الأوتوقراطي، استبد فيه القيصر محاطا بحاشيته من الطبقة البورجوازية، المهيمنة على الوظائف الرفيعة والرتب العسكرية السامية، مرورا بعام 1917 والذي تزامن مع اندلاع الثورة البولشفية، إلى سنة 1922 -الذي تبتدئ فيها أحداث الرواية الشيقة- وقيام الاتحاد السوفياتي.

البطل هو الكونت روستوف حامل وسام “القديس أندروز”، عضو في نادي الفروسية، ومستشار الصيد لدى الإمبراطور، رجل أرستقراطي من طبقة النبلاء، يعيش حياته كما تعيشها شخوص تولستوي الأرستقراطية في كل من ملحمة “الحرب والسلم” ورائعة “آنا كارنينا”، في صالونات السهرات والحياة المخملية.

الكونت تجسيد لما تحمله كلمة “جنتلمان” من معنى، ولما يتحلى به حامل هذه الصفة من أخلاق الفرسان، ودماثة الطبع، وخفة الدم ، ودقة الملاحظة.

ومن البديهي أن كل شيء يتغير ولا شيء يبقى على حاله، فكيف لرجل متشبع بالحرية وذو ثقافة فنية وتاريخية موسوعية مكتسبة من قراءاته النهمة، وارتداده على المجالس والصالونات الأدبية، العيش بعد أن حكم عليه بالإقامة الجبرية داخل غرفة لا تتعدى مساحتها التسعة أمتار بفندق المتروبول، ليمضي بقية حياته فيها. وذلك بعد خضوعه لمحاكمة من طرف لجنة ثورية لا لشيء إلا لكونه أرستقراطي الأصل، ولم يبد أثناء تلك المحاكمة أي ندم أو شعور بالعار من ذلك. فما يصنع، فالإنسان لا حرية له في اختيار نسبه ومنبته، فهل فعل الولادة يحكم مصير الواحد منا إلى الأبد؟ هنا ركز الكاتب على القطيعة التاريخية والسياسية بين المرحلتين القيصرية والبلشفية، مبرزا ما ترتب عليها من ظلم وجور، في حق النخبة الأرستقراطية، واضطرار كثير منهم إلى الهروب والهجرة إلى الدول والعواصم الأوروبية الأخرى خوفا من البطش والنفي وجور الأحكام. فجاء على لسان أحد شخصيات الرواية: “إن كان المنفى عقابا أنزله الرب في الفصل الأول من الكوميديا الإنسانية…فالمنفى قدم قدم الإنسان لكن الروس كانوا أول من يبدع في فكرة نفي الإنسان داخل وطنه”. والقصد واضح “سيبيريا” التي كانت مآلا لكل معارض للنظام الجديد.

تجري أحداث الرواية (المفردة في 585 صفحة) داخل فندق المتروبول الفخم، ومع مرور الأحداث ستكتشف أن هذا الفندق ما هو إلا نافذة الكونت التي يطل منها على العالم الخارجي، وهو مقر أيضا للاجتماعات التي يعقدها أعضاء الحزب الحاكم داخل “البويراسكي” (مطعم الفندق) لمناقشة سياسات الحزب المستقبلية، من تغيير لأسماء الشوارع، وإحداث للبنايات العمودية “الصناديق” للرفاق، واستبدال تمثال الشاعر الكبير بوشكين الذي عاصر القيصرية بتمثال مكسيم غوركي الأديب وأحد الداعين لثورة العمال.

إيمان وصبر الكونت كانا ملاذيه الوحيدين في محنته. وشكلت صحبته لآنا ونينا وصوفيا وإيميل – الذين سيعيش معهم القارئ كل فصول الرواية-  فرصة لتخفيف وطأة الكآبة والرتابة والخمول، وخلق جو من الحركية.

فيما يخص الترجمة، قدم النص بترجمة متقنة، سلسة، واضحة، مع حواشي لشرح بعض الكلمات أو إعطاء نبذة عن بعض الأشخاص التاريخية أو الأماكن.

هذا العمل يستلزم التركيز التام عند قراءته، لتداخل التواريخ والأحداث، هو جنة لكل مولع للإبداع الروائي والموسيقي لغناه بترشيحات واقتراحات لأعمال أدبية عملاقة لغوغول وتولستوي ودوستويفسكي وغيرهم، و مقطوعات موسيقية لتشايكوفسكي وشوبان وآخرين .

 مما يحاول “آمور تاولز” إيصاله للقارئ أنه كلما أحكمنا قبضتنا على شيء ما، كلما انزلق هذا الشيء من بين أيدينا أكثر فأكثر.

مقالات من نفس القسم