ميّ عطَّاف
أن يجيد الشاعر القصيدة نثرًا، فلا تفلت منه الحرفنة الشعرية ولا يسقط من يده الإيقاع النثري، فيتمكن كروائي مخلص لفن الرواية من صنع عمل، مستوحيًا من التراث سردية شعبية.. كل هذا اللعب والمزج والشاعرية يقدمه الشاعر سمير درويش في روايته “ليس بعيدًا عن رأس الرجل- عزيزة ويونس”، التي صدرت نهاية عام 2024 عن دار بتانة للنشر في القاهرة.
من ميدان التحرير في وسط القاهرة، حيث أراد الشاعر سمير درويش أن ينهي جسد بطله -يونس أبو جبل- بطلقة قناص في عينه اليسرى، تبدأ حيوات، منها حياة البطل، وليس أي بطل، فنان تشكيلي يعيد تدوير الناس والأشياء بضربة من ريشته، تمر حياته بالبطيء مشهدًا مشهدًا، وكأن الروائي أراد لمن في رأس الرجل قيامة جديدة من ساحة الميدان، لتبدأ الحكاية والشريط يمر “عزيزة، عراف المدينة، الحماران، الغجرية، الطريق إلى المدينة، الكلية، وئام سلطان، الدكتورة سميحة النجار، نيويورك وأليكس، ومليكة عمراني،..”، عوالم روايته التي لم تبدأ بعد، خرجت -وسط معركة- من أسطورة أو غزوة لتأخذ شكل غرائبي وسط جِمَال وأحصنة، فيكمل بهدوء سياق العمل، لكن ما إن يبدأ بالجملة الأولى، حتى تلاحقه لعبة الوجود، والسؤال: منْ الذي ليس بعيدًا عن رأس الرجل؟ من يرغب الفنان التشكيلي يونس أبو جبل أن يمنحه أحقية الوجود، المقيم في الذاكرة؟
الشاعر الروائي ذاك ملعبه، ومضات كالشعر، يبعث الشخوص حيَّة بمتعة العارف الذي يملك قدرة الالتقاط؛ وثقافة واسعة أضفى بها على العمل ميزة “العالمية”، فمن قرية مصرية نائية إلى القاهرة فـ”نيويورك”، تاركًا للمكان أن ينطق كواحد من شخوص العمل، لا بتأثيره فقط على بقية الشخصيات، بل كفضاء له حضوره القوي الساكن وغير البعيد عن رأس الرجل، فضاء القرية بترعتها وبيوتها وأزقتها إلى القاهرة بالأحياء الشعبية منها، ثم إلى أستوريا في كوينز في نيويورك بشوارعها المستقيمة وبناياتها من الطوب البُني الذي جعل البطل يرى من خلاله الدفء في كل أمريكا، فلم يُصَبْ بلعنة الغربة “من السهل أن تصل إلى أي تقاطع آخر بالسير أفقيًّا ورأسيًّا دون أن تحتاج لمساعدة أحد”.
تبدل المكان والزمان
العلاقة التي يقيمها مع المدينة تبدو جدلية، إذ يريد ضجيجها لكنه يقيم حاجزًا مع هذا الضجيج “أن يكون داخلها وخارجها معًا”، حققت له أستوريا ذلك لكنه واجه تلك المعضلة في القاهرة.
ثمة ذاكرة تنبض طازجة لدى الكاتب حين ينقل القارئ معه من مطرحه وسط البلد بأسماء شوارعها ومحلاتها، إلى الأزقة الضيقة والمقاهي، إلى أستوريا ونيويورك بحدائقها وناطحات السحاب والمتاحف، ليسمح للقارئ بأن يكون شريكًا له في تلك العلاقة مع المكان، والعلاقة المحدودة مع الناس في تلك الأمكنة. أيضًا تبقينا الذاكرة المنعشة لدى الكاتب مع الأغاني والأفلام العربية منها والأجنبية، ويعيد القارئ إلى زمن عبد الحليم حافظ ونجلاء فتحي، وإلى مشهد الكيس الذي تتناقله الريح في فيلم الجمال الأمريكي American Beauty.
لغة الشاعر سمير درويش حطَّت رحالها اللغوي لشاعر غني بالإيجاز، وحينًا بالإسهاب، وفي كليهما يسمح للقارئ بأن يركب موجة اللغة بسلاسة، ولو ارتفع منسوب الموج عاليًا يمسك بالدفة، يتأرجح لكن لا يقع في مغالاة اللغة. لغة متجددة حيَّة وعصرية لم تخفِ مجاراة الشباب في العلم والبرمجة واللغة، لغة شبابية، وإن كان النضج الطاغي في نبش الشخصيات يدل على أننا أمام قارئ ممتلئ بالملاحظة والتجارب وكأنه ابن الحكمة.
رواية الشاعر سمير درويش، وأتعمد ذكر “الشاعر” مرارًا لأن تعدد الالتقاط يشبه الومض في كتابة القصيدة، أجاد التقاط ماهية كل امرأة، من عزيزة إلى وئام وماهيتاب ومليكة ونجوان وسميحة وآية، لم تتقاطع النساء، إذ تمكَّن ببراعة الرصد من الشكلي إلى الداخلي لكل منهن في الرواية، النساء لا تتشابه لديه، فلكل امرأة تفردها وخصوصية في علاقاتها وفي مقدار الوصل أو الفصل عن يونس بطل الرواية.
يونس أبو جبل فنانٌ تشكيليٌّ، لم يكن ابن باشا أو طبيب، لكنه ابن الموهبة التي تجلت في رسومه الأولى مذ كان صغيرًا، والداه فلاحان من بيئة فقيرة، لكنه صار مدرِّسًا في إحدى الجامعات الأمريكية، تلك السمة هي ما تأخذ الرواية منها حمولتها الأدبية والمختلفة عما سواها، استقى يونس من قريته ماء عاداتها، لكنها لم تظهر عليه جلية في البعد المعرفي، وكأنها حالة الانعتاق “لا ينغمس في أي شيء لدرجة التعلق، يجعل بينه وبين الناس والأشياء مسافة أمنة”، تلك المسافة جعلته في حرية من العادات والتقاليد وصورة الرجل التقليدية.
تمر النساء في حياة يونس، بما يشبه التشكيل في بنية الفنان، لا هي ناقصة ولا خيالية، بل هي إنسانية وعادية، لها ما لها من طباع وأحلام وطرق للحب، وعليها ما عليها من عادات وتقاليد وخيبات ومواجع.
عزيزة الجارة التي كبر معها فما يفترقان إلا للنوم، عزيزة ابنة القرية- الفطرة الخام التي يلعب معها عريس وعروسه ولعبة البيت، فيكون لهما بيت خاص، هي الزوجة وهو الزوج، إلى لعبة احتكاك جسديهما في الأوتوبيس، ليقول عن رحلته تلك: “أطول أقصر رحلة قطعتها في حياتي.. أنا الآن أطير بالفعل، لكن من مكاني، أطير في حالة سكون أبدي، أكتشف للمرة الأولى حرارة هذا الجسد بعد أن تدوَّر، بعد أن تحور إلى جسد أنثى طالعة”، لتبقى عزيزة حبيبته الدائمة التي ماتت صغيرة، وفي كل امرأة يسأل عنها.
لعبة النساء ولعناتهن
ما منح الرواية ثقلها في التحليل النفسي هو تعدد النساء، يبرر هذا أن الزمن الروائي يمتد إلى نحو أربعين عامًا، ويتعدد المكان بين قارتين كما سبق وأوضحت.. والتعدد هنا لا يأتي بسطحية وبساطة واستعراض أجوف، بل بعمق، ينبش الكاتب فيما وراء سلوك نسائه، فيما وراء علاقته بكل واحدة منهن وأبعادها ودلالاتها، دون أن يصدر أحكامًا أخلاقية، بل يضيف بعدًا إنسانيًّا لكل نسائه، ولعلاقته بهن، فيضفي عليهن وعلى العمل عمقًا يحتاجه أي عمل فني رصين.
وئام سلطان ابنة السابعة عشرة، القاهرية الجميلة حين تكون صامتة حتى تتكلم فتخرج عنها شياطينها وغُلبها معًا.. الفتاة التي طلب رسمها لتصبح الموديل الذي لم يفارق لوحاته، وئام الفتاة الأولى التي قبَّلها، الفتاة الأولى التي عبث بصدرها وتحسس جسدها، وئام الأنثى التي لا تُنسى والحاضرة في لوحاته، والتي غادرت دون أن تغلق معه الدائرة فظلت مفتوحة على الذاكرة.
أما ماهيتاب ففتاة قاهرية صغيرة، فارق العمر بينهما لم يمنع من “علاقة شفيفة”، يحترم كل منهما الآخر، تحثه أن يحتويها، ويستخرج منها الوحوش التي تسكنها، فتاة بقيت في سريره عذراء، هي أدركت أنه لا يميل للتعلق بل للانعتاق دون مسؤولية زوج وبيت وأسرة، فأحبت ما رأت من وضوحه، وكانت سعيدة بترتيب بيته وبحضنه، وبالساعات التي تمضيها معه، قبل أن تحل الساعة التاسعة فتذهب لحياة مختلفة.
ونجوان امرأة في الخامسة والأربعين من العمر، تخلت لزوجها عن بناتها الثلاث لأجل كينونتها، بقوام لم يحقق لها مرادها: “في كل مرة تقف أمام المرآة تسأل نفسها عن السبب الذي يحول بينها وبين أن تكون نجمة في البرامج المسائية”، قوام تدرك جماله: “في لا وعيها، تريد إذلال كل العيون المربوطة بجسدها”، لنقرأ فيما بعد السبب وراء رغبتها بالإذلال، امرأة عملية تعرف من أين تؤكل الكتف، لكن يونس لم يقترب منها للحد الذي سمح لها بأكل كتفه، بل كان يبقي مسافة آمنة بينهما، لكنها انجذبت ليونس منذ اللحظة الأولى، ربما للفلاح العالق تحت لباسه “الخشونة إذن هي السر!”.
ومليكة عمراني، الفتاة الأمريكية من أب مغربي وأم إسبانية، الجميلة والنحيفة، التي تركت مسافة أمان مع الرجل المسلم، لكنها التصقت بيونس أبو جبل الفنان، فكان حريصًا على احترام المسافة عساه يبعد عنها فكرة المسلم الذي همه جسدها، فترك لها حرية التعاطي والتفاعل مع جسده، بفضلها تفتحت عيناه ومداركه وأصبح يرى العالم بشكل أنضج.
واحدة من النساء كانت آية عبد الرحمن، الفتاة الثورية التي تجمع بين وضوح الرجال وليونة الإناث، يُجمع الأصدقاء على محبتها، هي أشبه بالمحرك، تتنقل بين شلل الأصدقاء في المقهى ذي الواجهة البرتقالية وخارجه، كبارًا كانوا أم صغارًا.. النفس الثوري حاضر في كل تركيبتها، والميدان صار قاب قوسين أو أدنى من اندفاعها مع الأصدقاء، وما لفته أن لها أصابع أمه ووجهها.. لكنه أوعز إعجابه بآية لـ”خلطة سحرية”، تتسم بها بعض النساء، فهي “لحظة قيام طائر الفينيق من الرماد”.
يونس أبو جبل الفنان التشكيلي، شخصية إشكالية رغم ما تبدي من وضوح، يحيطه الكاتب من جهاته السبع، والقصد بها حتى دواخل الفنان وكيف يرى الأشياء ويقيسها ويتأملها ويفككها، لكنه وقد تجاوز الخمسين يدرك أنه حجم مبتور من الحياة، فكيف لرجل مثله أن يبتعد عما يجعل الحياة أكثر ليونة كمشوار على الكورنيش ويده في يد امرأة: “يدرك الآن أن الجدية أقامت جدارًا بينه وبين الناس، حتى زملاءه ومجايليه من أبناء الكار، جدارًا رقيقًا لكنه حاسم وواضح، جدارًا من الخوف الفطري، والتوقير الزائد”. ولم يكن بعيدًا عن رأس الرجل الفعل السياسي، وما الطلقة في عينه اليسرى سوى إيمانه بأنه آن للبلد من قيامة، ورسم صورة جديدة عن مصر.
ما يمكن تقبُّله في الرواية أن الشاعر كشف تلك العلاقات دون وسم أو صفة للمجتمع، فلم يسهب في الحديث عن الثورة رغم أنها لب الموضوع، بل جعلها ثانوية في السرد، ولم يقل عن البيئة إنها منفتحة أو منغلقة، لكنه وضع الناس وعلاقاتهم على الطاولة، وإن توارت بعض العلاقات وراء طفولة أو صداقة أو عباءة أو عمل، ما عدا “مليكة عمراني” التي جاءت بوضح النهار، فنيويورك ليست القاهرة ولا قرية يونس النائية على تخوم الوادي الأخصر، وفي بداية الصحراء الشرقية الشاسعة الممتدة حتى ساحل البحر الأحمر.
لا يمنح الكاتبُ القارئَ ميزة الاستسهال، بتتابع رتيب للحكاية، لكنه يعتمد التقديم والتأخير واللعب (رجل مستمتع بلعبة الكتابة)، وينقلنا كربَّان من زمن الطفولة، إلى يونس في الخمسين من عمره، ويترك لنا -كقرَّاء- أن نجمع ونرتب ونستذكر، يبدو أنه لا يميل للقارئ المتبلد الذي تأتيه الأحداث والشخصيات على ورق منمق وبرتابة دون حراك عقلي.
خرج الشاعر عن السرد المتعارف حين صار الحكواتي الذي يتحدث بالعامية، ولا ينسى الصلاة على النبي بين كل فقرتين كالحكواتي الشعبي في الموالد الدينية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حجم اللعب المفتوح لديه جعله ينطق جملًا تجعلك تبتسم من نكتتها الذكية.
جاء السرد بين المتكلم والغائب، ضمير المتكلم حين يعود لقريته ومدرسته وعزيزة، وضمير الغائب حين كبر وصار فنَّانًا تشكيليًّا.
رواية الشاعر والروائي سمير درويش “ليس بعيدًا عن رأس الرجل- عزيزة ويونس” رواية تحفظ للأدب ماءه وتبقيه جميلًا وحيًّا.