خالد النجار
قراءة من وحي كتاب أمي موزة الصادر عن دار الآداب
ثمة أشياء تقرأها في السرد العربي الحديث وتسأل نفسك هل أنا أمام كاتب ناضج أم أمام طفل نرجسي لا يشبع من التطلع إلى صورته في مرآة ذاته. كاتب يكتب لإرضاء ذاك الأنا الطفلي النرجسي العطشان الذي لن يحس مطلقا بالارتواء لأن ثمة ثقب في أعماقه يتسرب منه كل المديح والاطراء، ويظل متعطشا لمزيد من المدح والاطراء. هو على صورة الحكام العرب وتعطشهم الدائم للمديح.
كانت تنظم لبورقيبة حفلات مديح طويلة لا تنتهي، طبعا بإيعاز منه يسمونها في لغة البروباغندا عكاظيات (نسبة لسوق عكاظ في العصر الجاهلي حيث كانت تتلى الأشعار) كانت تقام هذه العكاظيات كل سنة في أعياد ميلاد بورقيبة وتستمر كامل شهر أغسطس حيث يجتمع الشعراء العرب من جميع الأصقاع والبلدان لقراءة قصائد عصماء في مديحه؛ قصائد بالعربي الفصيح وباللهجة الشعبية التونسية وتنشر فيما بعد في شكل دواوين أنطولوجيات تسمى هي أيضا عكاظيات… يذكر الكاتب الليبي محمد مصطفى المصراتي أنه حضر صدفة إحدى هذه العكاظيات. كان يشار ك في مؤتمر الأدباء العرب في تونس. وجاؤوا فجأة إلى المؤتمر وحملوا الوفود إلى القصر؛ ورأى بورقيبة يهتز فوق كرسيه لذكر اسمه ويقول لمادحه أعد، أعد هذا البيت… رجل الحداثة الشيزوفريني المتشبه في الآن بالنخبة الفرنسية وبهارون الرشيد…
هكذا هم غالبية الكتاب العرب شبيهون بزعمائهم …
كاتب يحب أمه حبا طفوليا مترعا، كاتب مسكون بتأليهها idéalisation والنظر إليها ككائن مثالي غير عادي (أمهاتنا لسن كباقي البشر ” تقول الكاتبة الإماراتية فاطمة محمد الهديدي الدرمكي. وتكتب هنادي الصلح «أمي ليست كباقي الأمهات». هو عادة كاتب طفل نرجسي ليس لديه غضب ليس لديه ما يقوله سوى إعادة إنتاج السائد لأنه تمت برمجته ثقافيا مبكرا، وظل أسير تلك البرمجة. وهو بالتالي وباختصار كاتب ظل يعيش ما قبل الصراع الاوديبي، وليس لديه بالنتيجة أي حس درامي في حياته بما أنه ما يزال يعيش في تناغم وهارمونيا مع أمه. وهو أيضا بالنتيجة كاتب بلا رؤية نقدية لأنه متصالح عبر الأم مع مجتمعه، بل متناغم مع هذا المجتمع، ومع كل ما يزخر به من امراض تحت السطح فالعلاقة الطفلية بالأم المثالية هي نفس العلاقة بالمجتمع وبالأمة وكثيرا ما يشبه الوطن بالأم…
لأن الأم هي الوسيط بين الطفل والمجتمع بثقافته وقيمه وهي الملقن لهذه الثقافة ولتلك القيم فالبقاء في أسر الأم هو بقاء أيضا في أسر الثقافة… البقاء كما ذكرت في تناغم مع المجتمع…
هو كاتب نرجسي كما هم الأطفال في تلك المرحلة. هو طفل لم يقطع الحبل السري بالمعنى السيكولوجي؛ طفل مشدود إلى الأم حتى لو عتيا أو أرذل العمر كما تقول العرب…
تقول أسماء صديق المطوع محررة الكتاب وبالعبارة الواضحة:
«هناك حبل سري غير مرئي ما زال يشدّنا إليها (تعني يشدنا إلى الأم)
وقد أصابت وهي على خطأ وهي بهذا الإعلان تؤكد أنها لم تبلغ الفطام النفسي…
هو كاتب ابن أمه، كاتب مستمر في العيش داخل جنة الطفولة السعيدة لم يدرك البلوغ النفسي ومرحلة الصراع مع الأبوين وكما ذكرت مع المجتمع؛ ذاك الصراع المؤذن ببزوغ الذات الفردية وتشكل الهوية الذاتية التي هي تغاير مع المجتمع وتحرر منه وبالتالي إدراك ووعي دراما الحياة. والنزوع النقدي
كاتب ظل طفلا مشدودا وبشكل مرضي إلى طفولته إلى الحقبة ما قبل الأوديبية أي ما قبل الصراع يعني أننا في هذا الكتاب أمام أطفال متخفين في أجساد كبار. تقول المحررة أسماء المطوع مؤكدة هذا الموقف النفسي:
« كلّ منا ما زال مرتبطاً بحب جنينيّ بأمه.
واستمرار هذا الارتباط المرضي، الباثولوجي بالأم وبالطفولة يختلف عن ذاك الاستحضار الشاعري من حين لأخر للطفولة الذي يميز المبدعين من شعراء وكتاب وفنانين بوجه عام. وإنما نحن أمام كتاب عاجزين عن العود إلى الطفولة بما أنهم لم يغادروها أبدا؛ وهم بالتالي مستمرون في العيش في المرحلة ما قبل الأوديبية وكل نشاطهم النفسي متركز على إرضاء الأم وعلى تلبية انتظاراتها وليس التعبير عن الذات…
ستون كاتبا عربيا تحدثوا كالأطفال أعادوا انتاج صورة الأم كما هي في المخيال الشعبي…
صلاح فضل، والكاتب محمد منسي قنديل، طالب الرفاعي، منى مكرم عبيد، علوية صبح والروائية لينا هويّان الحسن من سوريا، عبد الملك مرتاض كل شهادات هؤلاء الكتاب تمجيد متفاقم للأم هنا بعض النماذج. تكتب محررة الكتاب:
« كلّ منا ما زال مرتبطاً بحب جنينيّ بأمه وهناك حبل سري غير مرئي ما زال يشدّنا إليها هذا الحبل نراه في طبيعة أعمالنا التي نحاول في أعماقنا أن تكون موجهة بشكل صائب من أجل إرضائها
هذه بعض النماذج والمرعب أن هؤلاء الكتاب قد كانوا صادقين في كل ما قالوا عن أمهاتهم…
طفل/طفلة كهذا عاجز عن بناء علاقة حب سوية مع أي امرأة فهو أسير مدى الحياة لهذه العلاقة بالأم بل تراه يبحث لدى النساء عن أمه. اسير تلك المرحلة التي لم يغادرها مطلقا والتي تمنعه من العبور إلى النضج تمنعه من معاناة طقس العبور وle rituel de passage وما فيه من مكابدة وألم وانتهاء بإدراك البلوغ
هو ما زال طفلا متوحشا بريئا في توحشه نرجسيا متمركزا على ذاته ومستمرا في الاعتقاد أنه قوي لا حد لقوته. يعيش لإشباع متطلبات رغباته. من ملامحه أنه لا يحتمل المعاكسة. وهو دائما على صواب.
ولأنه متركز على ذاته فهو في الواقع لا يحب أمه وإنما يحب حبها له…
ولا أريد أن أمضي إلى النتائج القصوى الأوديبية الجنسية فهذا من اختصاص المحللين النفسيين والثقافة العربية ترفض التحليل النفسي على مستوى الخطاب… رغم امتلاء المدن العربية بالعيادات النفسية…
في حوار مع المستشرق الأميركي ياروسلاف ستيتكوفيتش وقد اشتغل على طقس العبور لدى تفكيكه للقصيدة الجاهلية قال كثيرا ما يستحضر الشاعر العربي أمه في لحظات القلق القصوى وقدم مثالا بشعر أحمد عبد المعطي حجازي…
الأمثلة كثيرة. شاعر مثل محمد الماغوط مثال المثقف الهامشي، اللامنتمي، الخارج عن التقاليد والأعراف، والمنتمي لهواء الرصيف؛ الشاعر الرمبوي يكتب بلا مواربة مشبها زوجته بأمه ما يعني أن نموذجه ومثاله الأساسي في الحب هي أمه وهو ما يسميه كارل غوستاف يونغ الأرشي تيب architype النموذج الأصلي أو النمط الأصلي:
«كانت سنية أمي ومرضعتي وحبي ومرضي، وكان رأيها أساسياً فيما أكتب، فإذا كتبت شيئاً وترددت أمامه ولو للحظة كنت أمزقه وأعيد كتابته من جديد.. أما إذا قالت (حلو) فكنت أحس باطمئنان كبير، إنها قارئتي الأولى ومعلمتي الأولى في الشعر وفي الحياة…
وهكذا يتجلى أن ثورة محمد الماغوط هي ادعاء لغوي لا علاقة له بممارساته، لم يكن رمبوي فرامبو خاض تجربة الصراع والتحرر من ربقة الأم والمجتمع. الماغوط كان في السبعينات رئيس تحرير مجلة الشرطة. أي أن سرديته في مكان وحياته في مكان آخر … وهذا ليس تقييما لشعره الجميل.
تذكرت بورقيبة كان في حوالي الخامسة والستين من العمر عندما سألته صحفية فرنسية عن طفولته…
جلس على الارض كما كانت تفعل أمه وقد اشرقت عيناه بالدمع وبدأ يقلد حركات أمه وهي تدير الرحى الحجرية ويتحدث عنها وعن عذاباتها بكثير من الوله والحرقة وتأنيب الضمير …
لحظتها عرفت كيف نبت ذاك الدكتاتور الصغير الذي يحب أمه وعندما بنى ضريحه نقل جثماني أمه وأبيه من المقبرة العامة حتى يكونا إلى جواره بعد موته فهو لا يحتمل اليتم مرتين في الحياة وفي الممات…
كان ماركيز أول روائي انتبه إلى العلاقة الخاصة بالأم التي تشكل نفسية الدكتاتور كما يقول.
الطفل الابدي…
وهذا ما جعل المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي يختزل القضية في جملة بقوله العربي طفل أبدي عاجز عن بناء علاقة حب سوية (L’arabe est un éternel enfant et jamais amant)
محمد الماغوط يقول عن سنية هي أمه…
نزار قباني يريد من المرأة التي يحبها أن تكون أمه…
هو باحث أبدي عن أمه، لأن صورة الحب الأولى وتجربة الحب الأولى عاشها مع أمه وهي المستمرة في أعماقه، توقف نموه العاطفي والوجداني في تلك الحقبة… فتراه يظل يبحث عن أمه من خلال تعدد العلاقات. نزار قباني اختزل الأمر كتب في الصفحة 152 من كتاب قصتي مع الشعر
«مطالبي من المرأة التي أريد أن تكون حبيبتي أولها أن تكون تشبهني وثانيها أن تكون أمي…
يعني الرجل خارج التجربة العشقية هو يريد دمية ذات مواصفات محددة…
هذا يؤكد وجود تلك الإعاقة العاطفية التي تمنع قيام علاقة حب حقيقية كما يقول الخطيبي في الجملة الشهيرة مبنية على العطاء، فالطفل لا يعرف سوى الأخذ.
أمه ذاك الكائن الكامل الشبيه بالملاك كما يصوره غالب المشاركين في هذا الكتاب وهو التمثل الطفلي للآم؛ ولأن أمه ملاك فهو من المستحيل في مستقبل أيامه أن يلتقي بملاك آخر على وجه الأرض. وكل امرأة سيرتبط بها لاحقا لن تكون بالتالي سوى كائن ناقص مصدر ازعاج دائم خاصة وأنها لن تسوي له اطباقا لذيذة مثل تلك الأطباق التي كانت تعدها له أمه. وأنت كثيرا ما تلتقي برجال في سن الرشد ظاهريا يقول لك الواحد منهم تزوجت وطلقت بسرعة وعندما تسأله عن سبب الانفصال يقول لك لم تكن زوجتي تحب أمي… أجل، هذا الرجل استثنائي بما أنه مركز عالم أمه وإذا ما كبر صار مركز العالم بأسره…
أمه هي أيضا جرحه وأناه الأنثوي الآخر المخفي وإذا ما أراد أن يشتم أي كان وصفه بابن فلانة……….
وهو اذ يقسم فقسمه بأمه وكذلك تفعل الأم اذ تقسمن بابنها، وفي تلك اللحظة عليك أن تتأكد أنها لا تكذب، فهذا القسم خطير.
ولهذا الموقف عدة أسباب وعوامل منها ما هو عام أي الطفل الملك كما هو معروف أن الأبناء ضحية الآباء، اذ لا يوجد رجل وامرأة مثاليين وهما بالتالي يرسخان شعوريا ولا شعوريا أخطاءهما ومشاكلهما وعقدهما في وعي الطفل ذاك الوعي البكر الذي يتقبل أي شيء يوحى به إليه ذاك الوعي الذي يشبه بالعجينة تسويها كما تريد فليس للطفل ملكة نقدية تمكنه من أخذ شيء وترك الآخر.
ولأن المرأة العربية وفي كثير من الأوساط الشعبية الفقيرة والجاهلة تعيش نوعا من الغبن والمعاناة فهي تقوم كامل الوقت ببث شجونها وآلامها لأبنائها مما يرسخ لديهم احساسا عميقا بالذنب وكثيرا ما تسمع الواحدة من الأمهات تقول لأبنائها أنا ضحيت بحياتي من أجلكم، مما يقوي لديهم الإحساس بالدين، هي طريقتها في الابتزاز العاطفي. وهي حيلتها الواعية أو اللاواعية لامتلاك أطفالها، وشدهم إليها، مما يمنعهم من الذهاب نحو نوع من الاستقلال النفسي والذهني وهذا من بين الأسباب التي تفرمل وتعطل الملكة الابداعية لدى الفرد اذ يظل الواحد منا أسيرا للتمثلات والصور التي تلقاها في الطفولة بما أنه ثبت نفسيا في تلك المرحلة.
اذ لا ابداع بدون حرية وبدون موقف نقدي من المجتمع إن هذا الارتباط شبه المرضي بالأم يتولد عنه عجز عن الدخول في علاقة مواجهة معها وبالتالي مع المجتمع هكذا نقرأ أدبا وأفكارا تعيد انتاج الفكر السائد والعام وإذا ما أراد هذا الكاتب الابداع تراه يسقط في البلاغة الخاوية
أيضا من العوامل الأخرى المسببة لهذه العلاقة شبه المرضية بالأبناء استحالة قيام علاقات عاطفية سليمة بين الرجل والمرأة أو ما يسميه الخطيبي غياب LE COUPLE العلاقة الاثنينية العميقة…
(العلاقة التي ليست علاقة الزواج التقليدي حيث ينخرط كل طرف في برنامج معد سابقا) غياب LE COUPLE كتصور وكتجربة بين الزوجين. هذه الاستحالة ناتجة عن الحذر العريق من الرجل والشك المزمن بين الرجال والنساء على حد سواء. وبسبب هذا الوجل بين الجنسين ترى المرأة المتزوجة وهي في سن النضج تتجه لدى أخذ قراراتها الكبرى إلى أمها موضع أسرارها وليس إلى الزوج. وكذلك الزوج قبل القيام بعملية التحويل من أمه إلى زوجته التي تصير أمه الثانية…
هذا الانفصال الروحي العميق عن الزوج يدفع الأم لأن تتجه للأبناء كمصدر حب تعويضي آمن وهي بهذا تخلق صورة مثالية للعلاقة الحبية لدى الأبناء صورة يستحيل عليهم الظفر بها في واقع الحياة فيما بعد.
إذن علاقة الحب الوحيدة التي تطمئن لها المرأة هي تلك العلاقة مع أمها ثم مع أبنائها وخاصة البنات وهي ويا للمفارقة تنمي لدى الابن ذاك الحس الذكوري المتفاقم التي كانت هي نفسها ضحيته فترى الأم في كثير من الأحيان اذ تدفع طفلها إلى القيام بأمر لا يرغبه ويكون ذلك في غالب الأحيان الأكل تراها تحثه وهي تخاطب ابن الثلاث والأربع سنوات قائلة: ولدي رجل، أنت ذكر…
هكذا تنمي لديه مبكرا صورة الرجولة التي ستكون زوجته ضحيتها في مستقبل الأيام كما تقول إيتل عدنان في رواية الست ماري روز.
وصورة القسم لدى هذه الأم يكون بالله وبالنبي وبابنها مما يقوي لديه الاحساس بالنرجسية فهو في مقام المقدس…
يقول عالم النفس والمحلل المصري مصطفى صفوان :
طبعا،المكانة التي تعطيها الأمهات جميعا للطفل هي جلالة الملك… والخروج من هذه المكانة ليس عملية سهلة. فهذا المركز الذي أعطتك إياه الأم يجعل تبعيتك مضاعفة: تبعيتك للأم، وتبعيتك لتصورها عنك، إذ إنك في رأيها فوق الجميع…
هذه العلاقة المرضية مع الأبناء في المجتمع العربي تنمي لديهم حس الاتكالية وقد أفاض هشام شرابي في تفكيك هذه العلاقة في كتابه مقدمات لدراسة المجتمع العربي.
أخيرا، لم يقل لنا هذا الكتاب شيئا عن عالم الكاتب الحميمي عن الدراما التي عاشها كما هو أمر كل انسان مع أمه؛ ولكنها ظلت مغيبة عن وعيه. ولكن، وبالمقابل كشف الكثير عن جمهورية الأطفال المتوحشين التي نعيش داخلها بما أنها الملمح العام لنخبنا الثقافية والسياسية
كنت أنتظر أن اقرأ نصوصا فاحصة لهذه العلاقة الخطيرة بالأم نصوصا فيها كشف عن خبراتهم ومعاناتهم وجروحهم ومواجهاتهم للأم التي قد تتحول إلى غول متسلط. أن يكشفوا عن وسائلهم للتحرر من هذه العلاقة المرضية مع الأم اذ لا توجد أم مثالية سوى في اللغة الطفلية كما لا توجد علاقة حب مطلق ليس لها وجه آخر سوى في عقول الأطفال ومن ثبت نفسيا في هذه المرحلة، لأن الحب هو أيضا وإن كان ينتمي للمطلق فهو يعيش في التاريخ وهي مفارقته كما يقول كارل يسبر في كتابه مدخل إلى الفلسفة…
وددت لو قرأت نصوصا وسرديات فيها صراخ مؤلم تع رض دراما هذه العلاقة مما ينير وعي القارئ ولكن على النقيض من ذلك كان هناك غياب مطلق لهذه الدراما المتجددة في كل جيل، وكل ما قيل كان خطابا غنائيا…
نحن إزاء كتاب يعيشون الحب المطلق مع أمهاتهم في جنان الخلد وليس في التاريخ حيث الدراما، حيث السلب والنقصان والنسبي…
لعل الأمر يدخل في حيز المحرم والمسكوت عنه تلك العقد النائمة في عقلنا السرّي لأننا لا نريد أن نرج عالمنا المتناغم، ونخاف أن نحرك تلك البحيرة الزرقاء الجميلة العفنة القاع فنفقد اطمئناننا وننخرط وإلى الأبد في التجربة؛ وندخل حقبة مروعة من القلق الذي يدفع لتكشف الذات الذي عالجه ادوارد سعيد في نصه الجميل التمنع والتجنب والتعرف…
يقول هنري ميللر في كتاب اعترافات في الثمانين
الأم الجيدة التي تسخر من أبنائها نادرة في حياة الكتاب…
عندما يقول لي كاتب إنه متدله بأمه مثل جوزيف دالتاي الذي كتبت له :
سأخيب ظنك فأنا مستمر في كراهية أمي
وأظن أنه أجابني بكلام من قبيل هذا لا يستغرب منك
وأجابني كذلك بشيء مهم جدا مثل:
إذا لم يحب الانسان أمه لا يستطيع أن يكون مواطنا صالحا…
ويكتب الفرنسي سيمينون مخاطبا أمه: ها قد مضى على وفاتك وأنت في سن الواحدة والتسعين ثلاث سنوات ونصف السنة ربما الآن فقط بدأت في التعرف عليك … حتى سن الثامنة عشرة ظللت بالنسبة لي شخصا غريبا…
ويكتب الروائي الفرنسي المثير للجدل رومان غاري:
… كانت تقول لي ستصير كذا وكذا … ولا أعتقد أبدا أن طفلا مقت أمه في تلك اللحظة أكثر مني.
وكذلك الأمر مع بروست وكثيرين…
الأمر لدينا يختلف يقول مصطفى صفوان:
طبعاالمكانة التي تعطيها الأمهات جميعا للطفل هي جلالة الملك. والخروج من هذه المكانة الذي ليس عملية سهلة. فهذا المركز الذي أعطتك إياه الأم يجعل تبعيتك مضاعفة: تبعيتك للأم، وتبعيتك لتصورها عنك إذ أنك في رأيها فوق الجميع…
ويسأل المحاور: في هذه الحال على الانسان أن يتحرر من التبعيتين كي يبني شخصيته؟
صفوان : بالتأكيد. لكن المهم بحسب لاكان Lacan أن النرجسية ليست مرحلة بيولوجية بل هي لحظة جدلية مع الآخر تبدأ بالأم. بعد ذلك يحتاج الإنسان إلى ما يبعده بالتدريج من نظرة الأم الأولى هذه…
ويواصل مصطفى صفوان
… ثمة ظروف تسهل خروج الطفل من المحل الأول ( أي مغادرته موضع جلالة الملك) الذي تخصه به الأم وتجعل من الصعب عليه أن يخرج من نرجسيته…
وهذا لن يتم داخل مجتمعاتنا والأم لن تساعد الابن على الانفصال عنها. هو مصدر وركيزة وجودها. هكذا تناديه يا روحي…
***
أخيرا الأمر ليس دعوة لكراهية الأم بل دعوة إلى محبتها بذاك الشكل الذي يمارسه الرجل الناضج. هي دعوة لبناء علاقة حب ناضجة تخلص الانسان من الاحساس بالذنب وبالدين وبالاتكال ليمضي نحو الآفاق كذات حرة مبدعة…
دعوة إلى استبدال حذاء الكبار بحذاء الطفولة حتى لا يظل موجعا كامل أيام حياته…
…………………….
*كاتب وشاعر تونسي