جنازة سنّ لبني

موقع الكتابة الثقافي art 63
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شيخ محمود العفدل

طلبت الجدّة المُسِنّة أن تتسلّم الضرس الّلبني المنزوع للتو من فم حفيدها ذي السنوات العشر

وبينما كنتُ منشغلا في تضميد الجرح وتعقيمه، كانت تلفُّ الضرس بقطعة من الشاش ثم تعقدُ عليه بطرف شالها.

نحن أطباء الأسنان نعلمُ أنّ الجنين يُخلقُ بعشرين برعما لبنياً واثنين وثلاثين برعما دائما، تتموضعُ بالتساوي بين عظمي الفك السفلي والعلوي بتناسق مذهل تنتظر موعد ظهورها إلى الوسط الفموي وفق مواعيد محدّدة، ونعلمُ أيضا العوامل البيئية والغذائيه والوراثية والخلقية الّتي تؤثر على شكل وبنية وعدد وموعد بزوغ الأسنان.

يبدو هذا غير مهم بالنسبة للجدة الّتي ترى أنّ رمي الأسنان اللبنية المتساقطة يجب أن يحدث وفق طقوس خاصة. أخبرتني ذلك وهي ترسمُ ابتسامة خجولة وكأنّها  تتوقع أن أسخرَ من اعتقادها هذا الّذي عادَ بي أربعين سنة خَلَتْ، حينها كنتُ طفلا ألعبُ بين حقول الحنطة الممتدة في تلك القرية الصغيرة ذات البيوت الطينية الواطئة والمفتوحة دائما للشمس والهواء والضيوف، كان نهر الفرات يتلوّى حول قريتنا، كعاشق يضم حبيبته بين ذراعيه، أمّا أنا فكنتُ أجلسُ قبيل كلّ غروب على ضفة النهر، أراقب الشمس وهي تفرغُ حمولتها في مياه النهر ثم أشهد ُ ولادتها من جديد من خلف تلك التلّة  المغطاة بأشجار الغَرَبْ والزيزفون…

وحين تدسُّ الشمس نفسها خلف التلّة الغربية، أذهبُ لأدسَّ نفسي في حضن أمّي فأشمُّ رائحة كنتُ أظُنّها رائحة الجنّة.

سقط أحد أسناني اللبنية ذات مرّة، فعلّمتني أمّي كيف يجب عليَّ أن أمسكه وأقف مقابل الشمس وأناديها:

ياشميسه ياضحيّة (ياشمس الضحى)

مدّي حبالك عليَّ

أعطيكِ من سنيناتي الكبار (أسناني)

وتعطيني من سنانك الزغار (أسنانك الصغيرة)

ثمّ أرمي السنّ باتجاه الشمس، وهكذا نضمن بزوغ سنٍّ جديد في نفس الفراغ الّذي تركه سلفه

وبينما يبدو كلّ هذا ساذجاً، تريدُ الجدة أن يمارس حفيدها ذات الطقوس، وأمام إصرارها على ذلك رحتُ أبحث عمّا يبرّره.

تُرى هل تعلمُ الجدة ومن قبلها أمّي أنّ البابليين والمصريين والصينيين وحتى العرب كانوا يعبدون الشمس ويعدّونها مصدر العطاء والوهب والخلق، يقدّسوها ويقدّمون لها الأضحيات والهدايا أم كلّ الذي تدريه أن تقيم جنازة للسنّ اللبني  في حضرة الشمس.

………………….

*كاتب من الرقة، سوريا

 

مقالات من نفس القسم