ترسم جبل الزمرد عالمها الخاص،ورغم أن النص الروائى يحاك من نسيج ألف ليلة وليلة، النص الخالد فى الثقافة الإنسانية، والذى شهد محاولات محاكاة عديدة وإعادة كتابة معاصرة، فإن عوالمه السحرية تمتلك طاقة خلاقة تجعل حكاياته دائمة الفتنة والغواية والإلهام، و معين لاينضب للتناص والابتعاث الجدلى و المستمر.
تستخدم جبل الزمرد “الليالى” كأداة هيكلية، مستغلة الموازاة المستمرة بين المعاصر والقديم، الواقعى والأسطورى، هادمة ً للفواصل “الوهمية” بينهم.
فى قاهرة 2011 تسعى “بستان البحر” المولودة على مقربة من أطلال قلعة الموت بإيران، وابنة ناسك جبال الديلم آخر المتحدرين من جبل قاف، إلى بعث زمردة أميرة قاف وابنة الملك ياقوت من رماد احتراقها عبر” تنقية حكايتها مما أصابها من تحريف وإعادتها إلى متن ألف ليلة، ولحظتها سوف يتجسد قاف من جديد وتبطل لعنته، فيرجع إليه أهله بعد قرون من التيه”. بحوزة بستان البحر مخطوطا نادرا، ورثته عن أبيها، يحوى علامات وإشارات ملغزة تقود فى حالة النجاح فى فك شفراتها للناقص من تفاصيل “جبل الزمرد”، الحكاية الناقصة من كتاب الليالى، المطرودة والمحرفة، والتى تواطأ الكثير من مدونى السيرة على تحريفها وإخفائها.
تتشكل الحبكة وتتكون عبرالعديد من الحكايات التى تتوالد وتتجمع لتربط بين العديد من الشخصيات المتباعدة فى أزمنة مختلفة، معاصرة وقديمة، حتى تزول التعمية رويدا رويدا.
تسعى بستان البحر، وفق النبوءة، إلى لقاء هدير، الفتاة المتمردة القلقة التى تعيش فى قاهرة 2011، عاصمة الثورة. تذهب هدير لتسكن مع جدتها شيرويت، السيدة الأرستقراطية القديمة، بعد سفر أمها نادية إلى كندا مع زوجها الجديد، ورحيل أبيها قبل ذلك إلى الإمارات مع زوجته هو الآخر.
تراوح الراوية بستان البحر فى سردها بين عالمين: عالم الأميرة زمردة، وعالم هدير. تحكى بستان حكاية زمردة: أبوها الملك “ياقوت” الذى خطف من قبل أمها “نورسين” من جلستان وهو يحلق على متن العنقاء، جبل قاف الذى تحرسه ملكة الحيات، “بلوقيا” الناجى فى جبل المغناطيس، الصائغ المأخوذ بجمال الزمرد، “مروج” التى تدون سيرة الأميرة زمردة، حتى حلول اللعنة واحتراق زمردة وتلاشى جبل قاف، وشتات أهله ونساكه، حاملين معهم “الحكاية”، والنبوءة التى قالتها زمردة، أن عليهم “ترديد حكايتها بلا كلل، وتدوينها حتى لاتتوه فى غياهب العدم وظلماته”.. “الحكاية ستعيدنى، وكاهنة الأبيض والأسود ستجمع شظاياى”.. آخر مانطقت به زمردة.
ثم تحكى حكاية هدير: أمها نادية، خاتم الزمرد الذى أضاعته هدير فى طفولتها وظل عالقا بذاكرتها، لقاءها بكريم خان فى “ثاكاتيكاس” بالمكسيك، ومراودة رؤيا غريبة لها فى “جبل الحياة” عن وجود آخر لها، وتستجيب لإيعاز كريم خان لها بأن تبحث عن امرأة تدعى بستان البحر، بعدما أوصلت الأحجية بستان إلى يقين بأنها هى كاهنة الأبيض والأسود التى ستنقى الحكاية وتسد ثغراتها وتبعث الحياة فى رماد زمردة بمساعدة هدير ” فتاة جامحة تعيش فى مدينة صاخبة أنجبتها امرأة جميلة، تضحك لها المرايا”.
●●●
تظهر بالرواية العلاقة الجدلية بين الكلام والكتابة، أو الكتابى والشفاهى، حيث دأب حكماء قاف على تفضيل الكلام على الكتابة، واعتبار الكتابة بماديتها تهديدا لنقاء الكلام:
” الكتابة موت الكلمات !
كل كلمة نخطها مشروع قتيل ننحره، ونمثل بجثته قبل أن نحنطه على الورق…
الكلام حيوى، مندفع، وصاخب. والكتابة محاكاة باهتة له. الكلام هو الأصل، والكتابة نسخة مزيفة”.
ما دأب حكماء قاف على فعله فى الأسطورة يماثل موقف الكثير من الفلاسفة عبر التاريخ الفعلى، و خاصة تاريخ الفلسفة الغربية، من الكتابة، حيث دأبت التقاليد الفلسفية على اعتبار الكتابة شكلا “مستلبا” لا حياة فيه للتعبير، كما دأبت على الاحتفاء بالصوت الحى، وأن الكلمة المنطوقة الصادرة عن جسد حى تبدو أقرب إلى الفكر الخالق من الكلمة المكتوبة، فيما يسمى ﺑ “نزعة مركزية الصوت”، وهو ما نراه أيضا بالرواية: ” فى الشفاهى يعاد إحياء الكلمة، تكتنز بدلالات تضفيها عليها تعبيرات الوجه ونبرة الصوت. هو الصوت تحديدا ما يحيى الكلمات، ما يجعل الكلام حضورا ً والكتابة غيابا ً”.
لكن حكماء قاف ظلوا فى زمانهم الأول يتداولون حكاياتهم وأساطيرهم شفاهة، حتى اضطروا للتدوين حين أصبح من الصعب استعادة حكى بعض حوادث قاف بدون ” الاختلافات المحكومة بتنوع الحكائين” و ” تلاعبات الذاكرة وانتقائيتها” و”ملوثة بمشاعر وانفعالات وانحيازات الحكاء نفسه”… ” خطر لهم أن التدوين قد يكون الضمان لإعادة أحياء من ماتوا، ممثلين فى كلماتهم… مع الوقت فطن الحكماء القدامى إلى أهمية الكتابة رغم كرههم لها”.
تكشف الرواية عن “التراتب القهرى”، بتعبير جاك دريدا، بين ثنائية الكلام/الكتابة أو الكتابى/الشفاهى، أى التمييز بين طرفى الثنائية، واستمرار تأكيد تلك التراتبية بشكل آخر، فحكيم المملكة السابق، جد مروج، حين خرق الناموس، ولم يقتنع بتحريم التدوين على النساء، وقام بتعليم ابنته الكتابة، وأوصاها أن تعلم ابنتها بدورها.. ” كان يرفع الكتابة إلى مرتبة الإلهى المقدس، فيما اعتبر الشفاهى وليد البشرى الخطاء..” ليخلق هو الآخر تراتبية جديدة.
تعمد الرواية إلى نقض هذا التراتب وتفكيكه، بإظهار أن الكلام نوع من أنواع الكتابة، وأن العلاقة غير ثابتة بين طرفى تلك الثنائية، كما أنها قائمة على “التكملة”. فالكلام والكتابة كلاهما تكملة واستبدال للآخر فى آن، كما يبين دريدا.
يطرح النص الروائى سؤال الكتابة، ولكن تتعدد الأوجه الخلاقة لهذا السؤال، وتنطلق من تفكيك قهرية النسق التراتبى نفسه داخل النص. فمثلما كانت أساطير قاف وحكاياته متمركزة حول “الصوت الحى”، فقد كانت بمعنى أوسع “متمركزة حول الكلمة” أوما يسمى “مركزية اللوجوس” ( لوجوس تعنى كلمة باليونانى). فالكلمة هى أصل الأشياء جميعا وهى ضمان الحضور الكامل للعالم. فتحريف الحكاية/الكلمة يعيق الحضور، واستعادة حضور زمردة وبعثها مرتبط بتنقية سيرتها وإعادة كتابة حكايتها المقموعة. الكتابة بوصفها عملية للخلق والبعث، بما يتجاوز الدلالة المجازية.
والكتابة بوصفها مقاومة للاستبعاد، استبعاد الحكاية من الكتاب المستبعد من ثقافته الأم. والأهم، استبعاد المرأة وحضورها ككيان ناقص وتابع تتسم هويته بقيمة سلبية. فالنص يكشف منطق التعارضات الثنائية التى يطرحها داخله ويسائلها: الكتابى/الشفاهى، الرجل/المراة، الخيال/الواقع.
كانت شهرزاد تحكى لتقاوم الموت وتحافظ على وجودها الفعلى وحياتها، لكن بستان فى إعادة كتابتها لحكاية زمردة وأسطورة جبل قاف ستصير هى مانحة الوجود لأهل قاف جميعهم، بعد أن كانت المرأة كيان سالب، وبعد أن كان التدوين محرم عليها.
كما يطرح النص سؤال الكتابة كمعارضة لثنائية المقدس/المدنس، فبالرغم من امتناع أهل قاف عن تدوين حكاية أميرتهم زمردة خشية تدنيسها ” كيف لهذه المواد الفانية ( البرديات والرقوق) أن تحفظ حكاية مقدسة كتلك؟ “. (هل ما استوجب اللعنة على قاف هو تدوين مروج لسيرة زمردة أم مغادرة زمرة نفسها لقاف على متن العنقاء وقتلها لملكة الحيات التى كانت تحرس الجبل؟)
لكن الكتابة، فى النهاية، صارت هى الوسيلة الوحيدة لمقاومة المحو.. والعدم.
●●●
يوظف النص الروائى الأسطورة، ويطرح عدة تبديات وتمثلات لها، حيث يكشف عن قدرة الأسطورة على صياغة إحساس وإدراك جماعة بشرية ما. تتسائل الرواية عن إمكانية تتبع الأسطورة للإمساك بالخيال الجمعى، وبجذوره الضاربة فى لاوعينا، فى محاولة لاستجلاء المضمر والمجهول من الوجود الإنسانى، ومواجهة هشاشة هذا الوجود أمام قسوة العالم.
لهذا تحتفى أعمال منصورة عز الدين بالأحلام والكوابيس والجنون والخيال. فالأحلام، بوصفها الطريق الملكى إلى اللاوعى، قادرة على فضح مكنونات الذات ، كمحيط كامل يطوق كلا من الوعى واللاوعى.
“الخيال الخالق للاساطير”، كما يوضح يونج، الذى يظهر فى خيالات الأحلام، نابع من اللاوعى ويعكس البنية الأولية للنفس، وكأن جبل الزمرد تسعى إلى رسم شكل أكثر اكتمالا أو صفاء للوجود، أو إلى معرفة الجانب الخيالى لوجودنا، الذى نتعرف إليه من خلال حالة الرواية داخل الرواية، (التقنية السردية التى تحاكى بها جبل الزمرد الليالى) : فحين تصبح الشخصيات فى عمل روائى هى قارئة العمل أو مؤلفة الرواية التى هى فيها ( كما فعلت هدير حين قرأت الحكاية التى كتبتها بستان عنها)، فإن ذلك يذكرنا بالجانب الخيالى لوجودنا الخاص، كما يقول بورخيس.
كما أن الأحلام والخيالات التى تزور شخصيات الرواية نجد فيها ملامح هذا الوجود، حيث تتلاشى الحدود والمسافات التى تفصل الوعى عن اللاوعى، والواقع عن الخيال:
” وبدأت هدير تغيب عن الوعى، تبتعد رويدا رويدا عن حياتها وذكرياتها القديمة عن العالم كما تعرفه… رأت: قصرا باذخا من الزمرد…أبصرت: أميرة طاغية الحسن.. وطيور رخ محلقة…”
” حلمت قبل يومين بأنى فى مكان موحش، وسط صحراء قاحلة، خلفى صفوف متوازية من أشجار مانجو عملاقة على أغصانها مشنوقين لا أعرفهم”.
نلمح بالرواية ما يمكن تسميته بالتناسخ بين شخصياتها، حيث يقيم النص تناظرات وقرابات والتقاءات مخاتلة بين شخصيات الحاضر والأسطورة: زمردة/هدير، بستان/مروج، نادية/نورسين، وحتى الشخصيات الهامشية مثل المشرد المجنون أخضر العينين فى حى المنيل، أمام منزل شيرويت، والذى يشنق نفسه فى النهاية ويفيق الحى بأكمله ليجدوه معلقا على الشجرة الكبيرة، تماما كما شنق الكثير من أهل قاف أنفسهم فوق أغصان أشجار المانجو بعد نزوحهم إلى العالم وتشردهم.
لكن التجلى الأكثر أهمية للأسطورة يكمن فى كونها عنصر انعتاق وتحرر، وتوظيف ملكة الخيال على نحو يتعدى مجرد الهروب أو التسامى على الواقع القاتم، ليصير مقاومة لكل أشكال القبح والقمع، ما يذكرنا برائعة المخرج المكسيكى جويلرمو ديل تورو: “متاهة بان”، حيث يتشكل المنحى الواقعى للفيلم من واقع أسبانيا فرانكو الفاشية وأجواء التمرد، بينما المقاربة السحرية أو الأسطورية من جهة تتمثل فى مغامرة الفتاة الصغيرة فى العالم السفلى وسط الأجواء الأسطورية والحكايات الخيالية للموروث الشعبى، لتصير أميرة على هذا العالم فى النهاية.
فنجد بالرواية، عبر لغة راوحت بين الوصفية والتقريرية والمجازية، تصويرا للقاهرة بما يكتنفها من أجواء العنف والقمع وغلالات الفاشية:
” مرت بميدان التحرير.. فشعرت كأنها فى ثكنة عسكرية”
” باتت تلمس عنفا مكتوما فى كل شئ حولها: حركة المرور، اللفتات، وحتى الجمادات، ثمة استماتة فى التأكيد على هدوء مزيف، لكنها -بدلا من هذا- تنبئ عن عنف موشك على الفيضان”.
” لم يخبرها أحد أن هذا الذبول استعارة عن القتل المنتشر بالخارج، وحزنها عليها وعجزها عن إنقاذها من صميم الحزن والعجز اللذين يكبلانها أمام الموت الغادر للأبرياء على شاشات الفضائيات”.
” مدينتها، مدينة الأصوات المتعانقة فى رقصات هستيرية صاخبة… هتاف ورصاص وصراخ لاينقطع..”.
ما سعت إليه بستان هو أن تجعل هدير تعلو فوق ” الهويات الضيقة” و “ركام الواقع ووحله”. وتنتهى الرواية بتحليق هدير فوق عالمها، وينهمر مطر من زمرد، وتكتمل الحكاية.
قد يبدو، وفقا لهذه النهاية، أن الهروب هو السمة الطاغية على وظيفة الخيال فى هذا النص، لكن إذا كان دوام الظلم والاضطهاد لفترات طويلة يدمر ثقافة شعب ما على نحو كامل، كما قال ميلان كونديرا، و يضيف: ” ينتج عن الاضهاد السياسى، كذلك، خطر آخر هو أسوأ، خاصة فيما يتعلق بالرواية.. فالاضطهاد يخلق حدودا فى غاية الوضوح بين الخير والشر، بحيث يصير للكاتب أن يقع بسهولة فى تجربة الوعظ والتبشير”.. فإن القمع والاضطهاد يمنحان هنا جبل الزمرد مزيدا من الجدية والحيوية، أو بالأدق، تصنع جبل الزمرد من الخيال/الأسطورة قوة نفى جمالية أمام قبح تدميرالثقافة واغتصاب الخيال، وتتباعد عن فخ تسجيل ماهو متواتر ومعلوم، و تجعل من الأسطورة، عبر عوالمها وصورها الخلابة عن الطبيعة وموجوداتها، مدرك حسى للحقوق الفردية، بتعبير يوسا، وخالقة للجمال والمعرفة.