جبل الحلب.. حديث الأساطير والقلق

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

/* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;}

محمد الشماع

الأسطورة تعني حكايات الناس التي تنتقل شفاهاً من جيل إلى آخر وتُحفظ من الضياع بقوة ذاكرة الذين يتوارثونها طبقة بعد طبقة، أي أن الجيل الحالي مثلا لم يمر بتجربة الأسطورة مرورًا مباشرًا. قد يكون مر ببعض منها، وكذا الجيل الذي يليه. وهما (أي الجيلين، وما قبلهما وبعدهما من أجيال) مؤلفون أصليون للأسطورة، كلٌ يترك بصمته وحكاياته وتجربته على جدرانها. لكنها في النهاية بناء لم يكتمل، طبقا لقانون الحياة المستمرة.

 وأساطير جنوب مصر منبع لا ينضب من الحكايات التي تفسر ظواهر تحدث. بعضها خارق، وبعضها قد يكون له تفسير علمي. والاقتراب من هذا العالم في حد ذاته ربما يكون سهلا وبسيطا، إذا ما تم التناول مع الأسطورة كحكاية مكتملة، وهنا يفقد المقترب وظيفته الأساسية كمؤلف أصلي لها. وقد يتم اقترابه من الأسطورة كطقس يمارسه الناس، بغية تحقيق أمر، وهي بالمناسبة تتماس كثيرًا مع بعض الشعائر الدينية، كصلاة طلب المطر مثلا، وهو هنا أيضا يفقد نفس الوظيفة.

وعلى ذلك، فإن نادرين جدا من استطاعوا الاقتراب من الأسطورة، بمنطق المبدع الجديد المساهم في بنائها. وهنا يختلط الشعبي بالمكتوب، وتتمازج الشفاهية بالكتابية. ولعل يحيى الطاهر عبدالله في الرواية وأمل دنقل وصلاح عبدالصبور في الشعر، هم أهم من تناولوا الأساطير كمبدعين شعبيين، وربما يكون رضوان آدم في مجموعة “جبل الحلب” فعل ما فعله هؤلاء، فهو استطاع بهمة أن يغوص في قلب الصعيد وأساطيره، لينسج حكايات، تبدو مترابطة، فهي أقرب للمتتالية القصصية منها إلى المجموعة. واستطاع بفهم بالغ أن يقدم للقارئ تسع شخصيات، كل واحدة منها تحمل على ظهرها جبل من الموروث الشفاهي.

ها هي “سليمة” التي تصعد أعلى سطوح منزلها، لتصارع السماء، وتقذفها بالطوب والحصى، لإنجاب “الولد”. فتقول الأسطورة “بقدر الدماء التي تنزفها المرأة من رأسها في هذا العراك، بقدر ما زادت فرصتها في إنجاب الولد”. وها هم الحلب يرقصون حول سرير “أيام” الخشبي يوما كاملا، بعد أن غسلتها “الجيلانية” بالماء المخلوط بحبات الملح والنعناع، وعطرتها وزينتها بأساور من الفضة، وألبستها جلبابا من الحرير الناعم طرزته بالأزرق والأحمر، ودفنت معها خصلة من شعرها لحفظ روحها من القلق، طبقا لأسطورة الخلود والبعث.

تداخل الأسطورة بإبداع رضوان آدم هي التيمة الأساسية في المتتالية، فنرى الحلب يتجمعون مرة سنويا عند قبر الملكة “الجيلانية” متوافدين من النجوع والسهول في نهاية الأسبوع الأول من فصل الصيف، فتلبس نساؤهم الجلابيب المزركشة الجديدة، ويلبس رجالهم السواد، لتزغرد النسوة ويرقصون، بينما يعزف أكبر الحاضرين سنا على الربابة، ويرتجل الجميع أغاني حلبية، تتوافق مع الإيقاع. يرشون حبات الملح فوق قبر الملكة المحاربة، التي خاضت حربا ضروس مع عصابات بركات الواحاتي، ثم يأكل الأطفال الحلوى، ويتحلق الجميع في دائرة يقصون حكايات الملكة “سامان” الأم، وبذلك يحتفظ الحلب بتارخهم من الأساطير.

الشيخ “فخر الدين” هو أحد هؤلاء الذين نسمع عن كراماتهم وحكاياتهم في شفاء المرضى والمعطوبين، ومثل هذه الشخصيات مصدر إغراء للكاتب في أن تكون هي محور القصة، لكن آدم بعبقرية استطاع في قصة “تغيانة” أن يضع الشيخ في عالمه، ويحكي عن خادمته “تغيانة” التي يزحف وراءها موكب كبير من طالبي بركة الشيخ، وكأنه جيش من المشاة.

احتفال الحلب بالشيخ “فخر الدين” مبهر كما رواه آدم. فموكبه يدخل القرية بالأعلام الخضراء والسوداء، بعد أن يقفون ربع ساعة للصلاة على روح الشيخ الذي لا يكسر الخواطر، حيث تتلو “تغيانة” أدعيتها، وتنثر النسوة الملح والسكر والبيض على عتبات البيوت، بينما يعلق المقتدرون على أبواب بيوتهم دجاجة أو دجاجتين كبيرتين فداء للشيخ.

“تغيانة” تمارس دور الشيخ، ولا عجب فهي ما تربت في كنفه، فهي تمسح شعر طفلين، أحدهما مصاب من خلعة، والآخر يفتح عينيه بصعوبة، وترفع أمهما بالدعاء للشيخ وأصحابه. تماما مثلما أخبر قس المركز “دميانة” قدرات “عجيب إسكندر” الخارقة وهو طفل. كان يلتقط العملات المعدنية من أسفل مقاعد المصلين في الكنيسة، حتى إن شاهده الشماسون وخدام الكنيسة، يتركونه لأن القس يحبه. مات أبوه، وعلمه العم “عجايبي” مهنة حلاقة الحمير، فكان مبدعا. لكن موت زوجته جعله شخص آخر.

القلق تيمة أخرى في “جبل الحلب”، وخصوصا قلق أهل القرية كلها انتظارا لموت “عبيد البياض”، الذت تنتابه نوبات من السعال الذي يرج أركان القرية في ساعات الليل. لكنها تستعصي على “عبيد”، فكان ينتصر عليها، حتى سرت شائعة بين أبناء القرية أن البياض لا يموت.

ظن أهل القرية أن تحليق الطيور في خطوط نصف دائرية في سماء القرية، علامة على اقتراب أجل “عبيد”، كما تقول الأسطورة، لكنه يرد بزفير مرير طويل، وينطق عبارات بلكنة غريبة، ثم يسكت، حتى ظن أهل القرية أنه مات، لكنه ظل يسعل ويتذكر حكايات وحكايات، خصوصا عن “حليمة” محبوبته التي جاءته متأخرة عن موعد إنطلاق الباخرة.

“سكينة” أيضا لا تخشى الموت. هي فقط تعيش قلقه منذ ظهور ندبة في رقبتها. تخوض وصبري حفيدها تجربة انتظار الموت (هي تعيشها، وهو يراقبها وهي تعيشها). هي لا تكف عن تناول دخان السجائر، وكأنها الحياة. هي أيضا تصارع البومة التي تأتي بالقرب من منزلها، لتنعق، وهي في الأسطورة نذير شؤم، لكنها تنتصر في معركة البقاء حتى لو ماتت.

المتتالية حالة واحدة، عاشها آدم مع رجال ونساء الحلب، بلغة رشيقة، وجمل قصيرة، وتجربة متفردة، رغم زحام الأحداث والشخصيات في قصة “أيام”، والتي ربما قصد آدم أن تكون كذلك، حتى يغوص القارئ في نفس التجربة التي غاص بها الكاتب الرائع رضوان آدم.

……………

ريفيو

جبل الحلب

دار روافد للنشر والتوزيع

2013

مقالات من نفس القسم