انتهى بسرعة من كيِّ جلبابه الأصفر الفاقع، ذي الخطوط العمودية الشهباء. وارتداه بعناية فائقة وحذر شديد، كأن العنكبوت حاكتْه بخيوطها. لا عجب في ذلك فهو لا يملِك سواه ولم يكن دخْلٌه يسمح بامتلاك جلباب كهذا. إنما جاءه هدية في عرسه. ومن ليلته تلك اعتاد الناس على رؤيته بهذا الجلباب في كل مناسبة دينية طوال عشر سنوات.
خرج “حمّادي” وصفق الباب الحديدي خلفه بقوة كافية لجعل كل الانظار تلتفت إليه ، وقد امتلأ ثقة وزهوا، تسربا إليه عبر جلبابه الأنيق. واتجه نحو المسجد بخطىً متباعدة واثقة. بينما استقر قرص الشمس الحارق في سُرة السماء، يُرسل سياطه المتلاحقة على قفاه ، ما فتئت مع توالي الخطوات تُشعره بلسعات حارقة..
كانت الريح مزمجرة لعوبا لا يستقر لها اتجاه. فلا يكاد ظهره يتعود على أصابعها تعبث به ، حتى تغشي عينيه قادمة من الأمام بغتة ، كأنها تتقصد مضايقته. فيحني رأسه متقيا ذرات الغبار الكثيف، تملأ الجو، كأنه يمشي في صحراء.. استمر على هذه الحال بضع خطوات قبل أن تركد الريح ويرفع عينيه.
امتلأت الطرقات بالرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وجهتهم واحدة : بيت الله. نظر حمادي إليهم وشطح بعيدا بفكره “الايمان بالغيب، وارتياد المساجد، وصوم رمضان، والحرص على المظهر المكمل؛ من المسبحة وعود الأرك مرورا بالجلباب والطربوش، وانتهاءا بالجوارب البيضاء والبلغة الصفراء .. كل هذا مع الغش والخداع وتفشي الرشوة والقوادة والبغاء والمخدرات، وتنامي العنف والكراهية .. لا يمكن أن تجتمع كل هذه التناقضات في ذات واحدة ؟؟ كيف تسنَّى لها أن تجتمع فينا ؟! ”
ضاق صدره وأطلق زفرة قوية وقال بصوت مسموع جعل أحد المارة يلتفت إليه :
“كنتم خير أُمة أخرجت للناس” !!!
أحس “حمّادي” بالخجل و الارتباك جرّاء النظرة المريبة التي وقعت عليه من هذا الشاب القوي البنية، ذي القامة الفارهة والجسم الممتلئ، يمشي بخطوات عنيفة كأنه يريد أن يخرق الأرض بقدميه، انغمس في رأسه طربوش أبيض، فاض من حواشيه شعر غزير، شكًل مع اللحية التي غطت ثُلثي وجهه، كتلة هائلة من الشعر. وعلى جسده تدلت قندورة بلون البلوط، قصيرة تسمح للنصف الأسفل من ساقيه أن يظهرا عاريين، يكسوهما شعر كثيف على شكل دوائر سوداء. برفقته إمرأتان ترتديان قطعا من الليل مظلما. أطلت منهما عينان سوداوان أحاطهما سواد الكحل. تمشيان بجانبه شبه مهرولتين، حتى يتسنَى لهما مواكبته.
عندما وقعت عليهما عينا “حمّادي”، نسي ما كان فيه من الارتباك، وطفق يجهد فكره مستحضرا السنوات الأولى من حياته، منقبا عن صورة أمه خارج البيت. كيف كان لباسها. وكيف كان لباس كل النساء في ذلك الوقت !! كُنّ مستورات لا يبدو من زينتهنّ إلا ما ظهر منها. و كان لهنّ مطلق الحرية في اختيار الألوان. حتى الأرامل منهن، يتربّصن بأنفسهن مسربلات في البياض بدلا من السواد.. يتساءل في حيرة والريح تُعيق الرؤية من جديد، وتعصف بكل شيء:
“من الذي يُريد أن يُلزم نساءنا هذا السواد، دون غيره من الألوان التي خلق الله ؟ هل كان علينا أن ننتظر كلَّ هذه المئات من السنين، من عقبة بن نافع إلى اليوم، كي يأتي إلينا من ينقذ نساءنا من الضلالة، ويعلمهن كيف يلبسن، وما هو اللون الذي يرضى عنه الله ؟؟”
وفاجأهُ رجل مرّ به مسرعا، يرتدي بدلة عتيقة تدل على أنه موظف بسيط. تقدمه بخطوات، ثم جاء بحركة توقع منها “حمّادي” أنه سوف يتمخط ويفرغ أنفه. و لما كانت الريح تأتي من الأمام، فإنها ستحمل المخاط إليه مباشرة. قفز “حمّادي” إلى اليسار كأنه يتجنّبُ لكمةً مصوبة إليه. ولما أفلح في ذلك، تنفس الصعداء، وهمّ بمعاتبة الرجل، ثم عَدَلَ عن ذلك وقال بصوت أجبره الغضب واليأس على تجاوز المونولوج، فأصبح مسموعا :
– إنه رجل تجاوز الخمسين حولا ولم يتعلم بعد، كيف وأين يتخلص من فضلاته !! أيّة لُغة يمكن أن يفهمها؟
وتسربت إلى رأسه عبارة انشرحت على إثرها أسارير وجهه بابتسامة ساخرة :
-يقولون : “دعه يعمل.دعه يسير.” إذن :
-“دعه يتمخط. دعه يسير.”
عندما وضع “حمّادي” رجله اليمنى على عتبة المسجد، ودلف إلى الداخل، كان شريط أفكاره لا زال مسترسلا ، فقطعه عند فكرة جاءته دون مقدمات، ولم يسمح لها بمرافقته، فأصرت على انتظاره هي والشيطان لدى الباب: “قُوّتان متلازمتان، تأخذ الواحدة منهما بيد الأخرى: زحف المدينة على البادية. وزحف البداوة على حساب المدنية..”
كان المسجد قد امتلأ عن آخره. ومع ذلك لا زالت الجموع تتدفق نحو الداخل ؟! يبدو أن الناس قد تعوّدوا على الضيق والازدحام. يركبون الطاكسي ملتصقين، وفي الحافلة ملتصقين، وفي السوق ملتصقين، وفي الإدارة ملتصقين، وفي المسجد ملتصقين .. حتى أصبح شعارهم : “تزاحمُوا تراحمُوا..” و صار الضيق عندهم مرادفاً للرحمة !!
وقف “حمّادي” عند مكان لا يجاوز نصف متر مربع. همّ بأداء تحية المسجد، فتراجع بسبب ضيق المكان، وانحشر في وضع منكمش كأنه داخل علبة كبريت. تململ في جلسته علّه يتوصل إلى وضعية لا تضمن له الراحة على كل حال ، إنما توفر له فقط قليلا من الاتزان الذي يُعينه على “الصمود”، ويقيه بعض الألم الذي ما فتىء يتزايد في ركبته اليسرى .. ثم إن هناك أمراً آخر نغّص عليه “راحته”، وكاد يذهب بما تبقى له من صبر، و هو ما تعرض له جلبابه الأنيق من الانكماش، مما أودى ببهائه وتناسق مظهره..
جاء صوت الخطيب من زوايا المسجد الاربع، وَاهناً مبحوحاً يتناسب وصاحبَه الطاعن في السن، بلحية بيضاء كأنها اقتُطعت من صوف الغنم. يطل وجهه النحيف من جلباب ناصع البياض، غطّى جسده بالكامل، ولم يسمح إلا للوجه و الكفين بالظهور.. تلا مقدمة تعوّد الناس على سماعها منه ومن غيره، ويده تعبث داخل الجلباب، ثم أخرجها مُمسكةً بنظارة ثبتها على أرنبة أنفه، وشرع يقرأ من ورقة تهتز في يديه اهتزازاً : ” أشراط الساعة كما جاءت في الحديث النبوي الشريف”. وبدا الخطيب وهو يتلو على الحاضرين علامات الساعة الكُبرى و الصُغرى، مُتعثرا وكأنه تلميذ في البدايات. بينما برزت تحت حاجبيه الرماديين، عينان صغيرتان تقفزان من الورقة إلى المصلين في حركة متواصلة..
بلغ الضيق والحنق “بحمّادي” مبلغا لم يخفّف من حدّته سوى صيحات الحاضرين وهي تُؤمّن على دعوات الفقيه إيذانا بانتهاء الخطبة وانتهاء عذابه. وفي إجواء الحماس المصاحبة عادةً لهذا المقام، ودون مقدمات، جاء الشيخ بأدعية صعق لها “حمّادي” عندما صاح بصوت يعلوه الانفعال :
-اللّهم إن الشيعة الروافض قد حشدوا الجيوش لحرب عبادك، فاحشد عليهم جندك !!
-آمين
-اللّهم أرنا فيهم يوما يسرّنا !!
-آمين
بدا “حمّادي” مندهشاً مبهوتاً غير مصدق لما يسمع ويرى. انتقلت عيناه من الخطيب وهو يدعو على “الأعداء”، إلى جموع المصلّين و هم يُؤِمّنون..
قام مع القائمين، وأدى الصلاة بجسده، بينما عقله لا زال يحاول استيعاب هذه اللّغة الطائفية، وتساءل:
“كيف تسرب إلينا هذا الوباء؟”
واستطرد يقول في سِرِّه :
ألم يأمرنا الرسول الكريم بقوله : “دعوها فإنها مُنتنة” ؟
عندما قُضيت الصلاة، كانت الأفكار قد ألهبت رأسه، فلم يعد يدري كم ركعة أدّى.. واطمأنّ فكره أخيرا إلى خلاصة ساخرة تنهّد لها بعمق: ” لطالما عالج المسلمون خلافاتهم بالدعاء على بعضهم البعض فوق المنابر !!”
عندما همّ بالخروج، بدت له الجُموع عند الباب كخليّة نحل. وجاهد “حمّادي” كي يجد لنفسه طريقا إلى العتبة. فلما أفلح في مسعاه، وتمكن من الخروج، ملأ صدره بالهواء الطري، وسرى بداخله إحساس لذيذ، تبدّت معه وجبة الكسكس في كامل زينتها تنتظر عودته إلى البيت.. وهو يحثُّ الخُطى، مرّ في طريقه بثُلة من الشباب، يبدو زيُّهم متقارباً، و يَشِي مظهرهم بانتماء ما، كأنهم من فريق واحد !! وقبل أن يخلفهم وراءه سمع أحدهم كأنه يُجيب عن سؤال:
-ألا تدري من هم “الشيعة” ؟
“إنهم أخطر من الصهاينة” !!!