النظرة الثانية
تتراجع ملامح الألفة ، إذ يبدو الهواء مشحونا بأكثر مما يجب ، ويصبح السكون مريبا ، وتبدو الأشياء متأهبة ، كقطع الشطرنج تقف ساكنة فوق رقعة المنازلة ، ربما تحركها يد غير مرئية ، كأبطال فى مسرحية عن الجدارة ، كل كيان يريد أن يظهر كامل قوته ، صراع مكتوم حول المكانة ، كل ينتظر لحظته ليصبح فاعلا او لينتهى دوره ، حركة واحدة تنتقل قطعة ، فيصبح لدينا منتصر ومهزوم ، القدح الأعلى يبدو فى النظرة الثانية وكأنه يحاصر القدح الأسفل ويريد ازاحته خارج الرقعة . الضوء الشحيح الذى يتسرب فى أسفل اللوحة ، يربك المسألة بأكملها فلسنا بصدد فراغ حقيقي وانما ربما هو سراب أو وهم لأشياء تسبح على سطح الذاكرة ، اما الظلال التى تؤكد مادية هذه الأشياء ، فإنها بدورها مخاتلة تزيد حيرتنا ، فظل الورقة يقبع تحتها بينما ظلال القطع الأخرى تمتد صوب اليمين ، فمن أين يأتى الضوء ، ومن أى زاوية ننظر الى المشهد ، بل وحتى الى القطعة الواحدة ، مستويات مختلفة للنظر تجتمع فى لحظة ، وكاننا يجب أن ننزاح قليلا كل مرة لنتامل كل مفردة على حدة . على ورقة الروزنامة ، يترك لنا يوسف الفرصة لنعرف فقط أننا فى يوم السبت 31 الموافق 22 ، لم يطلعنا على السنة أو الشهر ، هو وحده يدرك شفرة هذا السبت 22، اما نحن فسنقف امام اليوم والأرقام ، بلا هداية ، ونكتفي بأن هذه الأشياء اجتمعت وحدها ، بلا صحبة ، وربما لن يشرب أحد رشفة شاى واحدة ، فكل الأشياء ستظل نظيفة كما هى ، وربما كانت ورقة الروزنامة نفسها ، مفتتحا للريبة ، ولم لا تكون قد نزعت في الماضى ، فى سبت ما من أيام الله ، وستظل معلقة هناك فى الهواء طالما بقت اللوحة .
عبدلكي
في أعمال عبدلكي الأخيرة ، يرتفع صوت مرتفع للوقائع والكوارث التى تعيشها أوطاننا والتى طالته بذاته ، وكأنه أختار ألا يشيح برأسه بعيدا عن الوقائع والتحولات اليومية ، ولا عن الخراب والخوف والدمار المحيط به ، والتعسف الذى لاحقه عمرا بأكمله ، وأقدر كثيرا رغم إدراكي لصعوبة المهمة قراره بأن يشارك بفنه كطرف منحاز فى هذا الصراع العنيف وادرك تبعات ذلك عليه وعلى فنه . ولكن يبقى أن يوسف لم ولن يهجر المنطقة المتميزة التى حفر مسارها بقوة وعمق، والتى تفرد فيها بجدارة ، الا وهى قدرته على استدعاء الأشياء بقوة ، كصروح مهيبة ، ثم هز هذا الحضور بعمق حتى تلتبس الدلالات . ورغم مهاراته الاستثناية كرسام ، فقد حرص على الإفلات من غواية الواقعية المفرطة ، الواقعية الفخمة ، ومن استعراض المهارات او الاستكانة للشاعرية السهلة .
يترك عبدلكي فى أعماله المدهشة بتقشفها ورصانتها ، الباب مواربا حتى لا يتقيد الحضور الذى يبنيه داخل المعنى ، ويسحبنا دائما الى افاق رحبة بتعدد مستويات التناول ، والمراوغة المستمرة ، والجمع بين ما يمكن تصديقه وما لايمكن بأى حال تصديقه والذى يمنح لأعماله سحرا خاصا ، أو يفتح مربعا صغيرا به كائن آخر خارج ما نراه ، وكأن هناك حكاية اخرى ، جنى آخر فى قمقمه له حكايات أخرى ، أعمال عبدلكى تقول لنا أن الحكاية البصرية اوسع مما نراه ، وهناك دائما شبح لحكاية أخرى غائبة . وهكذا يجمع عبدلكي أشياء الاقتراب وأشياء الابتعاد ، المعانى وتجاوزها ، حضور الأشياء بقوة ونفيها فى التو، وكأنها خارج وداخل جسدها ، صرحية وهشة ، ، تماما كما هى مقيمة خارج معانيها وداخلها في آن .