داود سلمان الشويلي
((مما لاشك فيه أن الاسطورة قادرة على ترجمة أحاسيس الماضي والحاضر بوعي مركب، كما أنها تمتلك القدرة على اعطاء الماضي حضورا حيا متوهجا تجعلنا نعيش حاضر الماضي بكل قيمه ومثله الايجابية المشرقة.)). [1]
ما التناص؟
((تعرف كريستيفا التناص على مستوى خلق النص، أي انتاجه، وتمثله عند ابتداء النص وليس كمقترب نقدي سيميائي وآلية فحص، بأنه ((التقاطع داخل نص لتعبير “قول” مأخوذ من نصوص أخرى)). [2] وكذلك، هو: ((النقل.. لتعبيرات سابقة أو متزامنة)).
واذا كانت كريستيفا قد اجترحت هذا المصطلح اعتمادا على حوارية باختين، فانها في دراستها للنص المغلق، اجترحت مصطلح ( Ideologeme ) المعتمد كذلك على باختين ومن خلال هذا المصطلح، حددت كريستيفا مفهوم التناص على انه: ((تداخل النصوص)) [3]. لكي توضح: ((انه ليس هناك أدب بنيوي يمكن النظر اليه من منظور جزئي، وان كل شيء يشير الى شيء آخر دائما، وان كل نص يقبل قراءات جديده دائما ولكن بترابطات مغايرة، وان كل نص يشير الى غيره في النهاية)). [4]
إذن هو عملية تداخل النصوص فيما بينها. نص قديم في نص جديد، أو نص داخل نص آخر معاصر له، أو نص داخل نص للمؤلف نفسه. وهذا التداخل لا يشترط الحجم بقدر اشتراط العبارة الكاملة المعنى. ولا يشترط، كذلك، أن تكون العبارة باللفظ بل أن تكون المعنى العام لها.
حفلت أغلب كتاباتنا، أو ما ننقله بصورة شفاهية، ان كانت شعرا أو سردا، لهذه الآلية الابداعية التي لا يخلو منها نص كان إلّا ما ندر، أو كما يقول باختين: ((وآدم فقط هو الوحيد الذي كان يستطيع أن يتجنب عادة التوجيه المتبادلة هذه فيما يخص خطاب الآخر الذي يقع في الطريق الى موضوعه، لأن آدم كان يقارب عالما يتسم بالعذرية ولم يكن قد تُكُلّم فيه وانتُهك بوساطة الخطاب الأوّل)). [5]
***
تناقش هذه السطور موضوعين مهمين في اسطورة جلجامش، واسطورة بلقيس، الأوّل هو الاجابة عن سؤال مفاده: هل ان بلقيس هو الاسم الحقيقي لملكة سبأ. والموضوع الثاني هو قضية التناص بين قصتها كما وردت في القرآن، وبين إحدى قصائد تمجيد جلجامش. [6]
***
الموضوع الأول:
ان بلقيسا كاسم أطلق على احدى ملكات اليمن، وهو اسم غير حقيقي، إذ لم تذكره التوراة في سفر الملوك الأول – الاصحاح العاشر، ولم يذكره التلمود كذلك، ولا القرآن أيضا، بل ان السرديات العربية ذكرت ان اسمها هو بلقيس، وأظن أن هذا الاسم جاءها بالسماع لمرويات حملة سرجون الثاني على اليمن، وأطلاق هذا الاسم على مكان في اليمن كما ذكر الدكتور فاضل الربيعي بعد أن توصل اليه من دراسته للقي الآثارية، والكتابات الآشورية، والمرويات التاريخية. يقول الدكتور:
((من الواضح أن سياق الرواية لا يشير بأيّ صورةٍ من الصور إلى اسم بلقيس؛ بل أن السارد يستعمل مصطلح (ملكة) لها عرش عظيم، وهذا الوصف لا يؤكد وجود الاسم؛ ولذا تكتسب النقوش الآشورية صدقيّتها التاريخية المُطلقة، حين تؤكد أن سرجون الثاني هو منْ أطلق الاسم الجديد على مكان بعينه استولى عليه وهو من مواضع السبأيين ( مدن الإسماعيليين/ سمع إيل).
لقد سمّاها بلقيس (بل/قيس) أي بعل قيس (زوجة الإله بعل). وكلمة (بل/بعل) تطلق عند الآشوريين على الآلهة العظام مثل آشور بانيبال/أشور/بن/بال، أو كما في اسم ناصر بال (نصر/ بل). هذا يعني أن المقطع الأول من اسم بلقيس هو (بل/ بعل) أما قيس فهو التوصيف الذي يطلقه اليمنيون على كل شديد وقوي (قيس/من القسوة).)). [7]
***
جاء في “سفر الملوك الأول – الإصحاح العاشر” من التوراة:
((وسمعت ملكة سبا بخبر سليمان لمجد الرب فاتت لتمتحنه بمسائل* فاتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدا بجمال حاملة اطيابا وذهبا كثيرا جدا و حجارة كريمة و اتت إلى سليمان و كلمته بكل ما كان بقلبها* فاخبرها سليمان بكل كلامها لم يكن امر مخفيا عن الملك لم يخبرها به* فلما رأت ملكة سبا كل حكمة سليمان و البيت الذي بناه* و طعام مائدته و مجلس عبيده و موقف خدامه و ملابسهم و سقاته و محرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب لم يبق فيها روح بعد* فقالت للملك صحيحا كان الخبر الذي سمعته في ارضي عن امورك وعن حكمتك* ولم اصدق الاخبار حتى جئت وابصرت عيناي فهوذا النصف لم اخبر به زدت حكمة وصلاحا على الخبر الذي سمعته* طوبى لرجالك وطوبى لعبيدك هؤلاء الواقفين امامك دائما السامعين حكمتك* ليكن مباركا الرب الهك الذي سر بك وجعلك على كرسي إسرائيل لان الرب احب إسرائيل إلى الابد جعلك ملكا لتجري حكما و برا* و اعطت الملك مئة وعشرين وزنة ذهب واطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة لم يات بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي اعطته ملكة سبا للملك سليمان* وكذا سفن حيرام التي حملت ذهبا من اوفير اتت من اوفير بخشب الصندل كثيرا جدا وبحجارة كريمة* فعمل سليمان خشب الصندل درابزينا لبيت الرب وبيت الملك واعوادا وربابا للمغنين لم يات ولم ير مثل خشب الصندل ذلك إلى هذا اليوم* واعطى الملك سليمان لملكة سبا كل مشتهاها الذي طلبت عدا ما اعطاها اياه حسب كرم الملك سليمان فانصرفت وذهبت إلى ارضها هي وعبيدها* وكان وزن الذهب الذي اتى سليمان في سنة واحدة ست مئة و ستا و ستين وزنة ذهب* ما عدا الذي من عند التجار وتجارة التجار وجميع ملوك العرب و ولاة الأرض)).
***
وذكر في التلمود:
((وراحت جميع الممالك تهنئ شلومو کخير خلف لداود أبيه، الذي طبقت شهرته الأمم، كلها ما خلا واحدة هي ملكة شيا، التي عاصمتها قطوره. فأرسل شلومو إلى هذه المملكة رسالة يقول فيها: مني أنا، شلومو الملك، سلام لك ولحکومتك. ليكن معلوما لديك أن الله القدير قد مكنني من حكم العالم باسره، بما فيه من مالك بالشمال والجنوب والشرق والغرب. فها هم قد جاؤوني مهنئين، كلهم ما عداك أنت. فارجو منك أن تأتي أنت أيضا، ولتخضعي لسلطاتي فينالك مني تکریم عظيم، لكن إن تمنعت تراني أفرض عليك الإقرار بسلطاتي بالقوة إليك يا ملكة شبا xav na توجه هذه الرسالة بسلام، مني أنا الملك شلومو بن داود.
فلما تلقت ملکه شبا هذه الرسالة، أرسلت متعجلة في طلب أعيانها ومستشاريها لطلب مشورتهم حول كيفية الرد اللازم.
تکلم هؤلاء بنوع من الاستخفاف حول الرسالة ومن أرسلها، غير أن الملكة لم تكترث لكلامهم، بل أرسلت مركبا يحمل لشلومو هدايا كثيرة تتضمن عدة معادن، وجواهر وأحجار كريمة. واستغرقت الرحلة مدة عامين حتی وصلت هذه الهدايا إلى يروشلايم، وذكرت الملكة في رسالة أوكلتها إلى مقدم الركب: بعد أن تتسلم رسالتي، آتي إليك بنفسي. وبعد عامين من ذلك بلغت ملكة شبا یروشلايم.
فلما سمع شلومو بان الملكة كانت قادمة، أوفد بنایاهو بن يهوباداء قائد جيشه ليلاقيها. فلما رأته الملكة ظنت أنه الملك، فترجلت من عربتها. فسال بنایاهو: ماذا تترجلين من عربتك؟»، فأجابت: «الست صاحب الجلالة الملك هو، فقال بنایاهو: “لست سوی مقدم من رجاله”.
قالت الملكة إلى رفيقاتها وقالت لهن: إن كان هذا مجرد واحد من المقدمين، وهو بهذه الهيئة النبيلة والفارهة، فكم بالأحرى يكون عظيما سيده الملك به.
واصطحب بنایاهو بن پهوپاداه ملكة شبا إلى قصر الملك، وكان الملك تهيا لاستقبال ضيفته في قاعة كانت جدرانها وأرضها منزلة بالزجاج، فدعت الملكة في البداية بمنظرها وتوهمت أن الملك إنما كان جالسا في الماء، ثم لما اختبرت الملكة حكمة شلومو، وخبرت عظمته، قالت: لم أصدق الأخبار حتى جثت وأبصرت عيناي، فهو ذا النصف لم أخبر به. طوبی لرجالك وطوبى لعبيدك هؤلاء الواقفين أمامك دائما السامعين حکمتك. ليكن مباركا الرب إلهك، الذي جعلك على كرسي يسرئيل لتجري حكما ويراه.
فلما تناهت کلمات ملكة شبا إلى أسماع الممالك الأخرى، تعاظمت مكانة شلومو في نفوس أفرادها، وأضحى أعظم وأرفع شأنا من ملوك الأرض جميعا بحكمته وغناه.)). [8]
***
جاء في القرآن من سوؤة النمل:
((وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ* قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ *قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)). [9]
انتهينا الى ان اسم بلقيس لم يكن معروفا قبل وروده في السرديات العربية بعد أكثر من مئة وخمسين سنة على ظهور الاسلام، ولم يطلق على الملكة اليمانية، بل أطلق على هيكل بناه سرجون الثاني بعد أن قاد حملة عسكرية لاخضاع القبائل في اليمن لسيطرة الدولة الآشورية في الكتابات الآشورية التي خلدت تلك الحملة، وهذا معناه كما تقول اسطورة سليمان، ان ملكة يمانية التقت بسليمان، ولنطلق عليها اسم بلقيس كما يحب أصحاب السرديات العربية، الاسلامية ذلك.
***
الموضوع الثاني:
بعد أن توصلنا الى ان اسم بلقيس لم يكن اسم الملكة اليمانية الحقيقي في الموضوع الأوّل، سنناقش في هذا الموضوع مفاصل التناص بين الأشعار السومرية التي تمجد جلجامش، وهو اسطورة مبنية على ثيمة حقيقية، واقعية، وبين أسطورة بلقيس كما وردت في القرآن، ولم يذكر هذه الثيمة لا التوراة ولا التلمود.
جاء في القرآن:
((قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ* قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)). [10]
أما في القصيدة التي تمجد جلجامش فقد جاء:
((فالقصة الثالثة “جلجامش وأجا حاکم کیش” تدور حول النزاع الذي ثار بين هذه المدينة وبين مدينة أوروك وأوشك أن يؤدي إلى اشتعال الحرب بينهما، وخلاصتها أن أجا ابن أنميباراجاسي بعث برسله إلى أوروك طالبا منها الاستسلام، وناقش جلجامش هذا الطلب مع «مجلس» شيوخ المدينة وختم كلامه بقوله: «لا نريد الخضوع لبيت كيش، بل سنسحقه بقوة السلاح»، ولكن الشيوخ لم يوافقوه على رأيه، وأعلنوا أنهم يفضلون الإذعان للحاكم المستفز على اللجوء للحرب… ولم يقتنع جلجاميش برأي «مجلس الشيوخ” فاتجه إلى مجلس الشباب القادر على حمل السلاح (مما يدل على وجود نوع من الديموقراطية يستحق منا اليوم أن نتحسر عليه ونتمناه!) قائلا لهم: “لا تخضعوا لبيت كيش، فنحن نريد أن نسحقه بالسلاح”، وأقره الشباب على عزمه ففرح قلبه، وأمر أنكيدو أن يقلده أسلحته، مؤكدا أنه (أي أجا)، سيفزع منه بمجرد رؤيته، بحيث يضطرب فعله ويذهب عقله ولم تمر عشرة أيام حتی زحف أجا بجيشه نحو أوروك التي اضطربت أمورها فأخذ جلجامش يبحث عن محارب يتطوع لقتال “أجا” أمام أسوار المدينة، مما يرجح أن الحروب في تلك العهود كانت تبدأ بالمبارزة بين الملوك والحكام أو من ينوب عنهم، وأعلن رجل اسمه “بیرشور نوري” عن استعداده لمواجهة “أجا” ومضي في طريقه واثقا من النصر، ولم يكد يغادر بوابة المدينة حتى أحاط به جنود العدو وأوسعوه ضربا وساقوه إلى قائدهم، وشاهد محارب آخر من فوق السور ما جرى لزميله، وسمع الكلمات التي قالها لأجا وأدت إلى تكرار ضربه ضربا مبرحا… ويبدو أن الخبر انتشر بين جنود جلجاميش فأصابهم الذعر، مما اضطره للصعود بنفسه فوق السور، كما يبدو أن أجا قرر رفع الحصار عن المدينة إذا اعترف له جلجامیش بالتفوق والسيادة والرئاسة… ويلهج جلجاميش بشكر المعتدي على صنيعه، وتختتم القصة بالثناء على ملك أوروك المسالم وفارسها الحكيم…)).[11]
ان مفاصل التناص الحادثة بين قصة بلقيس واسطورة جاجامش هي في طلب رأي المجلس للدخول في الحرب.
نحن نعرف ان السرديات العربية لم تنقل لنا ان من التقاليد العربية أن يأخذ رئيس القبيلة، أو الحكومة، رأي مجلسا ما في القيام بالحرب، أو رد حربا ما. بل هو المبادر في ذلك، ولكنه يمكن الاستأناس برأيهم عن الكيفية التي تكون عليها خطط الحرب، كما فعل النبي محمد في معركة بدر إذ أخذ بمشورة الحبُاَبُ بن المنذر في جعل ماء بدر خلفه. أما في ملحمة جلجامش، وفي قصة بلقيس، فجلجامش وبلقيس يأخذون الاذن في دخول الحرب من المجلس، جلجامش من مجلس شيوخ المدينة الذي يرفض ذلك، ثم يتجه الى مجلس الشباب فيأخذ الاذن بالحرب. أما في قصة بلقيس فانها تأخذ الاذن من المجلس “الملأ” فيعطي هذا المجلس الرأي لها وفيما تراه هي صالحا.
***
إذن، مفصل التناص بين القصتين، أو الاسطورتين، حيث كتبت القصائد تلك بعد موت جلجامش بسنوات وكانت تمجد به، وتذكر له أفعالا لم يقم بها، وأعمالا لم ينفذها، وبطولات شبه وهمية. وبلقيس كذلك، هذا الاسم الوهمي، فضلا عن اسطورية سليمان المذكور في الكتب الدينية، وغير الواقعية. هذا المفصل هو استشارة الملك، جلجامش، والملكة، بلقيس، لمجلس شيوخ المدينة بالقيام بالحرب، أو بعمل آخر وهو تلبية بلقيس لطلب سليمان أن تخضع له.
نتساءل: هل كان حلما هذا التمني بوجود مجلس استشاري من قبل واضعي الاسطورتين، أو القصتين في الحياة العامة؟ أم كان الوضع هكذا في ذلك الزمن التي تتحدث عنه الاسطورتين؟
أترك الاجابة لمن يريد الاجابة بشرط الدليل.
……………………
*القصيدة الحميرية لنشوان الحميري
*ملحمة جلجامش 6/ ص19
[1] الملكة بلقيس – التاريخ والاسطورة والرمز – د. بلقيس ابراهيم الحضراني – 1994 – مطبعة وهدان – القاهرة –ص199.
[2] في اصول الخطاب النقدي الجديد – ت/احمد المديني – دار الشؤون الثقافية العامة – ط2/1989- ص103.
[3] انظر كتابها (علم النص) ودراستها (النص المغلق) عادّة الملفوظ (ايديولوجيم) اشتقته من (ميدفيديف = باختين) والايديولوجيم عندها هو (عينة تركيبيةً (…) تجمع لتنظيم نصي معطى بالتعبير المتضمن فيه او الذي يحيل اليه.
[4] الذئب والخراف المهضومة – داود سلمان الشويلي – بغداد – 2001 – ص12.
[5] المبدأ الحواري – تودوروف – ت. فخري صالح – دار الشؤون الثقافية العامة – ط1 /1992- ص84.
[6] نحن لا ننكر ان جاجامش هو أحد ملوك الوركاء من سلالة سومرية، حكم لفترة من الزمن بين عامي 2800 و2500 قبل الميلاد، أو (2900-2350 قبل الميلاد)، وألِّه بعد موته. وقد قام بأعمال مهمة، وبنيت حوله بعض الأساطير. الفت عنه مجموعة من القصائد السومرية، وقد جمع منها الكاتب البابلي سين-لقي-ونيني وألف الملحمة.
[7] نظرية في إعادة ترتيب الأديان والعصور – سرجون الثاني وبلقيس – ص63 من الكتاب بنظام الوورد.
[8] التلمود – ص 236 وما بعدها.
[9] النمل:20 – 44.
[10] النمل:29 – 34.
[11] ملحمة جلجامش ترجمها عن الالمانية عبد الغفار مكاوي – دار هنداوي – 2017 – ص19.