جماليات الفضيحة

جماليات الفضيحة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

لم يكن الأمر متوقعا .. كان كل شيء في حالته الطبيعية هذا المساء .. صديقي الذي يتكلم كثيرا ويضحك قليلا وينظر لما حوله كأنما يشفط العالم بعينيه الضيقتين المتحفزتين بعداء وراء زجاج النظارة السميك .. المقهى .. المشروبات اليومية .. صخب الزبائن الدائمين وموضوعاتهم المتكررة .. لكنني فوجئت بصديقي يطلب مني بعدما غادرنا المقهى في ساعتنا المتأخرة المعتادة أن أتوجه معه إلى الحديقة العامة ...

ـ عايز أتكلم معاك ...

 صديقي الذي ظل صامتا ولم يرغب في التكلم حتى دخلنا الحديقة وجلسنا على إحدى كنباتها وسط السكون الليلي والأضواء الخافتة .. لم أستغرب من نفسي حينما تملكني ذلك الشعور فجأة : الامتنان للحياة مدعوما بلذة الحصول على انتصار مباغت .. بعد نهار عادي جدا وفي آخر ليل لم يكن أقل عادية ووسط السكون والأضواء الخافتة لحديقة عامة بدأ صديقي يحدثني بألم مخنوق عن رجال زوجته الحاليين .. لم أستغرب من نفسي حينما قررت على الفور الاحتفاء بهدية القدر التي لم تربكني بالدرجة التي تفسد فرحي بها وتعطل مهارتي في استغلالها لكسب انتصارات أخرى .. الموهبة التي أدرك جيدا أنها لا تنقصني وأنها جاهزة دوما لاصطياد المواقف الملائمة لتتويجي إلها .. قررت استخدام خبرتي الكبيرة في إذابة السخرية داخل جرعة التعاطف المنطقية في لحظة كهذه …

ـ لا تحزن يا صديقي ولكن كان ينبغي عليك توقع ذلك قبل أن تتزوجها خصوصا وأنها شاعرة قصيدة نثر ( مخضرمة )  …

سكت للحظات كي أستمتع بالاصغاء للضحكات القوية التي تدافعت في أعماقي مسيطرا في نفس الوقت على الحدود الحصينة التي تمنعها من الانفلات وإظلام الحفلة في بدايتها .. صديقي بدا متعاونا لأقصى درجة حين ابتلع الجرعة دون مقاومة ودون انتباه إلى الطعم الغريب لها وواصل حديثه بتعاسة ثقيلة منغرسة في صوته وملامحه عن ارتباطه الروحي والجسدي بزوجته الذي يستحيل فهمه أو التحرر منه والذي يجعله دائما متوحدا معها مهما فعلت .. يمكن للعالم إذن أن يكون كريما إلى هذه الدرجة .. يمكنه أن يتخلى عن انحيازاته ويتنكر لشهوته كي يمنح سعادة من هذا النوع دون تمهيد .. بالضرورة كان عليّ تطوير الحالة بما يتوافق مع استسلام صديقي وبما يناسب إشباع رغبتي في الوصول لنشوة أعلى …

ـ طالما أن الأمر هكذا ، وطالما أنك مرتبط بها بهذا الشكل عليك أن تتجاهل الموضوع إذن وتنساه تماما وحتى تضمن ألا يصيبك الضعف وتعود إلى التفكير والانشغال به حاول أن تخلق مشروعا جديدا بينكما وتتفرغ كليا لإنجازه معها .. لماذا لا تحاول مثلا ـ بصفتك ناقد متميز ـ إقناعها بمراجعة وعيها الذي تكتب الشعر من خلاله ؟! .. أنا أرى بصراحة ـ ولا تزعل مني ـ أنه وعي سطحي جدا وساذج للغاية .. لماذا لا تخبرها أن دواوينها السابقة لم تكن أكثر من ( وصلات ردح ) مختلفة لـ ( رجالها السابقين ) وأن عليها أن تتخلص من هذه النظرة الضيقة للحياة ؟! .. صدقني ليس هذا في مصلحتها فحسب بل في مصلحتك أنت أيضا .. أنت بالتأكيد لا تتمنى أن تتحول ذات يوم على يديها إلى مسخ على القراء تجميع أشلاءه المتناثرة عبر قصائد ديوان .

لم يواصل صديقي حديثه .. ليس لأن حكايته انتهت ، ولا لأنه أحس بندم مفاجيء على تعريته لنفسه أمام عيني أحد بهذه الطريقة ، ولا لأنه انتبه فجأة إلى طعم السخرية وتمكن من تمييزها .. صديقي بدأ في البكاء .. رغم كل شيء لم يكن هذا متوقع بالنسبة لي مما جعلني أشعر بالكف الغليظة للصدمة على روحي وبالانطفاء التدريجي والمتسارع بعنف للأنوار التي كانت تتراقص بداخلي منذ لحظة واحدة .. رأيت الامتداد السحري والآمن للنقطة التي كنت أقف عندها يتآكل ويختفي لتنمو بدلا منه متاهة صلبة لا يمكن التنبوء بمدى وحشيتها .. طلبت منه أن يتوقف عن البكاء لكنه لم يتوقف .. طلبت منه ثانية أن يتوقف لكن صديقي بدا وكأن رغبته في البكاء تزداد نشاطا مع المطالبة بالتوقف فظل يبكي بحرقة متصاعدة .. فجأة وجدت نفسي أصرخ في وجهه بأن يصمت .. صرخة عميقة وحادة جدا أجبرته على التوقف عن البكاء بالفعل والنظر إليّ بدهشة .. لم أنتظر كثيرا .. دون كلمة واحدة نهضت وسرت مبتعدا لأخرج من الحديقة بينما لا يزال صديقي ينظر لي بدهشته المبللة بالدموع مقررا هو الآخر ألا يتكلم .. طوال الطريق إلى بيتي وبينما ظللت جالسا لفترة طويلة داخل حجرتي كنت محتفظا بالرغبة في مواصلة الصراخ .. ليس لأن بكاء صديقي كان لا يزال مستمرا في أذنيّ ولكن لأنني كنت أسمع بكائي أنا .. لم أكن أبكي لأنني أستعيد ذكرى فشلي في أن أكون أحد رجال زوجة صديقي فحسب .. كنت أبكي أيضا بسبب المهرج ذو الرأس المقطوع المرسوم على الحائط أمامي والذي أرتبط به ارتباطا روحيا وجسديا يستحيل فهمه أو التحرر منه ويجعلني دائما متوحدا معه مهما فعل .

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم