جمالية التصوير وفتنة الأشياء في “رسائل حب إلى زهرة الأرطانسيا” لأحمد لوغليمي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هل يمكن للشذرة أن تكون تصويرية الطابع؟ وكيف تتمكن الشذرة من تصوير فتنة الأشياء وبهائها؟ وهل تتيح بلاغة الشذرة للمبدع أن يعبر عن ذاته من خلال تفاعله مع الأشياء المحيطة به؟

 

هذه أسئلة فرضها تأملنا في نصوص ديوان "رسائل حب إلى زهرة الأرطانسيا" للمبدع والمترجم المغربي أحمد لوغليمي، وهي أسئلة ستكون مدخلا لقراءة نصوصه الشذرية المكثفة، قصد ضبط جمالية تصويرها، ومدى تمكنها من الإمساك ببهاء الأشياء التي تصورها، ومدى قدرتها على بلورة رؤية الشاعر إلى العالم وإلى ذاته.

يقول أحمد لوغليمي في نص “غواية“:

وحده

أخضر العشب

يستدرج فراشة” (ص.11)

يقف الشاعر في هذا النص الشذري عند غواية الطبيعة، إنها غواية تكون ضحيتها (إن أعددنا من يقع عليه الفعل ضحية، وإن كانت الغواية لعبة مشاركة وتفاعل) الفراشة، وبطلها العشب الغاوي. ولكنه ليس أي عشب، وإنما هو العشب الأخضر الزاهي، عشب فتي قادر على ممارسة الفتنة وإغواء الآخر. بهذه الصورة المستمدة من تدبر الطبيعة يتمكن الشاعر من اقتناص شذرته، ومن الإمساك بفتنة المشهد. وبهذه الشاكلة يصنع النص الشذري فتنته الإبداعية الخاصة، وهو يشكل متخيله، ويفتح للمتلقي آفاق المتعة والتأويل. ومما لا شك فيه أن الفراشة، هنا ليست هي الفراشة بمعناها الحقيقي، وأن العشب الأخضر ليس العشب بمعناه الحقيقي. إننا أمام صورة مجازية بطلها فتى زاه نشيط طري العود، وفتاة رشيقة، جميلة، فاتنة، غاوية ومغوية. هكذا تكون الشذرة حمالة أوجه عديدة للقراءة والتأويل، غير أن أهم ما فيها قدرتها على الإمساك بفتنة ما تصوره ودقة هذا التصوير الفني.  

وفي نص “سخاء 1″، يقول الشاعر:

تتسلق حتى نافذتي

وتضع عنقودا

دالية البستان” (ص.18)

ينتقل أحمد لوغليمي إلى مشهد آخر من مشاهد الطبيعة ليرصد فتنة الأشياء، وليشكل صورته الشذرية المتميزة. إننا أمام لحظة عشق أخرى تربط بين الدالية وصاحبها. إنها لم تشأ أن تضع عنقود عنبها المشتهى بعيدا عن نافذته، وهي بذلك تعلن عن حبها لمن أولاها العناية والاهتمام. هكذا نجد الشاعر يصور علاقة عناصر الطبيعة بالإنسان انطلاقا من نكهة رومانسية، لكنها تجد نسبا لها في شعر الهايكو الياباني الذي احتفى كثيرا بالطبيعة، وبعلاقة الإنسان الروحية بها، وعلاقتها الروحية به. ولعل ديوان أحمد لوغليمي أحد أهم الأعمال الإبداعية التي انشغلت بهذا البعد ومنحته أهمية في الكتابة الشذرية. وتكمن فتنة تصوير الأشياء في هذه الصورة المكثفة في هذا الإحساس بالحنو والمحبة اللذين تشيعهما الصورة وتبعث بهما أريجا يمنحها نكهة إنسانية راقية.

وفي نص “تذكير” نجد صورة أخرى لا تقل جمالا عن الصورة السابقة، يقول منطوق الشذرة:

            “مارا قرب شجرة الخوخ

            ناسيا إياها،

            ترشقني بزهرة.” (ص.60(

هكذا من عشقها وهواها تُذكر شجرة الخوخ صاحبها الذي نسيها، بتذكار جميل، إنها ترميه بزهرة من زهرها، فهي لم ترمه بأحد أغصانها، أو بورقة منها، وإنما كانت رسالتها رسالة محبة، رسالة بواسطة شيء فاتن ودال: زهرة خوخ مزهرة وجميلة. هكذا تتشكل الشذرة من صورة مشهدية تقتنص بهاء اللحظة وفتنتها. وبهذه الشاكلة يصنع النص متخيله الشعري الشذري عبر لغة تقطر حنوا ومحبة، تشي بارتباط الذات الشاعرة بالأشياء من حولها وتفاعلها الإيجابي معها. وهذا مستوى راق في مدارج علاقة الإنسان بالوجود من حوله ترجمتها الشذرة في إيقاع فني دال قوامه التكثيف واللمحة الدالة.

وفي نص “سذاجة” نجد الشاعر يصور لحظة عشق أخرى بين عنصرين من عناصر الطبيعة، هما النار والأشجار. وهل كل علاقة في الكون إلا نوعا من الحب والهوى؟، يقول الشاعر أحمد لوغليمي:

لهب،

يدعي أنه عاشق،

فتصدقه الأشجار ! ” (ص.29(

وهل تملك الأشجار غير تصديق اللهب المتأجج أمامها؟ وهل لها من مهرب بعيدا عن امتداد يد العاشق إليها ليدمرها بحبه الكبير؟ وهل الأشجار فعلا ساذجة؟ أم أنها مثالا للطيبة والعطاء اللامحدودين؟

مما لا شك فيه أن هذه الشذرة تدعونا إلى تأمل عميق في معنى الحياة ومعنى الوجود من خلال تدبر هذه الصورة. وهي صورة فنية تتخذ من فتنة الأشياء، ومن توحد الطبيعة، وعشقها الصوفي منطلقا لتشكيل متخيل فاتن، يأخذ عناصره من تأمل الحياة والوجود للتعبير عن رؤى الشاعر الذاتية، وعن مكنون متخيله الشذري الذي يصنعه بشكل متميز لا ينسج على منوال جاهز، وإنما يتخذ الابتكار والتجديد أساسا لكتابته الشذرية الفريدة.

وفي نص “الهندباء“:

من قال لك أن تكون هفهافة،

ثم تلاعبي الريح،

أيتها الهندباء؟” (ص. 37(

هكذا يشكل الشاعر أحمد لوغليمي شذرته من تصوير نبتة الهندباء الهفهافة، وهي تلاعب الريح، إلى حد الانكسار والانثناء اللذين يثيران الرائي. وبهذه الصورة الشذرية يرصد الشاعر العلاقة المميزة بين الريح والهندباء، وهي ولا شك علاقة هوى وعشق وفتنة وافتتان بين النبتة والريح. وهذا الافتتان والذوبان شكلا بؤرة التصوير الشذري في هذا النص الدال. وهذا التصوير كان يضع نصب عينيه الإمساك بجمال اللحظة وجلالها.

وفي نص “سرقة” نجد علاقة هوى من مستوى آخر بين الريح والفراشة، هذه المرة، يقول الشاعر:

هبة ريح،

تسرق من زهرة

فراشة” (ص.23(

إننا أمام صورة شعرية شذرية تتحدث عن ارتكاب الريح فعلا “شائنا”، إذ تسرق من الزهرة حبيبتها الفراشة لتستأثر بها من شدة عشقها وهواها. وهكذا نجد الصورة تضفي على كائنات الطبيعة أفعالا وسلوكات إنسانية. وبهذه الكيفية يشكل الشاعر رؤيته إلى واقع الإنسان من خلال تأمل الطبيعة، واقتناص صور دالة من صورها، وهي صور تكتنز قدرا جليا من الطزاجة والابتكار، وتتمكن من تجسيد فتنة تأمل الأشياء، وبهاء تدبر صور شذرية محكمة العناصر، دقيقة المعاني، رمزية الأبعاد.

وفي نص “ذاكرة”، يقول أحمد لوغليمي مصورا بعدا آخر من أبعاد العشق والهوى يتمثل في معرفة سيرة المعشوق ودقائق حياته:

إسمع

المجرى يحفظ سيرة الساقية،

عن ظهر حصى” (ص.41(

إن مجرى الساقية يحفظ سيرتها ويعرف منطلقها ومنتهاها. إنها صورة أخرى تنطلق من تأمل فتنة الأشياء وعلاقاتها الخفية، لتقول إن العالم نسغه الشغف بالآخر ومحبته، وأن مدار الوجود هو المحبة، ولهذا كانت “رسالة حب إلى زهرة الأرطانسيا” رسالة حب لأشياء الوجود التي جسدت حبا صوفيا صوره الشاعر عبر الشذرة بفنية متميزة، وبجمالية أدبية راقية.

وارتباطا بالطبيعة، وبتأمل عناصرها، ومن زاوية تشكيل متخيل النص الشذري في سياق تدبر فتنة الأشياء، في علاقتها فيما بينها، أو في ضوء علاقتها بالإنسان عامة، وبالذات الشاعرة خاصة، يصور الشاعر جوانب من ذاته، ومن لحظاته الحياتية. يقول في نص “الخريف”، مخاطبا هذا الفصل السنوي:

أيها الخريف،

 إذا استطعت حاول أن تأخذ

أزهار حلمي” (ص.17(

هكذا يتحدى الشاعر الخريف طالبا منه أن يعمل على أخذ أزهار حلمه. وهيهات أن تذبل أزهار الحلم مهما هبت عليها رياح الخريف. إن الشاعر يصور إصراره على العطاء والاستمرار في الحلم والإبداع عبر هذه الصورة التي تنطلق من الربط بين الزمن (الخريف) والطبيعة (الأزهار) لتشكل رؤيتها إلى ذاتها، ولتفصح عن مكنون ذاتها عن طريق تأمل أشياء الكون وعناصره. وبهذا التأمل الشذري يتمكن الشاعر من اقتناص صورة فريدة، ودالة.

وعلى نفس المنوال، وتأكيدا للدلالة السابقة، يقول أحمد لوغليمي في نص “نداوة“:

            “صباح ربيعي رطب،

            أفكاري أيضا مثل الأزهار،

            ندية.” (ص. 65(

إن الصورة الشذرية تركز على فصل آخر هو فصل الربيع، وتحدد اللحظة بدقة، إنها صباح رطب ندي، وتجعل بؤرة التصوير أكثر دقة وتحديدا: إنها أفكار الشاعر الطازجة الندية، مثل الأزهار التي سقاها الطل وجعلها رطبة عبقة فواحة. بهذه الكيفية يضفر الشاعر صورته استنادا إلى تأمله لحظة زمنية متميزة في الطبيعة، ومن خلال ربطها بأشياء في الطبيعة (الأزهار-الندى) ليجسد رؤيته إلى الكتابة والإبداع، وإلى الانتشاء بلحظة انبثاق الأفكار الجديدة الندية. وبهذه الشاكلة شكلت الصورة متخيلها الفني من خلال تأمل الأشياء والإمساك بلحظة لا تخلو من إيحاء بهي ومن إشارات فاتنة.

انطلاقا من كل ما سبق يمكن القول إن الكتابة الشذرية عند أحمد لوغليمي كان مدارها التصوير الفني المتقن، وهو يقتنص فتنة الأشياء، ويتأمل الطبيعة، والكون، والذات تأملا شعريا شذريا. وفي هذا التصوير نلمس نفحة صوفية، تجد لها نسبا في التصوف، وفي شعر الهايكو الياباني الذي يعلن الشاعر عن تأثره به، من خلال العتبات التي تصدرت ديوانه، ومن خلال النصوص التي يعمل على ترجمتها، ونشرها بين الفينة والأخرى، وإلى هذا وجب التنويه. وبهذا نكون قد وقفنا عند سمات هامة من سمات الكتابة الشذرية لدى أحمد لوغليمي، وعند مشرب عذب من مشارب الكتابة الشذرية التي نهل منها بعض كتاب هذا النمط من الكتابة الشعرية المغربية.

…………….

 

          - أحمد لوغليمي، رسائل حب إلى زهرة الأرطانسيا، منشورات “الغاوون”، بيروت، 2010.

 

مقالات من نفس القسم