جنة اللاطمأنينة وجحيمها

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قبل سنوات ليست بالبعيدة جداً كنت أسمع بأذني وأرى بعيني ما يقوله ويكتبه العابرون عن سيناء , عن دهشتهم أمام المناظر الخلابة التي تخطف الروح وتغسل الحضور الإنساني , الصحراء التي هي صحراء , البحر , السماء التي هي سماء , لم أكن أتحفظ على تلك الدهشة , هي حق طبيعي للهاربين من عجلة المدنية الطاحنة التي تدهس بلا رحمة  إلى لحظة صفاء تسرقهم من لهاثهم , فقط كنت أسأل نفسي دون صوت : ماذا إذن لو لمسوا بأجنحة أرواحهم المياه الجوفية للمكان بتعبير صاحب ورد النيل ومالك الليل الحزين ؟ ,  هل كانت نظرتهم ستظل هكذا مستسلمة لذلك السطح الهادئ الناعم ؟ , أم  سريعاً ما ستتكشف لأقدامهم خرائط لحقول ألغام لا تبدأ كي تنتهي , ولكن كي تستمر من شرم الشيخ إلى سعسع ! .

الذين يعيشون هنا تتجاوز علاقتهم بالمكان من الدهشة إلى المصير , هو مصيرهم , مربع وجودهم  , و هم أسماكه التي لا تحتمل مغادرة الماء , لكنهم يعرفون تلك الخرائط عن ظهر قلب ,  يعرفون أين ينبغي للقدم أن تحاذر , و أين للقلب أن يحترس ,  أن تعيش في سيناء  وتصير هي جزء منك وأنت جزء منها لا يعني أن تلبس الزي التقليدي وتضع ” العقدة والمرير ” فوق رأسك  مثلما يفعل بعضهم وهو يتجهم للكاميرا أو يشد بأريحية على يد مسئول , ثمة شروط أخرى أهمها أن تعرف خرائط اللاطمأنينة التي هي  الجنة لمن يعرفها والجحيم لمن  يجهلها .

بحذر يتحرك الكائن هنا , ثمة حجارة لا حصر لها جاهزة كي تصبح حجارة عثرة , هي نفسها ستصبح جسراً لتعبر فوقه بشرط أن تعي وتفهم وأهم من ذلك تحترس ,  الواقع هنا معقد , سيقول لك البعض , القبلية و العادات والتقاليد سيقول اّخرون , التشدد الديني سيقول غيرهم عن المتغير الجديد , جميعهم على حق ولكن هل هذا كل شيء ؟؟ بالطبع لا .

في مصر سيناء ليست مكاناً استثنائياً  تعيش فيه الثقافة الصحراوية العربية بعاداتها وتقاليدها التي تبدو  للأغيار صارمة وطاردة , في مطروح والواحات والبحر الأحمر وعلى حدود السودان , بل حتى في أرياف مصر في الفيوم والبحيرة ومناطق أخرى تعيش  نفس الثقافة , فما الذي يميز سيناء إذن ؟؟ , إنه قلق الجسور , قلق البوابات التي تصفعها الريح على الدوام , لا تفتح ولا تنغلق , في حركة تاريخية دائبة , هي حالة اللاطمأنينة التي تتلبس المكان ويعرفها أهلها كما يعرفون أسماء أبنائهم  ,  سيقول لك بعضهم لكن 1973 كانت اّخر الحروب وقد مضي علىها ما يقرب من أربعين عاماً !! ,  نعم هي اّخر الحروب  ومضي عليها أربعين عاماً لكنها لم تنته بعد , هذا الغليان الذي يتواصل كل يوم  هو حصة أساسية من حصص اللاطمأنينة وثيقة الصلة .

أن تعيش في سيناء  فهذا يعني أنك إبن هذه اللاطمأنينة , إبن القلق , إبن التوجس , إبن الخطوة المسكونة بحذر  صحراوي يعرف أن عادة الرياح هي أن تأتي بما لا تشتهي السفن  ,  إذا كنت تنتمي لهذا المكان بصلة الولادة فإنك سترث هذا في جيناتك , لن تبذل مجهوداً يذكر لتتآلف وتعرف وتفهم وتصبح تلك اللاطمأنينة جنتك , أما إذا شاءت الصدفة وساقتك الظروف فعليكَ أن تبذل مجهوداً ليس باليسير على مثلك أن يتكبده , قد تفلح فقط لو أنصت , لم تتعجل , لم تتحرك بالقدم الواثق المغمض العينين , شفرة روحك عليها أن تظل هكذا  مشحوذة , وشيئاً فشيئاً ستقترب من اللاطمأنينة لتأخذ من عنقها سلسلة المفاتيح دون أن تتذمر.

على هذا الحال يعيش أبناء المكان , ماذا إذن لو أضافت الحياة عليك عبئاً إضافياً وأصابت روحك عدوى الكتابة ؟؟ ,  منذ سنوات بعيدة أتم صديقي روايته الفاتنة , أذكر قضينا العديد والعديد من الليالي وبالحماس نفسه نتحاور حول الزمن الروائي , حول شخصيات  الرواية , حول التفاصيل وتفاصيل التفاصيل ,حتي اكتملت ليحدثني عن ما لم يكن مفاجئاً لي , قراره بعدم النشر , إنها اللاطمأنينة  في أحد وجوهها المتجهمة ,  قلت كمحاولة أعرف أنها مجرد ضمادة لجرح قديم لا يمكن تجميله : ماذا لو نشرتها في الخارج بإسم مستعار ؟؟ , لم يرد  , أنا الاّخر  اكتفيت بتلك الجملة التي  لم يتعد دافعها أن يكون محاولة للسلوان .

وحده المجاز /خِباء المعنى يفعل ما عليه , يستر روحك ويقيها شرور اللاطمأنينة , هل لهذا السبب يتزايد عدد الشعراء هنا في سيناء ويتراجع عدد من يقفون على أعتاب أشكال أخرى من الكتابة يتراجع فيها المجاز لتنكشف الروح وتتعرى  ؟؟ ,  ربما , لكن ما أنا على يقين منه  هو أن اللاطمأنينة في حالتنا هذه عدوانية بشكل لا يقارن. 

 

*(من كتاب سيصدر عن سيناء قريباً في الكتب خان )

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم