عن دار جدار للثقافة والنشر بالإسكندرية – مالمو صدرت مجموعة شِعريّة جديدة للشاعر المغربي مبارك وساط تحمل عنوان “جماجم غاضبة بِسبب الطّقس البارد”، وتتضمّن ثماني وثلاثين قصيدة.
تُقدّم المجموعة عالماً شعرياً متفرّداً، تتقاطع فيه المشاهد اليومية مع الصّور الحلمية و”الحكايات” التي تبدو أحياناً أسطوريّة الطّابع أو عجائبيّة أو ذات شَبه بقصص الخيال العلميّ، دون أن تنفصل كلّية عن الواقع.
فالصّور في هذا الكتاب الشِّعريّ ذات أبعاد دلالية موسومة بالاختلاف والانزياح في العديد من طرائقها التعبيرية ، وأنساق بنائها وتركيبها. وهكذا نقرأ في نصّ بعنوان “امرأة ” : “امرأة تَمسح حُزن البارحة/ عن طاولة فوقها كتاب/ هي تعرف الكثير من أسماء الجبال/ والمطرُ الأخير/ قَاسَمها أسرارَه” ، وبعد أن تكتسي المرأة هذه السّمات الواقعيّة وشبه الأسطوريّة، تبدو لنا في ماض قريب جِدّاً، وهي تُشارك المتكلّم بحثه عن قدّاحة كانت قد ضاعتْ منه، وفي الأخير، نعرف أنّها “في عُمر البُرُوق”، ثمّ تنتهي القصيدة بِقول المتكلّم: “سأجلس قبالتها/ ونلعب مباراة شطرنج”. وفي قصيدة “تجاعيد”، نقرأ : “تجاعيدُ تتدحرج على سَطح تابوت/ التّابوت ينتظر عجوزاً/ لم تَمتْ بعد”. إنّنا في جوّ يكون للموت فيه رهبته، وسطوته، فهو يَنتظر – التّابوت هنا هو أيضاً ملاك موت نوعاً ما – ثمّ نتفاجأ بأمر غير متوقّع، فالعجوز ليست هي التي تُقْبِل نحو التّابوت المنتظِر، “لكنّ أصابعَ يَدَيها هي التي تجيء/ وَتَنقر على سطحه/ إنّه الآن بيانو/ في الخارج/ مَطر لطيف/ يُشارك في السيمفونيّة/ التي تتنامى”. وهكذا فالموت، في هذه المرّة على الأقلّ، لا يكون هو المنتصر.
يمكننا القول بأنّ كتابة مبارك وساط في هذا الكتاب الشِّعريّ تستفيد من السّوريّالية دون أن تتبنّاها، أي أنّ قصائد المجموعة مُبنينة وتتميّز بمراعاة الوحدة العضويّة بشكل كبير. وواحدة مِن هذه القصائد على الأقلّ تنشأ من تخييل يُذكّرنا بأساليب الخيال العِلميّ نوعاً ما، والمقصود هنا قصيدة “وظيفة”. في بداية هذه القصيدة حديث عن شَخص فقير، يرتاد قاعات السّينما أحياناً، “ّأمّا في بيته فليس له تلفاز / أمّه لَم تعد مستاءة الآن / فالمهمّ أنه سيشتغل / وسيتحسّن الحال”. حتّى الآن، يبدو الأمر عاديّاً ومألوفاً جِدّاً. لكنْ بعد هذا سيبدأ الانزياح الذي يُدخلنا، شيئاً فشيئاً، إلى عالم الغرابة ويُشَعْرِن النّصّ. فهذا الشّخص الفقير كان قد عثر من قبل على وظائف، لكنّه لم يلتحق بها، لكن ما هي هذه الوظائف؟ تُقَدِّم لنا القصيدة جَرْداً لها: “في البدء عَثر على وظائف عِدّة: / مُدَرّس عربيّة لأجانب / مُدَرّس رياضيات لببغاوات / مُرَبّت على أعناق زرافاتٍ حزينات / رَاوي نكاتٍ في دار عَجزة / مُوقِظ كلاب نائمة في عرض الشارع / مُدرّب نِمال على النّميمة / حلّاق لِحَى قرود / سارقُ أمواج من بَحر نائم / سكرتير للأثير / مُصفّقٌ لساعات أثناء رنينها / نَديمٌ لليلة صلعاء / مُحَرّر مخالفات ضِدّ أشجار / واقفة في غير أماكنها”. لكنْ إنْ كان لم يقبل أيّاً من هذه الوظائف، فما الشّغل الذي عثر عليه؟ هنا نسنُستدرَج رويداً لنكتشف هذا الشّغل الذي عثر عليه وتقبّله، إلى أن نقرأ: “يتوقّف على جانب الطّريق / يُصبح بؤبؤا عينيه مصباحين / واحد يكون بالتّناوب أصفر أو أحمر / الثّاني أخضرَ فحسب / ها هما يتهيّآن للاشتعال / جسمه يتجمّد ويتخشّب / سيبقى هكذا أثناء ساعاتِ عَمَله / كعمودِ إشاراتٍ ضَوئيّة / لكنّه سيكون حُرَّ الأعماق / ويُمكنه أن يَحلم مستيقظاً…”. إنّه سيشتغل عموداً كهربائيّاً حتّى منتصف الليل، ووقتها يحلّ محلّه شخص آخر… نحن هنا أمام نصّ يستثير في أذهاننا مفوم التشييء الذي كان قد أنشأه جورج لوكاتش لإبراز مظاهر تسليع العمل الإنسانيّ في ظلّ المجتمعات الرّأسماليّة، فمِن خلال هذه القصيدة، نعاين تحوّل إنسان إلى شيء…
ممّا تتميز به”جماجم غاضبة بسبب الطقس البارد ” غِناها بالصُّوَر غير المألوفة، التي يبتدعها الشّاعر أو تبتدعها القصائد وهي تتشكّل. تحمل أولى قصائد المجموعة عنوان: “راقصات”. نقرأ في بداية النّصّ: “أمام باب حديقة مهجورة / رأيتُ مناديلَ رهيفةً ذات ألوان / مَنسيّةً في أيدي راقصات / مِن عصر سالف / الأيدي من دون أجساد…”. هنا، ندخل إلى نطاق واقِعيّ-سِحريّ، كما هو واضح: أيدٍ مِن دون أجساد، صاحبات الأيدي فارقن الحياة قبل عصور، لكنّ أَيديهنّ لا يَزلن في الهواء أمامنا، مُمسكاتٍ مناديل زاهية الألوان. ثمّ نصعد دَرجة في سلّم الواقِعيّة السِّحريّة، إذ يعرف القارئ أنّ بإمكانه تخيّل صاحبات تلك الأيدي، وإثر ذلك، سَيُوصِل البرد العابر أسماءهنّ إلى مسامعه، ثمّ يسمع طقطقات أحذيتهنّ (فقد كُنّ راقصات) مثلما سَيسمع تنهّداتهن، ذلك أنّهنّ “لَم يتعوّدْن على الموت بَعد”. والقصائد التي تَتّخذ من الموت موضوعة لها في المجموعة، كثيراً ما تتخلّلها فكاهة شبه سوداء، أمّا حين تتناول واحدة منها موضوعة الموت باعتباره ناجماً عن فِعل قتلة وآلات دمار، فإنّ الفكاهة السّوداء نفسها تختفي، تاركة المجال لمناخ رهيب. في هذه المجموعة أيضاً، قصائد تكون فيها الغَلَبةُ للحياة وللفنّ على الفَناء، أَحياناً، ولو بِشكل نِسبيّ.
مبارك وساط هو شاعر وروائيّ وُمترجم مغربي، والمجموعات الشِّعريّة التي صَدرتْ له حتّى الآن هي التّالية: على دَرَج المياه العَميقة (1990)، مَحفوفاً بأرخبيلات (2001)، راية الهواء (2001)، فراشة مِن هيدروجين (2008)، رَجُل يبتسم لِلعصافير (2011)، عُيون طالما سافَرَتْ (2017)، جماجم غاضبة بسبب الطّقس البارد (2025). في سنة 2023، ظهرت له رواية بعنوان: وَديعة خُفاف. وقد ترجم إلى العربيّة عدداً من الأعمال الأدبيّة، مِن بينها “نادجا” لأندري بريتون و”التّحوّل” لِفرانتس كافكا.