جمعٌ على جسدِ حي

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سامح الهواري

 كنت أقف ثابتًا وجسدي مائل للأمام، ويستند قفصي الصدري على الحاجز الحديدي، وجهي في وضعه المعهود، وبه كالعادة عينان، وحدث أن وجِد أمامهما ميدان التحرير، يمر الهواء علي محركًا أطراف التي شيرت فتتخبط بجسدي، ويتكون أمامي مجال للرؤية، يزحف به ظلام على مهل، وتمر السيارات بسلاسة، وتتطاير شعور المارة فتتحرك تجاهها مقلاتا عيني، شيء ما يهبط على كتفي، له أرجل صغيرة ويصدر عنه صوصوة، أشك أنه عصفور، وأخاف أن أحرك رأسي للنظر تجاهه، ويتولد في قلبي قلق، أشعر بسن صلب يمر على رقبتي، ينقرها بخفة، يشد الشعيرات القليلة منها، تتوالى الضربات وتزداد حدتها، ينجح ما أتخيله منقارًا في اختراق سطح اللحم، أتخيل الدم الآن متطايرًا، تتناثر النقاط أعلى كتفي، تلوث لون التي شيرت الأبيض السماوي.

يسري ألمٌ غامض في مكان ما داخلي، ويهبط طائر آخر على كتفي الأيسر، وآخر أعلى رأسي، أتذكر حلم قديم حيث مخي مكشوف تأكل الطير منه، يمر طفل من أمامي، بعجلة لها ذيل حصان، ورأسه مثلث قاعدته سفلية، يحمل أمامه كلبا يدعوه فرج، يا فرج، الحق التمثال عنيه بتتحرك وبينزل منه دم.

ينبح الكلب تجاهي، وتنقرني الطيور، أشعر بالحديد أسفل كفي ناعم وبارد، أحاول التركيز على شعور النعومة والانفصال عن أي شيء آخر، أذني يزداد طنينها، ويمر أمامي، من مكان بعيد، وجه شبه أعرفه، وتنتاب حلقي غصة يهتز لها صدري، هاربًا، أسرح بمقلتي عيني تجاه الشعور المتطايرة، ولكني أنتبه لغمامة شفافة تلتف حول مجال الرؤية، ولصوت الطفل ينادي كلبه مجددًا، يا فرج، دا شكله تمثال عفريت، دا بيتهز وبيعيط.

وتهبط من السماء دجاجة أمهات بلا ريش، تسقط بالقرب من وجهي، تصطدم بالسور الحديدي أمامي ومن ثم تسقط على الأرض، تركض في مجال رؤيتي بقدم يسرى معطوبة، تدور حول السيارات المسرعة، ويركض فرج خلفها نابحًا، ويأتي صوت صاخب من الخلف، غالبا من داخل الجامعة الأمريكية، تخت شرقي ينشّز لدقائق، ويركب عليه صوت المرحومة شفيقة، بصوت عجوز وشبه حي، أشعر بتلاعب موجات الريح به، أنا مش راح أنسى الحب لسة الحب باقي، وكل يوم بيمر بيزيد إشتياقي.

تقفز الدجاجة كنطاط الحيط في وسط الطريق، من أمام سيارة لأخرى، والكلب خلفها لا يمل المطاردة والصراخ، يتتبعها لمنتصف الميدان وما بعده، وخلفهما الطفل بعجلته ووجهه المثلث، خارجين وعائدين من مجال الرؤية، في تنويعات من الابتعاد والقرب، تتراكم السيارات في محيطهم، تندمج في حركة أبدية من الضغط والتنافر والاستقرار المؤقت، ويسير الدم أمامي خطيًا، يجذب مزيد من الطير فوقه، عصافير ويمام وأبوقردان بألوان تتنوع بين الأصفر والأبيض والبرتقالي، واستقرت الشمس على نصف غروب لا تتحرك عنه، يهجم على الصورة جمع من السيدات العجائز، بملابس الإحرام البيضاء، يعبرون كل الشوارع في كل أنحاء الميدان الظاهرة لي، ويعلو صوت شفيقة خلفي متضاعفًا على ذاته، أنا قلبي طيب، أنا قلبي طيب، أنا قلبي طيب، أنا أنا أنا أنا.

ألم غامض ينمو داخلي، سرب من مادة بدائية يرحل عني ويتركني بلا محتوى، عظم ولحم يغلفا شبه فراغ، أردد بيني وبين نفسي، في الجناين، تحت الشجر، بألحان متنوعة، وتزداد الغمامة حول عيني، تختلط داخلها الرؤية كاختلاط الألوان على لوحة، تهب موجة ريح عاتية تسحب من عيني مياههها، تسقط على أنفي ووجنتي، ويصطدم الريح بالطير فيختل توازنه أعلى كتفي ورأسي، أحدهم يصطدم برقبتي فأشعر بريشه أملس ناعم، أرجوه في سري أن يبقى هكذا، بينما تتشبث أرجل الطير على رأسي بشعري، تسحبه معها في موجات الريح حتى تصل لنقطة اتزان قوى، تنظر لي سيدات الإحرام بابتسامة حنون، وعيون تمتلئ بالخفة، إلا واحدة، تشبه جدتي المتوفية في حركتها، تنظر لي من خلال نظارتها الضخمة، وإيقاع مشيها البطيء، وتصرخ في، تعرف لو مكلتش يابن الكلب، انا هوديك عند أبوك، لو هتقعد هنا لازمن تاكل وتتجدعن.

لا يريد فوج الحجاج أن ينتهي، يتعطل على أطرافه أسراب السيارات، تعلو صافراتهم بالتدريج اعتراضًا، يمر الوقت ويزداد الصفير حدة وكثافة، تقف أمامي سيارة بيجو سبعة راكب قديمة ومهترئة، صفيرها أكثر الأصوات إزعاجًا، يغطي على صوت شفيقة القادم من الخلف، وتظهر في الأفق فجأة الدجاجة العارية، تصطدم بشدة في زجاج السيارة، تتحطم لقطع صغيرة، تتفكك لعناصرها الأولية، للحم وعظم ودم، ويهبط خلفها الكلب فرج، يصطدم وجهه بنفس الحفرة، فيخرج حيًا وعلى وجهه علامات الحادثة، مغطى بالدم وتنغرس العظام فيه، ينكتم نباحه تمامًا وتنكشف أسنانه تجاهي، وعينيه المنغرس فيهم قطع العظام، ويسقط السائل الأحمر على وجهه الأحمر كما الدمع، كأوديب وقد استحال لحيوان، ويخرج منه صوت شرس، ويخرج من الطفل صوت شرس، ويخرج من السيارة ستة أطفال لا تظهر وجوههم، ومهر صغير، وتسعة حمامات طائرة، وعربة بحمار يقودها قزم، يتجمعون حولي ويقضون حاجتهم الطبيعية، تتصاعد الروائح أعلى أنفي، ويتغير اللحن القادم من الخلف، يعزف لحن أعرفه، مغطى في أعماق ذاكرتي، أتعرف عليه تماما لما تخرج الكلمات

يا حجة يا حجة

يا أم شال سماوي

رايحة أزور النبي محمد

وأرجع عالجناوي

يا وابور السفر

ما متوجف شوية

خلي أبويا الغالي حبيبي

يسلم عليا

رايحة فين يا حجة

يا شجة البحوري

رايحة أزور النبي محمد

وأنا أزمزم شعوري

 

مقالات من نفس القسم

عبد القادر القادري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

نظرات