ثورَةُ الأنقاضِ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خيري شلبي

 الشِّعرُ بالنِّسبَةِ لي كالمُوسِيقى، أُحِسُّهُ وأستشعِرُهُ، ولا أسْتطِيعُ الجَوَابَ إذَا مَا سَألتَنِي: مَاذَا فهِمْتَ منْ هذِهِ القصيدِةِ أوْ تِلكَ، وَإذَا كُنْتُ أسْتنكِرُ اسْتِهدَافَ هذا السُّؤالِ بالنِّسبَةِ للأدَبِ القَصَصِيِّ والرِّوائيِّ، فالأحْرَى أنْ أسْتنكِرَهُ بالنِّسبَةِ للشِّعرِ على وَجْهٍ خاصٍّ؛ فالشَّاعرُ لا يُخاطِبُني خِطابًا عقلانيًّا مُحدَّدًا؛ لكي أضَعَ يدِي على مَضْمُونٍ مُحدَّدٍ، أسْتطِيعُ اسْتظهَارَهُ أوْ إعَادَة نقلِهِ، إنَّمَا هو يُسلِّط على وِجْدانِهِ تيَّارًا شُعوريًّا، يربطُ بيْنَ وِجْدانِهِ ووِجْدَاني، في سِلْسَلةٍ مُتلاحِقةٍ منْ الإيقاعَاتِ المُوسِيقيَّةِ المُجسَّدَةِ في صورٍ بلاغيَّةٍ أوْ تشكيليَّةٍ، تشحنُنِي بتجربَةٍ شعوريَّةٍ طازجَةٍ، تبعَثُ في كيانِي النفسِيِّ وَهَجًا منْ الصّورِ والأحَاسِيْس والمَشَاعِرِ والحَالاتِ، تقودُنِي إلى رَفْضِ أشْيَاءَ والافتتانِ بأشْيَاء، وقد تتولَّدُ في الذِّهنِ أفكارٌ مُحدَّدةٌ، لكنَّهُ لا يحِقُّ لي الزَّعْمُ بأنَّها منْ أهْدَافِ القصِيدِ؛ وإنْ كانَ القصِيدُ قد أوحَى بهَا، أوْ أثارَهَا، أوْ أضَاءَهَا في ذِهنِي؛ فكلُّ ردِّ فِعْلٍ ذِهنيٍّ للقصِيْدِ إنَّما يخُصُّ المُتلقِي، وليْسَ للقصِيْدِ أنْ يتحمَّلَ مسئوليتَهُ، إنَّهُ يتحمَّلُ فحَسْب مسئوليَّةَ مَا يُثيرُهُ في الوِجْدانِ، منْ مَشَاعرَ، يَصْعُبُ ترجمتُهَا في مَعَانٍ مُحدَّدةٍ؛ ومنْ هُنا فإنَّنَا يجبُ أنْ نتحفَّظَ على مُعْظَمِ مَا يجيءُ في الدِّراسَاتِ الشِّعريَّةِ، منْ أفكارٍ ومَعَانٍ مُحدَّدةٍ، يخلعُهَا الدَّارسُونَ على الشِّعرِ مَوْضِعِ الدِّراسَةِ؛ لأنَّهَا أفكارٌ ومَعَانٍ تخصُّهُمْ هُمْ، وليدَةُ أذْهَانِهِمْ هُمْ؛ حتَّى وإنْ كانَ القصِيْدُ يُوحِي بهَا.

ينبغِي أنْ يعنينا منْ أمْرِ الدِّراسَاتِ الشِّعريَّةِ هُو الحَدِيثُ في الفنِّ الخالِصِ، في الكيفيَّةِ الَّتي تمكَّنَ بهَا الشَّاعرُ منْ رَسْمِ الصّورِ، وتكوين عالمِهِ الشِّعريّ؛ فمنْ خِلالِ الحَدَيثِ المُسْتنيرِ في الفنِّ، يتمكَّنُ المُتلقِّي منْ الدُّخولِ إلى عَالمِ الشَّاعرِ وفكِّ رموزِهِ وشَفَرَاتِهِ؛ لا ليفهمَهُ ويستظهرَهُ، بلْ ليحسَّهُ ويَسْتشعرَهُ.

إنَّني قدْ أسْتطيْعُ الحُكْمَ بأنَّ هذِهِ القصِيْدَةِ جيِّدةٌ وتِلكَ رديئةٌ، وأزْعُمُ أنَّ حُكْمِي قدْ يجيءُ صَائبًا في مُعْظَمِ الأحْيَانِ؛ لكنَّني سَأعْجَزُ تمامًا إذا سَألتنِي: لمَاذا هذِهِ جيِّدةٌ وتِلكَ رديئةٌ؟؛ لأنَّني في هذِهِ الحالةِ سَأُضْطرُّ إلى اسْتِخدَامِ عقلي، وَاسْتفتاء ذِهنِي، ممَّا لابُدَّ أنْ يجرَّنِي- أرَدْتُ أوْ لمْ أُرِدْ-  إلى إضْفاءِ شَيءٍ منْ الزَّيفِ على القصِيدتيْنِ؛ خاصَّةً أنَّ تِلكَ الَّتي زَعَمْتُ أنَّهَا لمْ تُعْجِبْنِي رُبَّمَا أعْجَبَتْ غيرِي، شَأنَ القِطعَةِ المُوسِيقيَّةِ الَّتي يطربُ لهَا شَخْصٌ، وتجلِبُ الصُّدَاعَ لشَخْصٍ آخرٍ، إنَّ الشِّعرَ كالمُوسِيْقى؛ مَحْكُومٌ- في حَالتيْ الإرْسَالِ والتَّلقِي- بمَدَى ثَرَاءِ وِجْدَانِ الشَّاعرِ وخُصُوبَةِ خيالِهِ، ومَدَى قُدرَةِ المُتلقِّي على الاسْتِيْعَابِ.

ويجبُ التَّنبيهُ هُنَا إلى أنَّهُ ليْسَ هناكَ فنٌّ تستوعبُهُ طائفةٌ منْ الأذكياءِ، ذوي القُدرَةِ العَاليةِ على الاسْتِيعابِ، في حِيْن لا يَسْتوعِبُهُ غيرُهُمْ، مَعَ تَسْليمِنَا بأنَّ هُناكَ مُسْتوَى منْ الفنِّ لا يُرْضِي سِوَى الدَّهماءِ، منْ مَحْدُودِي الذَّكاءِ والقُدرَةِ على الاسْتيعَابِ، نقولُ إنَّ الفنَّ الذي زَعَمَ أصْحَابُهُ أنَّهُ لا يقدِرُ على اسْتيعابِهِ إلا أصْحَابُ القُدْرَةِ العَاليَةِ على الاسْتِيعَابِ، مِثلُهُ مِثل الفنَّ الذي يُقالُ عنْهُ أنَّهُ مُوجَّهٌ إلى طائِفَةِ مَحْدُوي الذَّكاءِ وَالقُدرَةِ على الاسْتيعَابِ، كلاهُمَا زَائِفٌ وَغيرُ أصِيْلٍ.

وعلى الرَّغمِ منْ أنَّني لسْتُ مُدرَّبًا على الخَوْضِ في دِرَاسَةِ الشِّعرِ نظريًّا، وسَأُفسِّرُ المَاءَ بعدَ الجُهْدِ بالمَاءِ، فإنَّ حُبِّي للشَّاعرِ شريف رزق وَارْتباطِي الأبويَّ بِهِ، أرْغَمَنِي على الكِتَابةِ، إنَّني في هذِهِ الحَالةِ أشْبَه بالأبِّ الفَرْحَانِ؛ الَّذي يَحْضِرُ حَفْلَ زِفافِ ابْنِهِ؛ فيرُوحُ يلهَجُ بكلامٍ كثيْرٍ، مُخْضَلَّ المَشَاعِرِ بندَاوَةِ الفَرَحِ.

لِشَريف رِزْق مَذَاقُهُ الخَاصُّ بَيْنَ الشُّعرَاءِ المِصْريِّينَ، وَهَذَا المَذَاقُ يَنْبُعُ مِنْ طَبِيعَةِ الثَّمرَةِ الشِّعريَّةِ الَّتي ينتمِي إلى فَصِيلَتِهَا، أوْ تنتمِي هِيَ إليْهِ، وَهِيَ ثَمَرَةٌ لا شَكَّ ذَاتَ نَكْهَةٍ رَصِيْنَةٍ أقرْب إلى لَذْعَةِ ثَمَرَةِ الكُولا، أوْ ثَمَرَةِ الكَرْزِ النَّاضِجَةِ سرْعَانَ مَا تَنْجَابُ لَذْعَتُهَا عَنْ شُعُورٍ بِالانتِعَاشِ، أعْنِي أنَّ شَاعِرَنَا الشَّابَ ذُو مَوْهِبَةٍ صَادِقَةٍ، وَرُوحٍ وَثَّابَةٍ ورُؤيةٍ صَافيَةٍ.

وَتَفْخَرُ مَجَلَّةُ (الشِّعر) بِأنَّهَا تَبَنَّتْ مَوْهِبَتَهُ، وَأفْسَحَتْ لَهُ مِسَاحَةً طَيِّبَةً، عَبَّرَتْ فيْهَا عَنْ القليْلِ مِمَّا تَجِيشُ بِهِ نَفْسُهُ المَليئَةُ بِالمَشَاعرِ السَّاخِنَةِ المُتَوَفِّزَةِ .

قَلِيْلَةٌ هِيَ التَّجارِبُ الَّتي قَدَّمَهَا شَرِيف رِزْق في مَجَلَّةِ (الشِّعرِ)، وَلكنَّهَا رَسَمَتْ مَلامِحَ شَاعِرٍ صُلْبِ القَوَامِ، وَحَدَّدَتْ مَلامِحَ صَوْتٍ يَتَفَرَّدُ بَيْنَ الصَّخَبِ الكَثيرِ الضَّاجِ مِنْ حَوْلِنَا، وَمِنْ أهَمِّ المَلامِحِ الَّتي وَشَتْ بِهَا قَصَائِدُهُ الأولى أنَّهُ شَاعِرٌ يَمْضِي على طَرِيقٍ يَعْرِفُهَا جَيِّدًا، وَيَحْفَظُ سِكَكَهَا وَدرُوبَهَا وَيَعِي مَا يُريدُ أنْ يَصِلَ إليْهِ مِنْ أهْدَافٍ بَعِيدَةٍ؛ أيْ أنَّهُ شَاعِرٌ طَمُوحٌ جِدًّا، وَأظُنُّ أنَّ لَدَيْهِ مِنْ الاسْتِعَدَادَاتِ الذَّاتيَّةِ وَالأدَوَاتِ مَا سَوْفَ يُسَاعِدُهُ على بِلوغِ طُمُوحَاتِهِ في أوْقَاتٍ مُبَكِّرَةٍ، وَمِنْ هَذِهِ المَلامِحِ أيْضًا أنَّهُ شَاعِرُ “الطَّبخَةِ” الوَاحِدَةِ- إنْ صَحَّتْ الاسْتِعَارَةُ- أعْنِي أنَّ كُلَّ تَجْربَةٍ شِعريَّةٍ عِنْدَهُ تَجِيءُ مِنْ نَسِيجٍ وَاحِدٍ لأنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْهُ في الوَاقِعِ غيْرِ مُحَمَّلَةٍ بِأنْفَاسِ غَيْرِهِ أوْ ظِلالِهِمْ أوْ مُنْجَزَاتِهِمْ، هذا منْ ناحيَةٍ، ومنْ ناحيةٍ أخْرَى فإنَّه ليسَ منْ النَّوعِ الَّذي يدفعُهُ الحَمَاسُ الأهْوَجُ إلى مُحاولةِ دَفْقِ كلِّ ما يعتمِلُ في نفسِهِ منْ مَشَاعرَ في طَلْقٍ واحِدٍ؛ إنَّما- وهذِهِ علامَةُ النُّضجِ المُبكِّرِ- يَسْتخلِصُ منْ زِحامِ المَشَاعرِ مَا يخدِمُ تجربَةً بعينِهَا، مَا يتَّفقُ ونوْعَ التَّجربَةِ، وأصَالتهَا، وحُدودهَا النَّفسيَّة والشُّعوريَّة؛ ممَّا يُسَاعِدُ المُتلقِّي على الانْسِجَامِ في أنْغَامٍ مُتَجَانسَةٍ مُتَضَافرَةٍ مُتلاحِمَةٍ، وإنْ تنوَّعَتْ إيقاعاتُهَا الدَّاخليَّةُ، وتعدَّدَتْ دَاخِلَ فلكٍ شُعوريٍّ وَاضِحٍ.

وتنفتَّحُ العمليَّةُ الشِّعريَّة عِنْدَهُ على شتَّى الأنْوَاعِ الأدبيَّةِ؛ فهيَ أشبَهُ بالبهوِ الَّذي تُفتَحُ عليْهِ جميْعُ غُرَفِ القَصْرِ، ومِنْهَا تتشكَّلُ تجاربُهُ الشِّعريَةُ شديدَةُ الخُصُوصِيَّةِ.

وهذَا الدِّيوانُ- الَّذي نحنُ بصَدَدِهِ-: “عُزْلة الأنْقَاضِ”، يُلخِّصُ مَلامِحَ هَذا الشَّاعِرِ، ويعطِيْنَا جَانبًا منْ همومِهِ ومَشَاغِلِهِ، وآلامِهِ العَمِيقَةِ؛ الَّتي حفرتْهَا في نفْسِهِ مُلابَسَاتُ عَصْرِهِ الغَريْبِ القاسِي.

إنَّ شريف رزق هُو ابْنُ عَصْرِ الانْهيارَاتِ الكبيْرَةِ المُروِّعَةِ؛ فمَا كادَ يشِبُّ عنْ الطَّوقِ، حتَّى كانَتْ الثَّقافَةُ السِّياسيَّةُ الَّتي وُلِدَ في ظلِّهَا قدْ انْهَارتْ، وَتنازَلَ المُجْتمَعُ عنْ أهمِّ قَضَايَاهُ، بلْ وعنْ طُموحَاتِهِ، اخْتَفْتَ القضيَّة الكُبْرَى، فكأنَّ الأرْضَ قد انْسَحَبَتْ منْ تحْتِ ثلاثَةِ أجْيَالٍ: السِّتِينيِّ والسَّبعِينيِّ والثَّمانينِيِّ، فجأةً أصْبَحُوا بلا قضيَّةٍ، بلا حُلْمٍ، بلا حَاضِرٍ، بلا غَدٍ، وتهيَّأَ المُجْتمَعُ للدُّخولِ في عَصْرٍ جديدٍ، تحكمُهُ التَّبعيَّةُ المُطْلَقَةُ للأسطورَةِ الأمْريكيَّةِ الخَاويَةِ، وكانَ تيَّارُ الانفِلاتِ جَارفًا، قاسِيًا؛ انْهَارَتْ تحْتَ سَطْوتِهِ الأبنيَةُ الجَمِيلةُ، والرُّمُوزُ والمُثلُ العُليا ؛ فبِيْعَتْ كلُّ النَّفائِسِ، بثمَنٍ بخْسٍ، رَخُصَ التَّاريخُ، وَ رَخُصَ الرِّجَالُ، وَاضْمَحَلَّتْ قِيْمَةُ البطولةِ، وقيمَةُ الشَّرَفِ؛ بلْ اضْمَحَلتْ قِيْمَةُ الوَطَنِ، صَارَ الدُّولارُ سيِّدًا حَاكِمًا بأمْرِهِ .. تمَّ ضَرْبُ الثَّقافَةِ على نِطاقٍ وَاسِعٍ؛ فانْحَطَّ الذَّوقُ وَانْحَطَتْ الأخْلاقُ، سَادَ التَّسيُّبُ في كلِّ مَجَالٍ، عمَّ الفَسَادُ، وَضَرَبَ أطْنَابَهُ في النُّخاعِ، أسْلَسَ المُجْتَمَعُ قِيادَهُ للصوصِ وَالوكلاءِ وَالسَّماسِرَةِ، زَحَفَتْ خَفافيشُ الظَّلامُ، بأفكارِ العُصورِ الوُسْطَى، سَقَطَتْ كل القَضَايَا، حتَّى الكلمة فقدَتْ شَرَفَهَا، تمزَّقَتْ أوْصَالُ العروبَةِ، تَرَاجَعَتْ إلى مَنْطِقةِ المُسْتحِيْلِ.

مَا كَادَ ذَوو البَصَائِرِ النَّيرَةِ يُفيقُونَ منْ هَوْلِ الصَّدمَةِ، حتَّى دَهَمَتْهُمْ سِلْسَلةٌ منْ الصَّدَمَاتِ المُروِّعَةٌ؛ بانْهِيَارِ الاتِّحادِ السُّوفيتيِّ، وَسُقوطِ النَّظريَّاتِ الَّتي دَاعَبَتْ أحْلامَ الجيَاعِ والمَحْرُوميْنَ، في العَالمِ النَّامِي لسَنَوَاتٍ طَويلةٍ.

أصْبَحَ العاَلمُ كلُّهُ في مِحْنَةٍ، سَادتْهُ مَوْجَاتٌ منْ التَّحلُّلِ والتَّفكُّكِ والرَّغبَةِ الجنونيَّةِ في مُرَاجَعَةِ كلِّ الثَّوابتِ، وإعَادَةِ النَّظرِ حتَّى في البديهيَّاتِ، ومُحَاولة الانعِتاقِ حتَّى منْ الأعْرَاقِ، والثَّورَة على الهُويَّاتِ، بَدَا أنَّ العَالَمَ كلَّهُ لمْ يَعُدْ مَعْنيًّا بأُمورِ البناءِ والتَّخطِيْطِ للمُسْتقبَلِ، والتَّكريسِ لحَضَارَاتٍ جديدَةٍ، بقَدْرِ مَا يعنيْهِ إفناءُ الذَّات في غرَامِ اللحظَةِ المُوَاتيَةِ، والعَبّ منْ الحَيَاةِ بأيِّ قدْرٍ مُمْكِنٍ.

بدَا كأنَّ الفلسَفاتِ العَدميَّةَ والعبثيَّةَ، الَّتي اجْتاحَتْ أُوربا في أوَاسِطِ هذا القرْنِ، ومَا تبعتهَا منْ تيَّارَاتٍ ومذاهِبَ فنيَّةٍ تذرَّعَتْ بالحَدَاثةِ تارَةً، وبأزمَةِ الإنسَانِ المُعَاصِرِ تارةً أخْرَى، قدْ جفَّتْ وَبَانَتْ جُذورُهَا الضَّاربَةُ في عُمْقَِ الخوَاءِ الإنسَانيِّ؛ النَّاتجِ عنْ إفلاسِ الحَضَارَةِ الغربيَّةِ.

أصْبَحَتْ هُنَا وَهُنَاكَ رغبَةٌ جَامِحَةٌ، في الرَّفضِ المُطلَقِ لكلِّ مَا هُو مَعْروفٌ مَألوفٌ، وهيَ رغبَةٌ ظاهِرَةٌ، تعْكِسُ رغبَةً دفينَةً، في البَحْثِ عنْ هُويَّةٍ إنسَانيَّةٍ جديدَةٍ.

وَسْطَ هذِهِ الأنقاضِ المُرَوِّعةِ، وُلِدَتْ قصَائدُ دِيوَانِ: “عُزْلة الأنقاضِ”، للشَّاعرِ شريف رزق؛ لِتَعْكِسَ المُقابلَ الشُّعوريَّ للانْهِيَارَاتِ الفادِحَةِ، وترْصُدُ مَعَالِمَ عَالَمٍ منْ الأنْقاضِ، نَرَى فيْهِ الأوْضَاعَ مقلوبَةً والصّورَ معكوسَةً؛ فالأوْضَاعُ والصُّورُ وَوِجْدَانُ الشَّاعرِ، كلُّ ذلكَ انْعِكاسٌ لمَرَايَا مُهَشَّمَةٍ، وأُفقٍ مُضبَّبٍ، وكمَائنَ شيطانيَّةٍ؛ تشِي بأخيلةٍ جُهنميَّةٍ عَارمَةٍ، والشَّاعرُ الَّذي جَاءَ يُدحْرِجُ الخَرَابَ، ويكنُسُ العتمَةَ، يُقرِّرُ الخُرُوجَ وَحْدَهُ، هذا المَسَاءَ، من دمِهِ؛ ليشْهَدَ الصَّدعَ الأخِيْرَ.

يرَى النُّجومَ مَوَائدَ فِضَّةٍ، صَرْخَةُ البَرْقِ ألقَتْ بِهِ في المَرْفَأ، وَأعْضَاؤهُ تَصْهَلُ في الشِّتاتِ، يشهَدُ السُّقوطَ، يفتحُ للزَّوابعِ وللشَّظايَا صَدْرهِ، تَصْرُخُ الذَّبيحةُ في جُرْحِهِ، والقَتْلَى يَذْرَعُونَ المَدَى، والغُبارُ في العَتْمَةِ، يرْشَحُ بالفِضَّةِ في قبرٍ يتفيَّاُ المارةَ، فيسْتوعبُهُ المَشْهَدُ، والأشْجَارُ تذْرَعُ الهَوَاءَ، والطَّرائدُ تَسْتدرِجُ المَرَاعِي، يشعُرُ كأنَّ أعْضَاءَهُ هيَ الَّتي تدفعُ التَّوابيتَ في الهَوَاءِ، وأنَّ هذِهِ السَّحابةَ جُثَّته تتفصَّدُ كائناتٍ وأنقاضًا، يتسمَّعُ القرقعَاتِ منْ بَهْوِ صَدْرِهِ، وإذْ يُطْلِقُ صَيْحَتَهُ الأليمَةَ: زَحْزِحِي مَوْتكِ عنْ سَاحَةِ صَدْرِي إذًا يَا أُمَّاهُ قليلاً، يبدو لنَا الشَّاعرُ كأنَّه النَّفَسُ الأخِيرُ الوحيدُ تحتَ رُكامِ هذه الأنقاضِ، قد انْهَارَتْ البلادُ كلُّهَا فوقَ صَدْرِهِ، مَوْتُ أمِّهِ المُتمثِّلِ في هذِهِ الأنقاضِِ رَغْمَ ثقلِهَا الذي يُمِيْتُهُ، أمَامَه مُسْتنقَعٌ وكِلابٌ ضَالةٌ وصَهِيْلٌ، وَالمَدَى غَمَامَةٌ يشتعِلُ فيْهَا النَّخيلُ؛ لكنَّهُ – وقدْ عَرَّى جثَّةَ الليْلِ، ورَأى خَلْفَ كلِّ صَرْخَةٍ فَضَاء – سَيُرتِّبُ هذِهِ الانْهِيَارَاتِ ترتيبًا آخَرَ. صِرَاعٌ مُتواصِلٌ مَعَ الغُبَارِ، والشِّراكِ الخَفيَّةِ، وعَرَبَاتِ نقلِ الجُثَثِ، والرِّيحِ الحَمْرَاءِ، والبَرْقِ الَّذي يخترقُ جَسَدهُ، والزَّوابِعُ الَّتي تُطلِقُهَا أُوركِسْترَا في الجُثَّةِ المَفتوحَةِ، وهكذا لمْ يَعُدْ السَّالكُ في الغُبارِ يُميِّزُ- في ضَرَاوةِ المَشْهَدِ- بيْنَ القاتلِ والقتيْلِ، تتفجَّرُ الأنْقاضِ في جَسَدِهِ:

وَحْدِي

سَأخْرُجُ، منْ دَمِي

، هَذَا المَسَاءَ

وَأشْهَدُ الصَّدعَ الأخِيْرَ.

25 / 6 / 93

 

النُّجومُ، لو تَشْهَدِيْنَ، مَوَائدُ فِضَّةْ.

25 / 6 / 93 

 

تَصْهَلُ أعْضَائِي

في الشِّتَاتِ.

25 / 6 / 93

 

لعلَّهَا أعْضَائِي

هذِهِ الَّتي تَدْفَعُ التَّوَابيْتَ

في الهَوَاءِ.

25 / 6 / 93 

 

هذِهِ السَّحَابَةُ جُثَّتِي

تتفصَّدُ كَائنَاتٍ وَأنْقاضٍ.

25 / 6 / 93

 

أتسَمَّعُ القَرْقَعَاتِ

منْ بَهْوِ صَدْرِي.

25 / 6 / 93

 

هَا أنَذَا أُعَرِّيكِ يَا جُثَّةَ الليْلِ.

25 / 6 / 93

 

خَلْفَ كُلِّ صَرْخَةٍ فَضَاءٍ.

25 / 6 / 93

 

سَأُرتِّبُ هذِهِ الانْهِيَارَاتِ ترتيبًا آخَرَ.

25 / 6 / 93

 

لِلْحِصَانِ، إذْ يَخْرٍِقُ الجِدَارَ

ويتبَعُ رَائِحَةَ الدَّمِ.

25 / 6 / 93

 

لِلْمَهْزُومِيْنَ، وَهُمْ يعودُونَ – مِنْ دُونِهِمْ –

، في شرودٍ الطَّريقِ، مُكلَّلِينَ

بالصَّمْتِ وبالغُبَارِ.

25 / 6 / 93

 

هَكَذَا،

كبَرَابرَةٍ يفرُّونَ بالكُنوزِ

تندفِعُ المَشَاهِدُ في رَأْسِي

وَتَذُوبْ.

25 / 6 / 93

إنَّهَا ثورَةُ الأنقاضِ في وِجْدَانِ الشَّاعرِ؛ الَّذي نَمَا وَسْطَ الانْهيارَاتِ المُتواليَةِ المُترَادِفَةِ؛ فتقوَّضتْ فيْهِ كلُّ الأبنيَةِ؛ لكنَّهُ لا ينِي يتكشَّفُ بيْنَ الأنقاضِ بُقعًا منْ الضَّوءِ، وَالأشْيَاءِ التَّعيسَةِ، والأَصْبِحَةِ الخَضْرَاءِ، لقدْ نَذَرَ الشَّاعِرُ أنْ يُدَحْرِجَ الخَرَابَ، ويكْنُسُ العَتمَةَ؛ باسْتِشْرَافِ رُؤيَةٍ جديدَةٍ لِلْمُسْقبَلِ، تتخطَّي مَشَاهِدَ الخَرَابِ والهَدْمِ والأنقاضِ؛ إذْ لابُدَّ للقيامَةِ أنْ تقومَ في لحْظَةٍ وَشِيْكَةٍ.

ليْسَ غريبًا أنْ تنتشِرَ في هَذَا الدِّيوَانِ مُفرَدَاتُ الخَرَابِ والغُبَارِ والعَتْمَةِ والجُثثِ وفُوَّهَاتِ القُبورِ والبروقِ والنِّيرَانِ والدَّمِ والهَزِيمَةِ والشِّراكِ والرِّياحِ والزَّوابعِ والعُري والصَّرخَاتِ.. تلكَ هِيَ المُقابِلاتُ للأنقاضِ، وبعُزْلةِ الأنقاضِ يَنْجَلِي الأفقُ المُعبَّأُ بالضَّبابِ.

ويتَّخِذُ القصِيْدُ بناءً شَذَرِيًّا، يقومُ على شَكْلِ شَذَرَاتٍ مُؤرَّخَةٍ؛ أشبَهِ بيوميَّاتِ جنديٍّ في المَيْدَانِ، يختلِسُ لُحَيْظَاتٍ عَابرَةً، يُدوِّنُ فيْهَا أشيَاءَ مُروِّعَةً؛ ليُسَجِّلَ لَحَظَاتِ تأرْجُحِهِ في فكيْ الخَطَرِ بيْنَ المَوْتِ المُحَقَّقِ وَعَوْدَةِ الحَيَاةِ.

هِيَ شَذَرَاتٌ أشْبَه بالشَّظايا؛ لكأنَّهَا هيَ الأخْرَى أنقاضٌ، أوْ لعلَّهَا مَا تمَّ عزلُهُ منْ الأنقاضِ؛ فلَرُبَّمَا أمْكَنَ اسْتِخْدَامُ هذِهِ الأنقاضِ في أبنيَةٍ شِعريَّةٍ جديدَةٍ، إذَا مَا أمْكَنَ إعَادة بناءِ الوَاقعِ منْ عُزْلةِ هذِهِ الأنقاضِ.

 

(يوليو 1994)

 

“جريدة: القدس العربي- لندن- 1من سبتمبر 1994”

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم